عنب بلدي – نوران السمان
“كنت أخشى التعبير عن رأيي حتى مع نفسي، الخوف كان يحكم حياتي، والآن، أستطيع التحدث أمام الجميع دون تردد”.
هكذا وصف محمد تجربته في مواجهة القمع والخوف الذي سيطر على حياته لعقود، قبل أن يتمكن من استعادة حريته بعد سقوط النظام السوري.
حال الشاب السوري محمد ينسحب على مئات الآلاف من السوريين الذين عاشوا لعقود من القمع الممنهج، بغياب أبسط حقوق التعبير عن الرأي منذ وصول الرئيس السابق، حافظ الأسد، إلى السلطة، واستمرار ذلك في عهد ابنه المخلوع، بشار الأسد، إذ جرى قمع الحريات بالسجون والتعذيب والإخفاء القسري لكل من حاول كسر جدار الصمت.
التحولات بعد سقوط النظام
يعكس حديث محمد لعنب بلدي التحول الذي بدأ يشهده المجتمع السوري بعد خلع رئيس النظام بشار الأسد، ليتجاوز الأمر المعارضين إلى الموالين السابقين، الذين أصبحوا أكثر انفتاحًا على التعبير عن آرائهم وانتقاد الواقع.
سارة، شابة تقيم في دمشق، قالت، إن حرية التعبير عن الرأي “لم تكن متاحة في عصر الأسد”، مضيفة، “كنا نخاف وضع إعجابات على المنشورات خشية المساءلة”.
وأشارت إلى أن القضايا المحظورة تضمنت مواضيع مثل الفساد والوضع الاقتصادي، ما جعل الخوف يسيطر على حياة السوريين.
نور، مقيمة أخرى في دمشق، تحدثت عن الثقافة القمعية التي سادت المجتمع، قائلة، إن “التعبير عن الرأي حتى كفكرة لم يخطر ببالنا، كبرنا في مجتمع مليء بالتسلط، وكل شخص في موقع سلطة يعامل الآخرين بازدراء”، معتبرة أن هذا النمط من “الفوقية” رسّخه النظام.
وأشارت نور في حديثها لعنب بلدي إلى أن حلمها الأكبر كان سقوط نظام بشار الأسد، وهو ما تحقق أخيرًا.
أما سلمى، صحفية سابقة تقيم في دمشق، فوصفت التحولات في المجتمع بأنها “النقيض التام لما كنا نعيشه”، مضيفة أن الجدران التي كانت “لها آذان” لم تعد موجودة.
“بعد عقود من تكميم الأفواه، نحن الآن نبحث عن الكلمات التي لم نكن نجرؤ على قولها”، قالت سلمى، مضيفة أن مجتمعًا عاش في قمع لنصف قرن، يحتاج إلى الوقت لاستيعاب ما يحدث.
وأضافت أن أثمان الحرية “صعبة ومرهقة”، فقد تجنبت التفوه بأي عبارة، بعد قراءتها في أدب السجون ما يحصل في زنزانات “الطاغية”.
وكان يجري اختيار الكلمات التي تُقال في المنازل أو بين الأصدقاء في سوريا بعناية، خشية أن تصل إلى أذن مراقب أو مخبر.
“في الماضي، كانت عائلات المعتقلين تعيش في صمت خوفًا من العواقب، ولكن بعد سقوط الأسد، أصبح بإمكانهم الحديث علنًا والمطالبة بمعرفة مصيرهم”، وفق ما قالته رهام، وهي طالبة بكلية الحقوق في جامعة “دمشق”.
أشارت الفتاة إلى أن التغيير طال أيضًا العائلات التي كانت تخشى حتى ذكر أسماء أبنائها المعتقلين.
“السوشيال ميديا” لبست الأخضر
تحولت وسائل التواصل الاجتماعي منذ سقوط الأسد، في 8 من كانون الأول الحالي، إلى منصة مركزية للتعبير عن الرأي وكشف الانتهاكات.
آلاف المنشورات والمقاطع المصورة على وسائل التواصل الاجتماعي لأشخاص سوريين، عبروا عن حريتهم بعلم الثورة الذي كانوا يخشون أن يظهروا فيه.
يرى الشاب محمد أن هذه المنصات ساعدت في “كسر حاجز الخوف”، إذ ينشر السوريون اليوم آراءهم بحرية، ويتواصلون مع بعضهم داخل البلاد وخارجها.
وتتفق سلمى مع محمد بقولها إنها لا تعلم “من أين جاء هذا الاحتضان للرأي الآخر، خاصة عبر السوشيال ميديا، ربما هو شعور بالامتنان للحرية التي حصلنا عليها أخيرًا”.
ورغم التحولات الجذرية في المجتمع السوري، فإن الطريق نحو العدالة ما زال طويلًا، كما ترى رهام التي أكدت أن “الشعب لن يهدأ حتى تتحقق العدالة”، داعية المحكمة الدولية إلى محاسبة جميع من ارتكبوا الجرائم خلال عقود القمع.
وفي دراسة أعدها مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” بعنوان “حرية الإعلام والتعبير والرأي ومدى التزام النظام السوري بها”، لم يلتزم النظام السوري بضمانات حرية الإعلام والتعبير المنصوص عليها في المواثيق الدولية التي وقعتها الحكومات السورية السابقة.
وتشير الدراسة إلى أن بنية النظام الأمنية تعتمد على التدخل في حياة الأفراد، ومراقبة تحركاتهم، وقمع حرياتهم.
وتظهر أن النظام غير قادر على العيش دون هذه التدخلات، التي تُعتبر عنصرًا أساسيًا في استمراريته.
إرث ثقيل من القمع والخوف
عندما تولى بشار الأسد السلطة خلفًا لوالده حافظ الأسد في تموز عام 2000، استبشر كثير من السوريين بتحسن محتمل في حالة حقوق الإنسان.
وبرزت حينها وعود بانفتاح سياسي واقتصادي في فترة عُرفت بـ”ربيع دمشق“، لكن سرعان ما تحولت تلك الآمال إلى خيبة، مع تصاعد القمع الذي استهدف كل من يطالب بحرية التعبير، أو يعلن أي نوع من الرفض أو الاحتجاج على ممارسات النظام.
وشنت السلطات حملات مكثفة ضد الناشطين السياسيين والصحفيين، كما طالت القمع المثقفين والكتاب.
وفرضت قيودًا صارمة على الصحف والمجلات المستقلة، وحظرت التجمعات السياسية، بل وأنشأت شبكات مراقبة إلكترونية لملاحقة أي محتوى ينتقد النظام على وسائل التواصل الاجتماعي، رغم محدودية انتشارها آنذاك.
وأصبح الحديث العلني ضد النظام ليس مجرد تحدٍ سياسي، بل خطر وجودي يهدد الحرية أو حتى الحياة لأي مواطن سوري.
ووفق تقارير حقوقية، منها لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”، كُشف عن دور جهاز المخابرات السوري كأداة رئيسة في فرض السيطرة.
ورغم الواقع المتردي، أحيت الثورة السورية في 2011 شعلة جديدة من الأمل، وكان الهتاف الأول في الشوارع السورية “حرية!”، وهو ما أعاد إحياء حلم السوريين في التعبير عن آرائهم دون خوف.
ومن رحم هذه الثورة، ظهرت منصات إعلامية مستقلة يديرها سوريون من الداخل والخارج، سعوا لتقديم رواية مغايرة للنسخة الرسمية التي لطالما احتكرها النظام.
ووفقًا لتقرير صدر، في 12 من كانون الأول الحالي، عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”، عقب سقوط بشار الأسد، فإن حكم حزب “البعث” على مدى أكثر من 50 عامًا خلّف إرثًا مروعًا من الانتهاكات.
وخلال عهد الرئيس المخلوع بشار الأسد الذي استمر 24 عامًا، ارتكبت الحكومة السورية انتهاكات واسعة النطاق، شملت الاعتقالات التعسفية، والتعذيب، والإخفاء القسري، والاستخدام المروع للأسلحة الكيماوية، والتجويع كسلاح حرب، والهجمات العشوائية على المدنيين والبنية التحتية.