بانتظار مؤتمر وطني وإعلان دستوري
غزوان قرنفل
أما وقد خبت كثيرًا أصوات الرصاص عن المشهد السوري عقب فرار الرئيس المخلوع صاغرًا أمام إرادة السوريين، ولجوئه إلى روسيا التماسًا لحماية من المساءلة لطالما وفرتها له روسيا عبر سلاح الفيتو، الذي أجهضت فيه طوال سنوات الصراع كل مسعى لإحالة ملف الجرائم والانتهاكات المرتكبة في سوريا عبر مجلس الأمن إلى محكمة الجنايات الدولية، فإنه آن الأوان للدعوة إلى عقد مؤتمر وطني في دمشق بين مختلف القوى السياسية والشخصيات الوطنية والحقوقية المستقلة، لمناقشة كل القضايا الأساسية التي تتيح الإقلاع بعجلة الدولة، وفي المقدمة منها الاتفاق على مجلس للدولة أو هيئة حكم انتقالي تتمتع بجميع الصلاحيات التي تخولها إدارة الدولة بموجب إعلان دستوري مؤقت، تحدد فيه المدة اللازمة لعمل تلك الهيئة وآلية الدعوة لانتخابات عامة لمجلس تشريعي مؤقت، وطبيعة القانون الانتخابي الذي ستجري تلك الانتخابات على أساسه، بالإضافة إلى انتخاب هيئة تأسيسية تقوم بأعمال صياغة الدستور الذي ستحكم بموجبه الدولة السورية.
فلا يمكن بطبيعة الحال إبقاء الدولة في وضع العطالة، باعتبار أن ثمة ملفات وقضايا شائكة يتعين مواجهتها واتخاذ الحلول اللازمة لها على وجه السرعة، وفي مقدمتها تغيير الطاقم الدبلوماسي بالكامل بدءًا من ممثلية الدولة السورية لدى الأمم المتحدة ومرورًا بجميع السفارات والقنصليات والممثليات التي تعبر عن وجه وتوجه الدولة السورية الجديدة، فلا يجوز بحال الإبقاء على كل هذا الطاقم الذي طالما كان انعكاسًا لسلطة تم إقصاؤها عن المشهد السوري، وتلك مسألة ملحة في أولويتها للتوكيد على القطيعة مع مرحلة الأسدية والبدء بالتأسيس للجمهورية السورية الثانية.
صحيح أن ثمة حكومة جديدة تم تكليفها ونقل صلاحيات الحكومة السورية السابقة إليها بهدف إدارة شؤون البلاد الأساسية وتأمين الخدمات اللازمة لضمان استمرار الحياة وترسيخ الأمن، لكن نحن لا نزال أمام مشكلة دستورية وقانونية يتعين ملاحظتها والاستجابة لما تقتضيه من إجراءات لحلها.
فإلى الآن لا تزال البلاد من الناحية القانونية تدار بدستور 2012، إذ لم يعلن عن تعليق العمل بدستور البلاد، ولا يزال الأسد رئيسًا للبلاد من الناحية الدستورية باعتباره لم يستقل رسميًا أو يعلن عن تنحيه عن منصبه، ولا يزال مجلس الشعب مجلسًا تشريعيًا دستوريًا من الناحية النظرية، وهذه سابقة لم تحصل قط عقب أي ثورة أو انقلاب في العالم.
صحيح أن معطيات الواقع وحقائقه صارت مختلفة تمامًا عما نشير إليه، لكن ذلك لا يلغي وجوب قوننة ودسترة الأفعال والقرارات والإجراءات لكي نبدأ مرحلة القطيعة مع الماضي وأدواته، ونبدأ التأسيس للشرعية الدستورية اللازمة، بهدف إكساب كل الإجراءات المتخذة المشروعية القانونية التي تكسبها وتكسب السلطة الجديدة اعترافًا دوليًا نحن نحتاج إليه بإلحاح الآن.
إذًا ما الذي ننتظره الآن؟ يتعين علينا جميعًا، كشخصيات مستقلة ومنظمات غير حكومية وهيئات ونقابات وأحزاب وتيارات بالإضافة إلى القوى والمنصات المعارضة، أن نبادر للتواصل مع الحكومة الجديدة للمطالبة بعقد مؤتمر وطني شامل في دمشق لتدارس الأمر والتأسيس لشرعية الحكم الجديد بعد التوافق على رؤية وطنية جامعة يمكن أن تمثل أرضية أولية لتصور دستوري مستقبلي، والعمل أيضًا على صياغة وثيقة إعلان دستوري مؤقت من بضع مواد تطوي صفحة الدستور السابق، وتكون أداة إسباغ المشروعية الدستورية على كل الإجراءات والقرارات المتخذة في هذه المرحلة.
من المهم أيضًا في هذا السياق التوافق على آلية لانتخاب مجلس تأسيسي تناط به مهمة صياغة دستور جديد للبلاد بعد الاتفاق على شكل الحكم، هل سيكون برلمانيًا صرفًا أم رئاسيًا، وهل سيكون مركزيًا أم يؤسس لنظام لا مركزي، وكذا التوافق على قانون انتخابي جديد للبلاد يحقق التوازن والعدالة في التمثيل تمهيدًا لعملية انتخابية شاملة تؤسس لحياة برلمانية حقيقية، فضلًا عن الحاجة لرؤية تتعلق ببرنامج وطني شامل للعدالة الانتقالية لا يلغي مبدأ المحاسبة عن الجرائم والفظاعات التي ارتكبت بحق السوريين.
قبيل ختام هذه السطور أذاعت محطة “العربية” خبرًا عن نية الحكومة الحالية تعليق العمل بالدستور وتعليق أعمال مجلس الشعب الحالي لمدة ثلاثة أشهر، والحقيقة لا يمكن اعتبار مثل هذا الإجراء صحيحًا، لأن تعليق العمل بالدستور يوجب وجود وثيقة دستورية بديلة، فلا يمكن ترك البلاد بحال فراغ دستوري، كما لا يجوز الركون فحسب لما تتم تسميته بالشرعية “الثورية”.
نحن إذًا أمام ورشة عمل واسعة جدًا يتعين إطلاقها الآن، ودعوة الجميع للمشاركة بها بوصفها الورشة التي تؤسس لسوريا جديدة تقوم على مبدأ المواطنة وسيادة القانون، وتطوي إلى غير رجعة دولة الحزب الواحد والحاكم الأوحد المستأثر بالسلطة والثروة معًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :