بعد إفراغ المعتقلات
مصير مجهول لآلاف المختفين قسرًا
عنب بلدي – جنى العيسى
فقدت حياة العيسى ولدها البكر وعمره 22 عامًا مع مجموعة مدنيين وصل عددهم إلى نحو 2500 شخص خرجوا من مناطق حاصرها النظام لعدة أشهر متواصلة في ريف دمشق، دون أن تستطيع أن تعرف مصيره إلى اليوم.
حال السيدة كحال عشرات آلاف الأمهات السوريات، ممن لم يعرفن مصير أولادهن الذي اعتقلوا وغيّبوا قسرًا في سجون النظام السوري المخلوع.
ورغم إفراغ المعارضة السورية للسجون والمعتقلات عقب هروب الرئيس المخلوع، بشار الأسد، لم تستطع آلاف العائلات معرفة مصير أبنائها المختفين قسرًا، رغم أن ما جرى كان أملهم الوحيد في رؤيتهم أحرارًا بعد اعتقالهم لسنوات طويلة.
11 عامًا دون أي خبر
أمضت حياة (54 عامًا) 11 عامًا من البحث المتواصل عن مصير ابنها محمد غسان عيسى، الذي فقد أواخر 2013، وذلك بعد أن حوصر لأشهر في منطقة مخيم اليرموك بدمشق.
أراد محمد غسان حينها الخروج من المنطقة مع مجموعة من العائلات، قالت والدته إن عددهم يقدّر بـ2500 شخص، وذلك بحسب روايات لأشخاص من الذين كانوا محاصرين في المنطقة.
تروي السيدة لعنب بلدي تفاصيل احتجاز ابنها وآخر أخباره قبل وصوله إلى المعتقل، دون تردد وهي التي تحفظ هذه التفاصيل عن ظهر قلب.
خرج محمد غسان مع العائلات من المنطقة عبر حاجز للنظام في ريف دمشق كان معروفًا باسم “حاجز بردى”، ويقع بعد منطقة قدم عسالي، وهذا الحاجز أعطى الأهالي الأمان من قبل، وعندما خرجوا من الحاجز اختفوا جميعًا، وكان يقدّر عددهم بحوالي 2500 شخص من منطقة مخيم اليرموك والحجر الأسود والقدم خرجوا على ثلاث دفعات، بحسب ما روته السيدة.
عند وصول خبر خروج العائلات، سعى ذووهم ممن كانوا يقيمون في مناطق سيطرة النظام لمعرفة مصيرهم، وعلموا أن عناصر الحاجز العسكري الذي خرجوا عبره، اقتادوهم إلى حاجز “الكابلات” في منطقة سبينة بريف دمشق، حسب شهود عيان كانوا في تلك المنطقة، ثم اختفوا جميعًا.
ورغم بدء الأهالي البحث عن ذويهم، إذ قيل لهم إنهم رحلوا إلى سجن يدعى “ميسلون”، فإنه حتى الآن لا توجد أي أخبار مؤكدة عن مصير محمد غسان ومن خرج معه، حسب كلام أهالي المفقودين، ممن تتواصل معهم والدة الشاب باستمرار.
لم تدخر حياة خلال كل هذه السنوات أي فرصة لمعرفة مصير ابنها، كما لم تترك وسيلة للسؤال عنه في الفروع أو السجون التابعة للنظام السوري، إلا أنها لم تحصل على إجابة مؤكدة أو موثوقة تبرد قلبها.
وكانت السيدة كلما سمعت بخروج أي معتقل، تحاول سؤاله عن ابنها لعلها تكون مصادفة تسمعها النبأ الذي تشتهيه عنه.
ورغم إفراغ المعارضة السورية للسجون والمعتقلات التابعة للفروع الأمنية من المعتقلين والمختفين قسرًا، لم تتمكن حياة من الحصول على معلومة أو رؤية اسم محمد غسان عيسى في السجلات التي انتشرت كثيرًا على وسائل التواصل الاجتماعي.
الانتظار مستمر.. لا تدخل دولي
حياة عيسى والدة المعتقل محمد غسان، ترى أن المنظمات الحقوقية المتخصصة في ملف المعتقلين يجب أن تتحرك من خلال عدة إجراءات تتمثل بتشكيل لجان تحقيق دولية مستقلة للبحث في مصير المعتقلين والمغيبين قسرًا.
وتطالب السيدة بالضغط على الأطراف المسيطرة لتوفير قوائم بأسماء المعتقلين وأماكن احتجازهم، إلى جانب توثيق شهادات الناجين والمعتقلين المفرج عنهم للحصول على أدلة.
المطالبة بالتحرك الدولي أصبحت خيار ذوي المعتقلين الوحيد، وهو ما أكدته خلود حلمي، في سياق حديثها عن عدم معرفة مصير أخيها أحمد الذي اعتقل من منزله قبل أكثر من 12 عامًا.
فقد أحمد في أيار 2012، بعد مداهمة فرع “الأمن الجوي – مطار المزة” لمنزله بعد منتصف الليل، بحسب ما قالته خلود حلمي لعنب بلدي.
لم تتمكن عائلة الشاب من الحصول على أي معلومة عنه خلال سنوات غيابه، ولم يره أحد في أي من المعتقلات، باستثناء شاب كان معه في سجن “المزة العسكري” التابع لـ”المخابرات الجوية” خلال الأسابيع الأولى من اعتقاله.
لم تستطع خلود الحصول على أي خبر عن أحمد منذ فتح السجون من قبل المعارضة، رغم محاولتها التواصل مع كل الجهات الدولية أصلًا منذ 2013، إلا أن معلومات انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي قيل إنها مسربة من فرع “المخابرات الجوية”، وُجد فيها اسم أحمد بين الوفيات، المعلومة التي لم تستطع العائلة التأكد منها حتى الآن.
خلود حلمي، وهي ناشطة سورية في ملف المعتقلين، أشارت إلى أنه يجب التنويه إلى أن الجهات الدولية لم تتحرك بعد في ملف المعتقلين، وتركت أهالي المعتقلين يهيمون للحصول على إثبات او دليل من بين ملايين الشائعات على وسائل التواصل الاجتماعي.
ولم تدخل فرق “الصليب الأحمر” ولا فرق من الأمم المتحدة إلى السجون بعد، كما لم يصدر أي تصريح من حكومة تسيير الأعمال عن المعتقلين، وبقي الملف منسيًا حتى بعد سقوط الأسد، بحسب حلمي.
وأكدت خلود حلمي أنه يجب الضغط على “الصليب الأحمر” والأمم المتحدة لتفعيل عمل الآلية المستقلة للبحث عن المفقودين في سوريا بشكل فوري وعاجل، للبدء بعملية التوثيق والبحث عن الجثث والمقابر الجماعية.
واعتبرت حلمي أن إتلاف الأدلة والعشوائية في التعامل مع السجون والأدلة والجثث، يعتبر انتهاكًا إضافيًا لحقوق المعتقلين وأسرهم التي ما زالت تبحث عن خبر يقين عن حالهم، وتركوا مع جراحهم التي فُتحت من جديد للبحث في ملايين الملفات المنتشرة وآلاف الصور المشوهة، وفق تعبيرها.
صورة على “فيس بوك” تعلن الوفاة
كعشرات آلاف الشباب، اعتقل وائل المغير مع ابن خالته على حاجز عسكري في منطقة جرمانا بريف دمشق عام 2014، وذلك بعد أشهر على وفاة والده وأخيه الوحيد في محافظة دير الزور، بحسب ما قالته أخته نور المغير (28 عامًا) لعنب بلدي.
اعتقال الشاب ترك نور وحيدة في منزل زوج أمها بعمر 18 عامًا، وكانت حينها لا تستطيع حتى الذهاب إلى الفروع الأمنية للسؤال عن أخيها، المهمة التي تسلمها زوج أمها لأشهر لاحقة لاعتقاله.
ما ساعد نور المغير على الوصول إلى معلومة مبدئية عن مصير أخيها المعتقل، تحركات خالتها في الفروع الأمنية للسؤال عن ولدها، ودفعها ملايين الليرات السورية مقابل نقله إلى سجن “عدرا” المركزي، حيث تعد معاملة المساجين أفضل من المعتقلات في الفروع الأمنية.
بعد أن نجحت خالة الشابة في نقل ابنها إلى “عدرا” وسمح لها بزيارته، سألت عن مصير وائل المغير ليقول حينها إنهما كانا معًا طيلة الوقت، إلا أنه مرض مرضًا شديدًا خلال فترة اعتقاله نتيجة تعرضه للتعذيب بشدة، وعقب جلسة تعذيب غير محتملة أسعف وائل إلى المستشفى ولم يعد بعدها، بحسب ما قال ابن خالته، وهذه هي المرة الأخيرة التي رآه فيها.
في ظل رواية غير مكتملة التفاصيل، تعاملت العائلة مع هذه الأنباء على أن وائل المغير مات في المستشفى، إذ إنه السبب الوحيد لعدم عودته إلى المعتقل ثانية، الأمر الذي لم تؤمن به أخته نور، طالما أنها لم تتسلم جثته أو شهادة وفاته على الأقل.
ظلت نور كل هذه السنوات تحاول معرفة مصير أخيها وآخر ما تبقى لها من عائلتها، وبعث إليها الأمل من جديد عند بدء المعارضة بالسيطرة على السجون وإفراغ المعتقلين منها، لكنها لم ترَ أخاها بين الجموع.
منذ لحظة إعلان إفراع السجون والمعتقلات، لم تترك نور هاتفها، وظلت تتصفح عشرات القوائم والصور والوثائق التي انتشرت لأسماء وصور معتقلين في سجون النظام.
خلال عملية التصفح، لمحت صورة لمتوفى عام 2017 شكت أنه أخوها وائل، رغم عدم وجود شبه كبير، إذ إن أنف المتوفى مكسور وأسنانه مخلوعة ووجهه ملطخ بالجروح والندوب، فأرسلتها إلى ابن خالتها، وهو آخر شخص رآه قبل خروجه من المعتقل والذي أكد بدوره أنه أخوها وائل.
تأكيد رفيق المعتقل الذي أخرجته قوات المعارضة من سجن “عدرا” عقب هروب بشار الأسد، في 8 من كانون الأول الحالي، جعل نور متأكدة من وفاة أخيها، لكنها لم تحصل على جثته أو تودعه، الأمر الذي يحز في نفسها كثيرًا، بحسب تعبيرها.
4300 معتقل في “صيدنايا”
حصلت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” على وثيقة رسمية توضح أن أعداد السجناء، حتى 28 تشرين الثاني 2024، وصل إلى 4300 شخص.
ووفق الوثيقة التي حصلت عنب بلدي على نسخة منها عبر “الرابطة”، تضمن التفقد اليومي لأعداد المساجين 4300 سجين موزعين على الشكل التالي:
- محكمة الميدان العسكرية: 1231 سجينًا، أحيل منهم واحد إلى المستشفى.
- محكمة الإرهاب: 252 سجينًا.
- المحكمة القضائية (جنح وتهم جنائية لجرائم أحد أطرافها عسكري): 2817 سجينًا، أحيل منهم ثلاثة إلى المستشفى.
- محاكمات الفرار: لا يوجد سجناء.
ولم يرد في الإحصاء المسجل في هذا التاريخ، وفق الوثيقة، أي حالة وفاة.
مدير الرابطة، دياب سرية، أكد في تسجيل مصور، عدم وجود أقبية سرية في سجن “صيدنايا”، وأوضح أن جميع المعتقلين جرى إخراجهم من السجن صباح الأحد 8 من كانون الأول.
وسبق أن أكدت الرابطة وفريقها الموجود داخل السجن خلوّه من المعتقلين بجميع أبنيته (الأبيض والأحمر).
إعدامات جماعية في “المسلخ البشري”
وثقت منظمة العفو الدولية في تقرير تحت عنوان “المسلخ البشري”، نشرته في شباط من عام 2017، إعدامات جماعية بطرق مختلفة، نفذها النظام السوري بحق 13 ألف معتقل في سجن “صيدنايا”، أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015.
وأوضحت المنظمة أن الإعدامات جرت أسبوعيًا أو ربما مرتين في الأسبوع، بشكل سري، واقتيدت خلالها مجموعات تضم أحيانًا 50 شخصًا إلى خارج زنزاناتهم، وشنقوا حتى الموت.
منذ عام 2011، قُتل في سوريا أكثر من 231 ألف شخص بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، يعد النظام السوري مسؤولًا عن مقتل أكثر 86% منهم.
وكان 157 ألف شخص في عداد المختفين قسرًا، بينما قتل أكثر من 15 ألفًا تحت التعذيب، بحسب توثيق “الشبكة”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :