تهافت عدد من الناشطين السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام العربية إلى مواقع لمقابر جماعية معروفة في سوريا، وانتشرت من هناك تسجيلات مصورة تظهر نبش المقابر والعبث بالجثث المدفونة.
نشر هذه التسجيلات جعل عددًا من أهالي المختفيين والمفقودين ممن لم يتمكنوا من معرفة مصير ذويهم بعد، يصل إلى عدد من المواقع بدافع نبش المقابر والبحث عن ذويهم عن طريق التعرف إليهم من لباسهم أو ملامحهم.
تحركات سلطات الأمر الواقع أو المنظمات الدولية والأممية أو المحلية بدت شبه غائبة عن هذا الملف، إذ لم يُمنع دخول الإعلاميين أو الناشطين إلى مواقع المقابر الجماعية، ولا يزال الأهالي يصلون إلى الأماكن، دون أي جدوى من عملية البحث غير المنظمة والتي لا تستند إلى أي منهجية علمية أو طبية.
انتهاك لمسرح الجريمة يضيع الحقيقة
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، قال إن العبث بهذا الشكل بمواقع المقابر الجماعية في سوريا يعد انتهاكًا لمسرح الجريمة وطمسًا للأدلة، ويصعب مهمة الباحثين عن المفقودين والمختصين المسؤولين عن تحديد هويات الضحايا الموجودة ضمن هذه المقابر.
وأضاف محمد العبد الله، في حديث إلى عنب بلدي، أنه عادة ما يرافق عملية استخراج المقابر الجماعية عملية تحقيق طب شرعي وجنائي، ويجري في هذه العملية فصل الجثث عن بعضها وتحديد هويتها الجنسية، رسم سياق المقبرة الجماعية، طول الشخص المدفون فيها عبر قياس عظم الفخذ، فضلًا عن أسباب الوفاة (يدين مقيدة، يدين للخلف، طلق ناري في الرأس).
لذلك فإن عملية نبش المقابر بطريقة غير علمية ودون خبرة، تؤدي إلى ضياع معالم الجريمة ويصعب مهمة الباحثين عن الأدلة لمحاولة معرفة هوية الجثث.
وأكد العبد الله، أن مجرد فصل العظام عن بعضها بين هذه الجثث دون خلطها عملية شاقة وصعبة، ويتداخل عملها بين المختصين بالطب الشرعي وبين الأطباء، لذا قد يؤدي نبش المقبرة واستخراج العظام دون خبرة إلى تدمير هذه الأدلة، ويحرمنا من فرصة التعرف على هوية هؤلاء الأشخاص.
الخبير الجنائي المحلّف والعامل في دائرة الطب الشرعي في مدينة اعزاز بريف حلب الطبيب محمد كحيل، أكد أيضًا أن نبش المقابر الجماعية سيؤدي إلى تغيير في ملامح الجثث ما قد يسبب عدم إمكانية التعرف عليها، وبالتالي أدلة غير قطعية وغير ثابتة للكشف عن هوية الضحايا.
نبش المقابر الجماعية والعبث بها بهذا الشكل، قد يجبر المختصين على اللجوء إلى أمرين غير متوفرين أساسًا، أولهما إجراء فحص “DNA” لتحديد هوية الجثث الأمر غير المتاح اليوم في سوريا لأنه مكلف ومعقد وليس هناك أي جهة حكومية تقوم به، أو عبر إخراج عينات من الجثث وتحليلها خارج سوريا، العملية التي تعد شاقة جدًا ومكلفة وفيها مخاطر ضياع هذه العينات.
لعب على المشاعر
مدير “الدفاع المدني السوري”، رائد الصالح، أكد أن فتح المقابر الجماعية بشكل عشوائي يمكن أن يؤدي لخلط العظام وبالتالي يصعب مهمة المختصين في تحديد عمر المقبرة وهوية الجثث، ويصعب مهمة المؤسسات لاحقًا على تحقيق العدالة للضحايا.
ويرى الصالح، في حديث إلى عنب بلدي، أن هذا الأمر سيؤثر سلبًا على مشاعر وعواطف عائلات المفقودين التي ستكون أول المتهافتين على مواقع المقابر الجماعية، معتبرًا أن اللوم اليوم يقع على الأشخاص الذين يعلنون عن اكتشاف مواقع لمقابر، منهم ناشطون وإعلاميون، يذكرون مواقع وأرقام عشوائية حول عدد المدفونين.
حماية مسلحة.. منع الإعلام
حول الإجراءات الواجب اتباعها اليوم في ظل الفوضى التي يشهدها ملف المقابر الجماعية في سوريا، قال الحقوقي محمد العبد الله، إنه يجب على سلطات الأمر الواقع الموجودة اليوم تأمين حماية لهذه المقابر حتى لو اضطر الأمر لتكون حماية مسلحة، وإحاطة هذه المقابر بسياج شائك أو حتى شريط يمنع الاقتراب منها، فضلًا عن منع نشر مواقعها.
وأوضح العبد الله، أنه يجب منع تغطية وسائل الإعلام أو الناشطين لمواقع المقابر بهذه الطريقة، مؤكدًا أن أكثر من ناشط أو محطة إعلامية يصورون عملية نبش المقابر بشكل مباشر، الأمر الذي ينتهك حرمة الجثث والضحايا من جهة، ويحرض الناس على الذهاب إلى الموقع ونبش المقابر.
ليس هناك أي جدوى اليوم من نبش المقابر الجماعية دون إجراء التحقيق العلمي المرفوق بعملية الاستخراج، ما يحدث اليوم يمكن أن يدمر هذه الأدلة.
الحقوقي محمد العبد الله |
الحقوقي محمد العبد الله أكد أنه يجب عدم فتح هذه المقابر وعدم الاقتراب منها دون تشكيل إما هيئة وطنية للبحث عن المفقودين يكون من ضمن مهامها فتح المقابر الجماعية، أو البدء بعمل منظم يتبع لوزارة العدل كما حدث في العراق وأربيل وإقليم كردستان العراق.
“الدفاع المدني”: لا كوادر كافية
قبل أيام نشر فريق “الدفاع المدني السوري” توعية مجموعة توصيات حول التغطية الإعلامية للمقابر الجماعية، جراء ما يجري نشره على وسائل التواصل الاجتماعي من تسجيلات مصورة من هذه المواقع، وذلك نظرًا لحساسية الموضوع وتأثيره الإنساني والنفسي والاجتماعي والحقوقي.
حول مدى قدرة “الدفاع المدني” على حماية هذه المقابر، أوضح مدير الفريق، رائد الصالح، أن الفريق لا يمكنه العمل على حماية هذه المواقع حاليًا لعدة أسباب أبرزها عدم وجود موارد كافية لديه منها بشرية، ووجود أولويات ملحة لديه للحفاظ على حياة الأشخاص من خلال فرق الإنقاذ والإسعاف والإطفاء.
ويعمل الفريق حاليًا بنفس عدد العاملين الذين كانوا يعملون في شمال غربي سوريا، وهو بانتظار المانحين لزيادة الموارد البشرية لتغطية المهمات الملحة في عموم الجغرافيا السورية.
لا يوجد عدد كامل لعدد المقابر الجماعية في سوريا، وفي تحقيق نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، بالتعاون مع “رابطة المعتقلين والمفقودين في سجن صيدنايا”، استطاعت من خلال شهود، تحديد موقع مقبرتين جماعيتين، يتوقع أنهما تحويان آلاف الجثث لسوريين تعرضوا للاعتقال.
وكشف أحد الشهود الذي كان يعمل قبل 2011 بدفن المدنيين، ولاحقًا جنده ضباط المخابرات للتخلص من الجثث القادمة من مراكز الاحتجاز، واستمر بهذا العمل لمدة ست سنوات، أن أول مقبرة عمل فيها منذ منتصف 2011 حتى أوائل 2013، كانت موجودة في بلدة نجها جنوب دمشق.
وفي أوائل عام 2013، أنشأ النظام مقبرة جماعية جديدة بالقرب من قاعدة للجيش السوري في بلدة القطيفة شمال دمشق، حسب أقواله، مضيفًا أنه في بعض الأوقات خلال السنوات الست التي عمل فيها في المقابر الجماعية، كان فريقه يفرغ شاحنتين حوالي مرتين في الأسبوع، تحمل كل منهما ما بين 150 إلى 600 جثة.