بينها الصدمة و"عقدة الناجي"
آثار نفسية لمشاهد زنازين الموت في سوريا
عنب بلدي – نوران السمان
في 8 من كانون الأول الحالي، بعد سقوط النظام السوري، وسيطرة فصائل المعارضة على مناطق واسعة في سوريا، بما في ذلك السجون، خرج المئات من المعتقلين الذين قضى بعضهم أكثر من عقد داخل زنازين النظام، فيما انتشرت مقاطع مصورة توثق المشاهد القاسية داخل تلك السجون على منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الأخبار، لتسلط الضوء على الفظائع المرتكبة، خاصة في سجن “صيدنايا”.
المشاهد الصادمة لم تعكس فقط المعاناة التي عاشها المعتقلون داخل هذه الزنازين، بل فتحت جروحًا نفسية عميقة للمشاهدين الذين تابعوا تلك الفيديوهات، سواء كانوا من ضحايا النزاع أو من المهتمين بالجانب الإنساني للمأساة السورية.
آثار نفسية
أوضح استشاري الطب النفسي الدكتور ملهم الحراكي، أن مشاهدة الفيديوهات التي توثق التعذيب والانتهاكات في سجون النظام السوري، مثل سجن “صيدنايا”، تسبب تأثيرات نفسية عميقة تختلف من شخص إلى آخر، تتراوح بين الصدمة والغضب إلى حالات من القلق والهلع.
بتول شابة من مدينة حلب، قالت إن الفضول دفعها لمشاهدة المقاطع المصوّرة، “كنت أتابع الفيديوهات لأحاول فهم ما عاشوه، لكني لم أستطع المتابعة”.
واجتاح بتول الغضب والحقد، وتساءلت “كيف يمكن لسوري أن يُلحق كل هذا الظلم بأخيه؟”.
قالت بتول، إن صحتها النفسية تأثرت بشدة، “حتى جسدي أصبح ثقيلًا من المشاعر السلبية”، وتوقفت عن المشاهدة لتجنب المزيد من الألم.
“الصدمة والقلق”
الاستشاري الحراكي ذكر لعنب بلدي أن هذه المشاهد تنقل صورًا مرعبة وغير مألوفة للذاكرة تجعلها عاجزة عن معالجتها بسهولة، ما يؤثر على وظائف الإنسان اليومية، ويصل في بعض الحالات إلى تعطيل وظيفي، حيث يعجز البعض عن أداء مهامهم اليومية الأساسية، مثل تعطل الأب عن العمل أو عجز الأم عن أداء واجباتها الأسرية.
وأضاف أن الأشخاص الحساسين أو من لديهم ذكريات صادمة يكونون الأكثر تأثرًا، وتتجدد لديهم مشاعر الصدمة والقلق، ما يؤدي إلى تدهور في حالتهم المزاجية.
وبعض الأفراد يصابون بحالة من الحزن الشديد أو مشاعر العجز التي تسيطر عليهم لفترات طويلة، بحسب الحراكي.
“عقدة الناجي” تلازم بعض السوريين
فاطمة، من مدينة حمص، قرأت عن الفظائع في السجون قبل أن تشاهد الفيديوهات، وقالت إن “المعرفة بما حدث كانت كافية لإصابتي بالاكتئاب، فما بالك بالمشاهدة المباشرة. كانت تجربة قاسية جدًا، ورغم الفرحة بانتصار الثورة، فإنها دائمًا ما كانت مشوبة بمشاهد القسوة التي عاناها المعتقلون”.
استشاري الطب النفسي يرى أن هذه الفيديوهات، رغم أهميتها كأدلة جنائية وقانونية توثق الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، فإنها “تثقل الذاكرة وتؤثر على تصورات الإنسان ومعتقداته”.
وبحسب الحراكي، فإن بعض الأشخاص يدخلون في حالة تُعرف بـ”عقدة الناجي”، حيث يشعرون بالذنب لأنهم لم يعانوا نفس المصير الذي تعرض له الضحايا.
كذلك، “تهتز المعتقدات” الراسخة لدى البعض بسبب التساؤلات العميقة عن العدالة الإلهية أو الإنسانية.
وتعرف “عقدة الناجي” بأنها حالة نفسية تصيب الأشخاص الذين نجوا من مواقف صعبة أو كوارث مدمرة، مثل الحروب والإبادة الجماعية أو الكوارث الطبيعية.
ويشعر الناجون بالذنب تجاه بقائهم على قيد الحياة بينما فقد آخرون حياتهم، خاصة إذا كانوا يعرفون هؤلاء الأشخاص بشكل مباشر.
وتتجلى هذه الحالة في مشاعر حزن عميق، ولوم للذات، وحتى الإحساس بعدم استحقاق الحياة أو السعادة.
بالنسبة للسوريين، ومع امتداد الصراع لعقد من الزمن، أصبح مفهوم “عقدة الناجي” جزءًا من التجربة النفسية للكثيرين، فمع سقوط مئات الآلاف من الضحايا وفقدان آخرين تحت الأنقاض أو في السجون، وجد الناجون أنفسهم أمام واقع نفسي معقد.
يعيش بعض السوريين حياة خارج سوريا أو في مناطق أكثر أمانًا داخل البلاد، بينما لا يزال أحباؤهم وأصدقاؤهم يعانون أو فقدوا حياتهم.
المجتمع السوري في اتجاه واحد
على مستوى المجتمع السوري، يرى الحراكي أن لهذه المشاهد “تأثيرات مزدوجة”، وتأخذ الناس باتجاه واحد و”نحن الآن بهذا الاتجاه”، فمن جهة، تُرسخ هذه الصور “قناعة المجتمع بأن الثورة السورية كانت محقة”، وتؤدي إلى اصطفاف أوسع من السوريين ضد النظام “الوحشي”، بمن في ذلك من كانوا في موقف رمادي أو حتى مؤيدين سابقًا.
وقال إن هذه الفيديوهات “تقدم معلومة لكن لا داعي من ناحية أخرى أن نتابعها بتفاصيلها، نأخذ نبذة عنها فقط”.
من جهة أخرى، يرى الحراكي أن هذه المشاهد كانت ستنشر مشاعر العجز والخوف بين شرائح واسعة من الشعب، لو أن النظام لم يسقط، والتسريبات من داخل السجون توحي برسالة ضمنية من السجّان مفادها “أي محاولة مشابهة ستواجه عواقب وخيمة”.
وليد، شاب شهد الكثير من الروايات المؤلمة عن المعتقلين، قال إن “الفضول لمعرفة ما يجري داخل السجون كان دافعًا قويًا لمتابعة تلك الفيديوهات، حتى أظل متذكرًا ما فعله نظام الأسد”.
ورغم ذلك، فإن متابعة تلك الفيديوهات لم تكن سهلة بالنسبة لوليد، “رأيت شهادات مباشرة عن أهوال السجون، شعرت بالعجز، والاكتئاب جعلني عاجزًا عن النوم، فتوقفت عن المشاهدة لفترة، لكن الفضول كان أقوى، أردت ألا أنسى الظلم، رغم الألم”.
وأضاف، “عندما انتصرنا، كانت فرحتي منقوصة، لم أستطع أن أنسى أولئك الذين كانوا عالقين في ظلام الزنازين”.
ويعتبر وليد أن الفيديوهات مهمة للتوثيق، ولإبقاء “الذاكرة حيّة”، كي لا ننسى الجرائم ولكي يُحاسب كل من أسهم في ظلم هؤلاء.
تحفيز لكن بحذر
نصح الدكتور الحراكي بضرورة التعامل مع هذه الفيديوهات بحذر، مشددًا على أهمية استخدامها كأداة لتحفيز الهمة والنشاط لخدمة المجتمع، وليس لمجرد الفضول أو الإثارة.
أكد الطبيب النفسي أن المعلومات مهمة جدًا للعقل ليتأكد يقينًا أن الفساد والظلم لا يمكن السكوت عنه.
كما شدد على أهمية أن تكون هذه المشاهد دافعًا للتمسك بمبادئ العدالة ورفض الظلم والفساد، خاصة في مرحلة ما بعد سقوط النظام وانتصار الثورة السورية.
ولفت إلى أن المعلومات المستمدة من هذه الفيديوهات “يجب أن تُوظف لبناء مجتمع سوري أقوى، يرفض الظلم ويعمل على منع تكرار هذه المآسي”.
ووفق تقرير بعنوان “تأثير الصراع السوري” الصادر عن “المركز السوري لبحوث السياسات” في عام 2020، فإن تفاقم الظلم هو السبب الجذري للصراع السوري، وكذلك الإقصاء السياسي وانتهاكات الحقوق المدنية، كما أدى الافتقار إلى المساءلة واستخدام القوة إلى “تآكل صوت المواطنين وتمثيلهم”.
وتشير التقديرات العلمية إلى أن نحو 10% من سكان العالم يعانون أحد أشكال الاضطرابات النفسية.
ووفق منظمة الصحة العالمية، يعاني 5% من البالغين حول العالم من الاكتئاب الذي يعد اضطرابًا نفسيًا شائعًا.
فيما أشار تقرير لمنظمة الصحة العالمية صدر في 2020، إلى أن 75% من الأشخاص في سوريا يعانون من أمراض نفسية ولا يتلقون أي علاج.
وبحسب دراسة أصدرتها منظمة الصحة العالمية ومجلة “لانسيت” الطبية في عام 2019، حول الصحة العقلية في المناطق المتأثرة بالنزاعات، فإن شخصًا واحدًا من بين كل خمسة أشخاص ممن يعيشون في مناطق متأثرة بالنزاعات يعاني أحد أشكال الاضطراب النفسي، بما فيها القلق والاكتئاب والفصام.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :