أحمد عسيلي
لكل شعب من شعوب العالم هوية محددة، غالبًا متخيلة، شكّلها هذا الشعب عن ذاته، يُلصق بهذه الهوية في مرحلة لاحقة، مجموعة من الأفكار، التي تشكلّها بقية الشعوب أيضًا عن هذا الشعب، والتي تتحول مع الزمن إلى “كليشيه”، أي أفكار نمطية حول هذه المجموعة من الناس، قد لا تكون صحيحة كلها، بعضها مبالغ به، بل أحيانًا تكون معكوسة، لكنها تعكس تهيؤات بقية الأمم عن هذا الشعب، وفي كثير من الأحيان يصعب تغيير هذه التصورات لأننا لا نرغب في تغييرها، أو لأن تغييرها قد يسبب لنا اضطرابات في هويتنا ذاتها.
ربما أشيع مثال عن ذلك، هو وصف بعض المتطرفين في بعض الدول العربية لشعوب الخليج بأنهم “عربان ومتخلفون”، مع أن التطورات التي حدثت في هذه البلدان شيء مذهل، وتدل على عقلية فذة، ليس فقط على مستوى العمران، بل في التنظيم والإدارة، مما يدل على إرادة وعمل دؤوب، لكن تغيير هذه الفكرة، سيلحق بها إجبار المتطرفين على القبول بحالة التردي التي وصلت إليها بلدانهم، وأنهم لم يعودوا مركزًا للثقافة العربية، وهو ما لا يمكن تحمله لدى البعض.
أيضًا من الأفكار النمطية، دقة الغربيين في الالتزام بالمواعيد في كل مناحي الحياة، هي فكرة نمطية غير موجودة، فإلغاء مواعيد القطارات والمترو وتأخره، حتى في المطارات، شيء لافت في دول الغرب، حتى في أكثرها تطورًا كدولة مثل كندا، لكن هذه الفكرة عززت كي نعتقد أن الغربيين كائنات فوق بشرية، وبالتالي فإن ديمقراطيتهم وتحضرهم بعيد المنال عنا نحن “الشعوب المتخلفة”.
تلعب تصورات المجتمع عن ذاته نفس الدور الذي تلعبه تلك التصورات عند الإنسان، فحين تزيد الثقة في النفس والقدرات لدى الطفل، ستخلق لنا إنسانًا ناجحًا ومستقرًا نفسيًا، وقوي الشخصية، والعكس بالعكس، لذلك فإن أهم مبادى وأسس التربية، عدم وصف الطفل بالفاشل والغبي، فتكرار هذا الوصف أمام سمعه، سيشكل عاملًا قاتلًا لكل مواهبه وقدراته، لأننا هنا ساعدنا على تشكيل تصور سلبي لهذا الطفل عن ذاته، وبالتالي سيصعب عليه كثيرًا التغلب على مصاعب الحياة لاحقًا، هذا الأمر يؤثر في الشاب أيضًا، لكن بدرجة أقل، خاصة لمن تشكلت شخصيته سابقًا وامتلك ثقة بالنفس، حينها يصعب تدمير هذه الثقة (لكنها ستتأثر في حالة التكرار والفشل لو حدث)، بنفس الآلية، تلعب صور المجتمع عن ذاته، سواء في أعينه أو أعين غيره، دورًا كبيرًا في الحالة العامة لهذا المجتمع، وقدراته على التغلب على المصاعب التي تواجهه.
والسؤال الآن: ما صورة المجتمع السوري عن ذاته؟
أعتذر هنا مقدمًا عما سأذكره، لكنّ جملًا مثل “شعب متخلف”، “أناني”، “خمول”، “ما بيمشي إلا بالعصا”، شكّلت لسنين طويلة تصور المجتمع السوري عن ذاته، رغم كل الأدلة العملية تؤيد عكس ذلك، لكن دومًا كانت هناك ماكينة إعلامية تلعب دورًا كبيرًا في احتفاظ هذا المجتمع بهذا التصور، كي تضعفه وتشل قدرته على الحركة، فالسوريون حين لجؤوا إلى مصر، شكّلوا حركة تجارية وصناعية قوية، بدأ معظمهم من الصفر، وانطلقوا ليؤسسوا أعمالًا مستقرة، واستطاعوا تأسيس علاقات قوية مع هذا المجتمع (وهو بدوره قابل لهذه العلاقات وأظهر انفتاحًا على هذا القادم الجديد)، وحتى في ألمانيا، استطاع السوريون تشكيل مجتمع ووجود قوي. طبعًا هناك الكثير من المجتمعات التي حققت النجاح ذاته، ولا أتحدث هنا أبدًا عن فروقات وتفضيل، لكن عن صورة المجتمع في مرآة ذاته، وهذا النجاح لم يكن تجاريًا فقط، بل وسياسيًا أيضًا، فالكثير من السوريين أسهموا في الحراك السياسي والحزبي في بلدان اللجوء، واستطاعوا التأثير في مجتمعاتهم الجديدة، لكن رغم ذلك، لم تتغير هذه الصورة بأنه مجتمع فاشل، وغير قادر على بناء الدول والمؤسسات، وأنه بحاجة دومًا لغيره كي يستطيع إدارة شؤون ذاته.
ثم جاء التحرير، وإسقاط نظام الأسد، تحرير جاء بيد وطنية تمامًا، من أعلى هرم قيادات الجيش حتى قاعدته (لم نرَ عناصر غير سوريين إلا في بعض صفحات بروباغندا النظام) وحتى الفريق الإعلامي المرافق له، كلهم سوريون تمامًا.
وفي اللحظة الأهم، والأكثر صعوبة في أي تغيير ثوري، في الأيام الأولى لما بعد السقوط ولحظة الفراغ في السلطة، ظهرت قدرات وإمكانيات رهيبة، من القدرة على حفظ السلم، ونشر عناصر الجيش والشرطة الجديدة لتحل محل العناصر القديمة، والقدرة على الاحتفاظ بمن يمكن الاحتفاظ به من النظام السابق، وشغل مكان من لا يمكن الاحتفاظ به، وأيضًا طريقة تعامل بعض أتباع النظام السابق، خاصة رئيس الوزراء، مع التغيرات الجديدة، وطريقة تعامل المنتصرين معه أيضًا وتسليم الحكم بكل مسؤولية، ويضاف إلى ذلك طريقة مخاطبة مسؤولي الفصائل مع المجتمع المحلي، وطريقة تعامل كل مجتمع محلي مع النظام الجديد (ربما نخصص مادة لاحقة لدراسة أساليب الخطاب هذه، فهي لوحدها تشكل مادة خصبة لفهم العقلية السورية).
هذا الانتقال للسلطة يعكس رقي وإمكانيات كبيرة لدى الشعب، وربما لا يشذ عنه سوى طريقة الهروب اللامسؤولة لرأس النظام وبعض أعوانه (هم فعلًا حالة شاذة وغريبة على المجتمع السوري)، وقد بدا هذا الانتقال السلس وكأنه ناتج عن عملية ديمقراطية، وليس عن انتصار ثورة مسلحة حملت كل هذا العنف على مدار 13 سنة.
هذا كله لا ينفي حدوث بعض الأخطاء هنا وهناك، لكن الخطأ جزء من الفعل البشري، ولا يمكن تحقيق فعل مثالي 100%، ويبقى المشهد العام غاية في الرقي، ويعكس قدرات جبارة لم نكن نتصور أننا نمتلكها.
فهل يمكن بعد كل هذا أن نردد هذه الأقوال عن ذاتنا، بأننا مجتمع فاشل وغير قادر على بناء الدول والمؤسسات؟
انهيار الجيوش والمؤسسات وقيام الشعب بشكل سريع ببنائها ليس حالة نادرة في التاريخ، فمع انهيار الجيش النازي شهد المجتمع الألماني حالة مشابهة، وفعلًا حقق إنجازات جبارة، أيضًا في اليابان حدث نفس الأمر، لكن في الحالة السورية نتحدث عن حالة خاصة، وهي انهيار دولة قمعية مرتبطة بكل مؤسساتها بالنظام منذ أكثر من نصف قرن.
لا نعلم بالتأكيد ما ستؤول إليه الأمور، فالصعوبات كبيرة، والعوائق كثيرة داخليًا وخارجيًا، لكن لحظة التحرير ستبقى فارقة في الوجدان السوري، على قدرة هذا الشعب على تشغيل مؤسساته، والحفاظ على أمنه بعد انهيار نظامه الوحشي، الذي كان يروج أنه هو من يحمي الشعب من قتل بعضه البعض، وأن مخابراته العنيفة هي من تقف سدًا في وجه بشر متوحشين يريدون القيام بمجازر ضد بعضهم، ليكتشف الشعب لاحقًا أن المجازر هي أخلاق النظام وحده، وأن رغبة وإرادة بقية الناس هي في دولة مؤسسات.
لحظة الحقيقة تظهر أمام لحظات الانعطاف التاريخية، وحقيقة السوريين ظهرت في هذه اللحظة، وهي الهوية التي يجب أن يتمسك بها السوريون عن أنفسهم وذاتهم، ويجب طرد جميع بديهيات النظام التي حاول زرعها في أدمغتنا منذ عشرات السنين.