عنب بلدي – علي درويش
وثائق من جحيم سجن “صيدنايا” يحرقها أحد المدنيين لكي يحصل على بعض الدفء في محيط السجن وهو ينتظر خبرًا عن أحد ذويه، مقطع مصور نشره ناشطون يعكس عدم إدراك البعض أهمية هذه الوثائق لاحقًا، وهو ما كان يجب أن يتم التعامل معه بدقة أكبر، خاصة من الفصائل العسكرية التي دخلت معتقلات النظام وأفرجت عن المعتقلين.
وبعد ساعات من سقوط نظام بشار الأسد، انتشرت مقاطع مصوّرة من داخل فروع ومعتقلات النظام الأمنية لمقاتلين ومدنيين يتجولون بين رفوف حوَت وثائق وتقارير كتبت نهاية حياة عشرات آلاف السوريين، أو أدت إلى اعتقالهم ومعاملتهم بطريقة غير آدمية، ووثقت أيضًا أسماء المسؤولين عن ذلك.
وثائق مرمية على الأرض، وأخرى أخذها أشخاص سواء مدنيون أو عسكريون، ومن الممكن أن يكونوا من أركان النظام السابق، أدت إلى فقدان أو تلف وثائق وتقارير أمنية، ولم يُعرف حجم الفقدان حتى الآن.
الفروع الأمنية أيضًا تعرض بعضها لقصف إسرائيلي، ضمن موجات القصف التي استهدفت مواقع عسكرية سورية في مختلف المحافظات، وهو ما زاد من إشكالية فقدان الوثائق ومحوها.
ما أهمية الوثائق
استمرت حالة عدم ضبط دخول الأشخاص إلى المعتقلات والعبث بمحتوياتها نحو أربعة أيام، إلى أن أغلقت “إدارة العمليات العسكرية” هذه المعتقلات، وأنهت فرق البحث والإنقاذ وعلى رأسها “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء) عمليات البحث عن سجون أو غرف مخفية داخلها، وهو ما حدث في سجن “صيدنايا”.
مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أطلق، في 11 من كانون الأول، نداء للجمهور للتعاون في جمع الوثائق والأدلة والمساعدة في محاكمة مسؤولي النظام السابق.
وأشار العبد الله إلى أن هذه الأوراق هي أدلة على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب السوري، ويجب في المرحلة الحالية الحفاظ عليها وأخذ صور منها، أو إخراجها أو الاحتفاظ بها، ومساعدة المنظمات الحقوقية في الوصول إلى هذه الوثائق.
وفي المرحلة الثانية، مساعدة المنظمات الحقوقية في الوصول إلى الضحايا، أو معلومات وأدلة حول مسؤولين عن عمليات التعذيب والاعتقال من ضباط النظام وعناصره، خاصة العاملين سابقًا في الفروع الأمنية.
والهدف الرئيس من هذا العمل، هو دعم الضحايا وأهاليهم، ومعرفة مصير المفقودين، ومحاكمة المسؤولين عن ارتكاب جرائم حرب، وسيعمل “المركز السوري للعدالة والمساءلة” على نشر تحديثات للوثائق والأدلة التي توصل إليها، ووضع بريد إلكتروني ورقم تواصل لكي يتم التواصل معه.
وأوضح محمد العبد الله لعنب بلدي، أن الوثائق في الفروع الأمنية عرضة للضياع أو التلف، ويمكن إحراقها من قبل شخصيات سابقة بالنظام، أو سرقتها أو العبث فيها أو بعثرتها أو نشر صور عنها عبر منصات التواصل.
ونشرها بطريقة غير مسؤولة، سيتسبب بنشر نسخ مزورة ونسخ معدلة ويدحض مصداقيتها، لذلك الإسراع بسحبها من أيدي الناس مهم جدًا، وتوثيقها والاحتفاظ بها وحمايتها، هذا أرشيف للشعب السوري، عدا عن ذلك فهي أدلة على جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبت بحق الشعب السوري على مدى عقود وليس فقط خلال الـ14 سنة الماضية، وفق تعبير العبد الله.
وقسم كبير من هذه الوثائق يحوي على أدلة ضد أشخاص كانوا في السابق مخبرين أو كتّاب تقارير أو ضباط، وهو ما قد يتسبب بأعمال انتقامية من أشخاص عرفوا بعد اطلاعهم على الوثيقة مَن الشخص الذي أودى بأقاربهم أو جيرانهم.
وهذا الأمر حصل بالعراق بعد نشر الأرشيف العراقي، فالأشخاص أصبحوا يعرفون المخبرين وجرت تصفيتهم بالشارع، أي أن نشرها قد يؤدي إلى أعمال عنف.
على السلطات الإسراع
وبالنسبة لنشاط “المركز السوري للعدالة والمساءلة” على الأرض بما يخص الوثائق، قال العبد الله، إن لديهم حاليًا نشاطًا للحصول على بعض الوثائق أو الصور منها، وقد يحصل المركز على الوثائق الأصلية.
لكن حجم الوثائق وتناثر المراكز الأمنية وبعثرتها أكبر من استطاعة أي مركز أو أي فريق، لذلك جرى توجيه نداء بخصوص ذلك، بعد سقوط النظام.
مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، كرم شعار، قال لعنب بلدي، إنهم لم يحصلوا على الوثائق من الفروع الأمنية إلا ما هو متاح للعامة، لكن لدى المركز وثائق سابقة، أي من قبل سقوط نظام بشار الأسد.
ويجب على السلطة الحالية، وفق العبد الله، جمع الوثائق وحمايتها وأرشفتها وعدم السماح بسرقتها وبعثرتها، وطبعًا حمايتها من الإحراق والتلف، وهذه الخطوة الأساسية التي يجب القيام بها، لكن المقاطع المصورة أظهرت أشخاصًا يرمون وثائق على الأرض، منها ما غمر بالمياه ومنها ما داسته الأقدام، وغيرها من الأمور التي تؤدي إلى تلفها.
وذكر شعار أن على السلطة الحالية، بعد وضع اليد على هذه الوثائق، محاولة استرداد الوثائق التي تم فقدها.
والأولوية القصوى هي حراسة جميع المراكز الأمنية التابعة للنظام، وبعدها التأكد من أخذ كل هذه الملفات والاحتفاظ بها، رغم أن ذلك يحتاج إلى أجهزة قضائية وشرطية، وفي هذه المرحلة الأمر غير متوفر.
وتوقع شعار أن “مكتب الأمن الوطني” لديه نسخ “مرقمنة” من غالبية المراسلات، وهنا توجد عقدة وصل مهمة جدًا وهي المسألة التقنية، يجب وضع السلطة يدها عليها، وهذا يتطلب وجود أحد المهندسين العاملين سابقًا على هذا النظام لكي يساعد بالحصول على نسخ من الوثائق “المرقمنة”.
وثائق سابقة فُقدت.. التوثيق حفظها
عام 2017، حذفت إدارة موقع “يوتيوب” آلاف المقاطع المسجلة التي توثق العنف في سوريا، إذ صُنفت تلك المقاطع على أنها “غير ملائمة” من خلال نظام يعمل تلقائيًا صُمّم للتعرف على “المحتوى المتطرف”.
“المركز السوري للعدالة والمساءلة” نجح في جمع مليون ونصف مليون مقطع مسجل قبل أن يحذفها “يوتيوب”، بالإضافة إلى جمع وثائق من الأجهزة الأمنية السورية التي وقعت بأيدي أشخاص انشقوا، أو تُركت في مناطق سيطرت عليها قوات المعارضة.
وبلغ حجم هذه الوثائق 500 ألف صفحة ورقية، أخرجها فريق الموثقين في “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، بالتعاون مع منظمات حقوقية شريكة أخرجت وثائق أخرى لدى المركز بصور طبق الأصل لها، إلى جانب شهادات موثقة بالفيديو.
تحتاج المحاكمات إلى وفرة الشهادات، في الوقت الذي تطمس فيه أطراف النزاع الأدلة التي تثبت ضلوعها بارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في سوريا، وهنا تبرز أهمية الشهادات الشفوية في توفير إفادات وإضافات عن هذه الانتهاكات.