عنب بلدي – حسام المحمود
“سنذهب إلى دمشق في أقرب وقت ممكن ونحتضن إخوتنا هناك بمودة، سنقرأ الفاتحة على قبر صلاح الدين الأيوبي، ونصلي في الجامع الأموي”، هذه الجملة قالها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عام 2012، حين كان نظام بشار الأسد المخلوع يمعن في قمع ثوره سلمية انطلقت في جميع المدن والحواضر السورية منذ 2011.
“أقرب وقت ممكن” الذي تحدث عنه الرئيس التركي، لم يكن قريبًا في الواقع، لكنه حصل على الأقل وإن بصورة مختلفة، إذ سجّلت تركيا أول زيارة لوفد دبلوماسي رسمي إلى سوريا بعد سقوط نظام الأسد، في 8 من كانون الأول الحالي، حين زار رئيس جهاز الاستخبارات، إبراهيم قالن، دمشق، وصلّى في الجامع الأموي، والتقى أيضًا قائد “إدارة العمليات العسكرية”، أحمد الشرع، في 12 من كانون الأول.
وتعتبر الزيارة التركية الأولى لوفد دبلوماسي بعد سقوط نظام الأسد المخلوع، كما أنها الأولى لمسؤول تركي منذ 13 عامًا، حين زار وزير الخارجية حينها، أحمد داوود أوغلو، سوريا، والتقى الأسد في آب 2011، وزار حماة أيضًا، على خلفية الاحتجاجات التي عاشتها مطالبة برحيل الأسد، لتشكل تلك الزيارة بداية مسار توتر العلاقات بين أنقرة ودمشق، وصولًا إلى القطيعة السياسية التي استمرت حتى أطاحت المعارضة بحكم الأسد.
الحضور التركي في الملف السوري ليس حدثًا عارضًا أو عابرًا، وليس وليد تطورات الأيام الأخيرة، لكن الأسبوع الأخير عزز دور أنقرة لمصلحة تراجع دور طهران وموسكو، حليفي الأسد الأشرس.
الخبير الاستراتيجي والباحث غير المقيم في معهد “ستيمسون” بواشنطن عامر السبايلة، أوضح لعنب بلدي أن التحرك التركي السريع إشارة واضحة وله رمزية كبيرة، وهي أن سوريا لاعب أساسي وربما الأبرز في سوريا خلال الفترة المقبلة، بالإشارة إلى أن حلفاءها أصبحوا واجهة الحكم في سوريا.
وبالإشارة إلى الزيارة المزمعة لوفد قطري إلى دمشق اليوم، الأحد، للقاء مسؤولين في “الإدارة الجديدة”، اعتبر الباحث أن هذه التحركات تعبر عن رؤى قديمة مرتبطة بالثورة السورية والحقبة السابقة، ومحاولة الطرفين (تركيا وقطر) إرسال رسالة مفادها أن حلفاءهما حاليًا يتصدرون المشهد السياسي السوري، وتنصيب نفسهما كبوابة للحديث مع دمشق، سواء على مستوى دولي أو إقليمي.
وبعد الرسالة التي أرسلها ملك البحرين إلى أحمد الشرع، في 12 من كانون الأول، بصفته رئيسًا للقمة العربية، مبديًا الاستعداد للتشاور وتقديم الدعم، اعتبر الباحث أنه لا موانع من الانتقال العربي للحديث والتواصل مع دمشق، فاجتماع العقبة أشار إلى خطوات مطلوبة من دمشق، وهذا يعني أن البوابة مفتوحة حاليًا بما لا يلغي حالة تريث في وقت تتشكل به رؤية موحدة بين دول لجنة الاتصال العربية للقيام بخطوات على الأرض.
والسبت الماضي، دعمت “لجنة الاتصال العربية” عملية انتقال سلمية سياسية في سوريا، برعاية أممية، عقب الإطاحة برئيس النظام السوري المخلوع، بشار الأسد.
نقل مخاوف وتوصيات
الزيارة التركية إلى دمشق التي حملت رمزية سياسية واضحة، إثر محاولات أنقرة التوصل لحل سياسي رفضه الأسد، وتمسك بشروط دون موقف قوة لنحو عامين، تبعها دعم تركي سياسي لتحركات فصائل المعارضة السورية وحكومة تسيير الأعمال المشكلة في 12 من كانون الأول، إذ قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 13 من كانون الأول، إن السوريين أنشؤوا إدارة مؤقتة، وبدؤوا بضمان النظام والأمن، معربًا عن أمله في تطهير مناطق أخرى من سوريا من “المنظمات الإرهابية والغزاة”، وخلق أرضية لازمة لجميع السوريين ليجدوا مكانهم.
وأضاف أردوغان أن سوريا خطت بعد 13 عامًا خطوتها الأولى نحو التحرير مرة أخرى، فبينما أسقط السوريون نظام “البعث”، كان على الأسد جمع أمتعته والهرب بين عشية وضحاها.
الخبير الأردني بالأمن الاستراتيجي عمر الرداد، رأى في الزيارة التركية رسالة مفادها أن الملف السوري برمته بالنسبة لتركيا مرتبط بالأمن القومي التركي، ورؤية أنقرة لسوريا تندرج تحت عناوين عسكرية وأمنية، لكنها تعكس العلاقة التركية مع “هيئة تحرير الشام”، وهي علاقة لا تنفيها أنقرة، فالكل يعلم أن تركيا اللاعب الرئيس والأساسي في الملف السوري.
وإلى جانب الزيارة، اتجهت تركيا لفتح سفارتها في دمشق، منذ السبت الماضي، لتكون أول سفارة وبعثة دبلوماسية تدخل سوريا بعد الإطاحة بالأسد.
وجرى افتتاح السفارة التركية بعد تعيين برهان كور أوغلو قائمًا بأعمال السفارة في دمشق، وتوجه فريقه إلى العاصمة السورية.
الخبير الأردني اعتبر أن السفارة تنقل رسائل إلى “هيئة تحرير الشام” لأن هناك إشكالية في الغرب والمحيط الإقليمي، على خلفية ارتباطات “تحرير الشام” وعلاقتها بـ”القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، ما يطرح تساؤلات أو شكوكًا في المحيط الإقليمي والدولي حول مستقبل سوريا في ظل هذه القيادة.
“زيارة قالن نقلت إلى القادة الجدد في سوريا المخاوف والشكوك المحيطة بهم، وربما مررت توصيات حول ضرورة اتخاذ المزيد من الإجراءات الديمقراطية، وتوجيه المزيد من الرسائل للداخل والخارج، حول وضع سوريا الجديد، وأنها ستكون مختلفة عن السابق، بما يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات والإصرار على وحدة سوريا”، أضاف الرداد.
ويرى الخبير عمر الرداد أن الكثير من الدول العربية ستبدأ الاتصال مع الحكومة الجديدة في دمشق، وربما لا تكون هذه الاتصالات معلنة في البداية، لكنها ستفتح قنوات اتصال.
وبالنسبة للاجتماع الذي جرى في مدينة العقبة الأردنية وضم وزراء “لجنة الاتصال العربية” (الأردن والسعودية والعراق ومصر ولبنان) ودولًا أخرى، منها تركيا والولايات المتحدة، أوضح الرداد أن الاجتماع يعني استمرار عمل “لجنة الاتصال العربية” المنبثقة عن الجامعة العربية، لكنها تتطلب اتصالات وتفاهمات مع الإدارة الجديدة في دمشق، وكلما تقدم الوضع في سوريا على الأرض ستتقدم الاتصالات مع تلك الإدارة الجديدة.
بين كانونين
كانت الأنباء تضاربت حول الزيارة في يومها، فجرى الحديث عن مشاركة وزير الخارجية، هاكان فيدان، بها، ومشاركة وفد قطري أيضًا، وهو ما لم يحدث، فالقطريون يزورن دمشق الأحد، وفيدان سجّل لقاء مع وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في أنقرة، في اليوم نفسه.
الصحفي التركي، هشام جوناي، قرأ في الزيارة تأكيدًا تركيًا على أن أنقرة تنفذ وعودها، وسياستها لم تكن فاشلة تجاه المعارضة السورية، حتى لو تأخرت هذه الخطوة.
كما بيّن لعنب بلدي أن تركيا تسعى لتجنيب المعارضة الوقوع في أخطاء يمكن أن تفقدها شرعيتها، وهي رسالة للخارج مفادها أن تركيا حاضرة وتتعامل مع الإدارة الجديدة وتنسق معها في ظل الأوضاع الراهنة في سوريا.
في مقابلة متلفزة، في 13 من كانون الأول، اعتبر وزير الخارجية التركي أن المخاوف من “هيئة تحرير الشام” طبيعية تمامًا، ويجب حلها، مشيرًا إلى أنه التقى بشكل منفصل بكل وزراء الخارجية العرب بعد وصول فصائل المعارضة إلى حلب، لإزالة هذه المخاوف، والعالم قبِل المعايير التي حددتها تركيا بشأن هذه القضية.
وقال فيدان، إنه لا يوجد “إرهاب” في سوريا و”المنظمات الإرهابية” (في إشارة إلى “تنظيم الدولة الإسلامية” و”حزب العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب”) لا تتلقى الدعم، ولا تتعرض الأقليات لسوء المعاملة، ويتم تلبية احتياجاتهم الأساسية، ولا أحد لديه علاقة بأسلحة الدمار الشامل، ولا تشكل الإدارة الجديدة خطرًا أو تهديدًا لدول المنطقة، وفي الوقت نفسه يتم ضمان وحدة البلاد وتماسكها، والمطلوب لمعالجة هذه المخاوف هيكلة حكومة شاملة.
وبيّن أن تركيا نقلت هذه المخاوف إلى الإدارة في دمشق، من أجل معالجة المخاوف، متوقعًا اتخاذ موقف وخطوات لازمة.
في المقابلة نفسها، أكد وزير الخارجية التركي الدور الدبلوماسي لتركيا بشأن سوريا، وقال، “تحدثنا مع روسيا وإيران وأخبرناهم بعدم الدخول في المعادلة عسكريًا”.
وبحسب الوزير، فمع بداية عملية المعارضة السورية، كانت القضية الأكثر أهمية هي أن يتحدث الروس والإيرانيون مع بعضهم وألا يدخلوا في المعادلة عسكريًا، مشيرًا إلى أنهم فهموا ذلك خلال اجتماعات الأسبوع الماضي.
وجاء وزير الخارجية الإيراني إلى تركيا ثم جرى لقاء في الدوحة بحضور وزير الخارجية الروسي، وجرى الحديث عن كل شيء، وبعد نقطة معينة اتصلوا وغادر بشار الأسد في ذلك المساء، بحسب الوزير التركي.
وقبل عامين، وتحديدًا في 28 من كانون الأول 2022، أماطت تركيا اللثام عن محادثات مع نظام بشار الأسد، تحولت إلى مسار تقارب شاركت به إيران وروسيا، لكن هذا المسار توقف لأكثر من مرة جراء تمسك الأسد بشروط اعتبرها “ثوابت وطنية”، فلم يبدِ تجاوبًا في وقت لاحق مع دعوات تركية جاءت متتابعة وبغزارة لعقد لقاء بين الأسد المخلوع والرئيس التركي، وإيجاد صيغة للحل السياسي.
وقبل إكمال عامين على بدء المسار السياسي مع تركيا، سقط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول، وهرب من سوريا إلى روسيا ليحصل على اللجوء “الإنساني” بقرار من الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد 13 عامًا حوّل فيها أكثر من نصف الشعب السوري إلى لاجئين في أنحاء العالم.