كتبه منصور العمري لمنظمة “العفو الدولية”
ترجمة عنب بلدي
فاجأت الأحداث الضخمة والمبهجة والخيالية في سوريا عديدًا من المسؤولين والصحفيين الأجانب، وركزت ردود أفعالهم الفورية على الكيفية التي قد تؤثر بها هذه الأحداث على الاستقرار الإقليمي وغير ذلك من المخاوف الجيوسياسية المجردة، في كثير من الأحيان. لكن بالنسبة للسوريين، ما حدث ليس مجرد مسألة جيوسياسية؛ بل سيغير حياتهم، وخاصة بالنسبة لمئات آلاف أفراد العائلات الذين اختفى أحباؤهم في شبكة نظام الاعتقال والتعذيب الواسع النطاق في البلاد.
عاش المجتمع السوري مزيجًا من الأمل والقلق عندما حررت قوات المعارضة هؤلاء المعتقلين. مع ذلك، لا يزال عشرات آلاف الأشخاص الذين اختفوا على يد النظام السابق طي الغياب، ويصارع السوريين، سواء داخل البلاد أو خارجها مشاعر لم يعرفوا أبدًا أنها موجودة.
ما زلت بالكاد أصدق أن مافيا الأسد، التي قادت سوريا إلى الحضيض لمدة 53 عامًا، رحلت أخيرًا. كانت ليلة السبت الماضي وصباح الأحد أشبه بلوحة سريالية. لم أستطع النوم لأيام، حتى عندما حاولت. تولى الأدرينالين هذا الأمر.
لم أتوقف عن العمل تقريبًا، بما في ذلك مراقبة الوضع، وتنبيه الزملاء في سوريا إلى مواقع مراكز الاحتجاز غير الرسمية وكيفية توثيق ما يكشفونه بفعالية.
بدا النوم والطعام وكأنهما ذكرى بعيدة. لم يعد الحرمان عقابًا، بل واجبًا.
اليوم، أشعر إني تخلصت من ثقل ساحق على جسدي وروحي. أعلم أن هذه كانت العقبة الأولى الهائلة على الطريق نحو سوريا خالية من الاستبداد. أعلم أن الطريق سيكون طويلًا ومعقدًا. أعلم أننا سنواجه عديدًا من الذين يريدون إعاقتنا، خارجيًا وداخليًا، لكنني سأسير عليه مع زملائي السوريين الأحرار بغض النظر عن ذلك.
أهمية ملف المعتقلين والمختفين
كانت سوريا في عهد الأسد دولة سجن. كان الوصول إلى مراكز الاحتجاز لتحرير المعتقلين أولوية قصوى للقوات المسلحة التي دفعت جنود الأسد المحاصرين إلى الوراء. كان مطلب إطلاق سراح المعتقلين أحد الشعارات الأولى للانتفاضة السورية في عام 2011. طالبت الاحتجاجات في مختلف أنحاء البلاد باستمرار بإطلاق سراح المعتقلين. لم تؤدي الاعتقالات واسعة النطاق التي شنها نظام الأسد إلا إلى تكثيف المظاهرات والمقاومة المسلحة، وفي نهاية المطاف سقوط النظام.
إطلاق سراح آلاف المعتقلين من سجون النظام يشكل نقطة تحول مهمة، وأيضًا تذكير صارخ بعشرات الآلاف الذين لا يزالون مختفين، وعدد لا يحصى من الآخرين الذين قُتلوا أثناء الاحتجاز.
لمسألة المعتقلين والمختفين تأثير عميق على الأسر السورية والمجتمع ككل. عندما يتم اعتقال أحد أفراد الأسرة بشكل غير عادل، تنقلب حياة الأسرة رأسًا على عقب. يواجهون عديدًا من التحديات، بما فيه الخسارة وعدم اليقين والصعوبات المالية. هذه المأساة هي كارثة مجتمعية، وكما شهدنا، لا يمكن احتواؤها.
الحاجة إلى عمل عاجل ودعم دولي
كل سوري وسورية تحدثت إليهم يتحدثون عن أحبائهم الذين اختفوا، ويصلون من أجل معرفة مصيرهم. يحاولون كل شيء لمعرفة بعض الأخبار عنهم. نحن في حاجة ماسة إلى الخاتمة والتعافي.
يحتاج المعتقلون المفرج عنهم دعم شامل لسلامتهم. هذا يشمل تلبية احتياجاتهم الجسدية والنفسية، وحماية كرامتهم، وتسهيل لم شملهم السريع مع عائلاتهم. ينبغي إنشاء مجموعة عمل مخصصة لتنسيق هذه الجهود الأساسية. وينبغي لهذه المجموعة أن تنسق هذه الجهود في أقرب وقت ممكن وتعمل على دعم المعتقلين المفرج عنهم بمساعدة المنظمات السورية والدولية ذات الصلة، والاستفادة من خبراتها. من بين أولئك الذين يمكنهم المساهمة في هذه الجهود مجموعات المجتمع المدني السوري، والخوذ البيضاء، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، وغيرها من المجموعات الطبية الدولية.
ينبغي تكليف مجموعة عمل مخصصة أيضًا بتوثيق أسماء وتجارب المعتقلين المفرج عنهم وتوثيق الظروف في هذه السجون بشكل شامل، وتأمينها، فضلًا عن مواقع المقابر الجماعية. يمكن لعدة كيانات، بما في ذلك الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، ولجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، والمؤسسة المستقلة المعنية بالمفقودين في سوريا، ومنظمة العفو الدولية، أن تساهم في هذه الجهود.
هذه الأماكن هي مسارح جريمة ويجب عدم العبث بها. هذه المعلومات ضرورية لإعادة توحيد الأسر والحصول على العدالة. يتعين على الحكومات والأمم المتحدة والمنظمات الدولية أن تستعد على وجه السرعة لدعم هذه الجهود.
بصفتي معتقلًا سابقًا، أستطيع أن أشهد على التأثير الدائم للسجن. فهو ليس محنة مؤقتة فحسب؛ بل هو تجربة تغير الحياة وتخلف ندوبًا نفسية عميقة.
عام 2012، كنت أعمل في المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في دمشق، والذي كان يتمتع بوضع استشاري لدى الأمم المتحدة وركز على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان. كنت مسؤولًا عن قسم توثيق المعتقلين في برنامج توثيق الانتهاكات.
داهمت المخابرات الجوية مكاتبنا وخطفتني وزملائي وأخفتنا قسرًا دون أي اتصال بالعائلة أو المحامين. تعرضت للتعذيب اليومي من مختلف الأنواع حتى تم إطلاق سراحي في عام 2013 نتيجة للضغوط الدولية، بما في ذلك من منظمة العفو الدولية.
بعد إطلاق سراحي، كنت مثل طفل يتعلم الحياة من جديد، يتعلم المشي وكل شيء من جديد. كنت أعاني من أمراض مرتبطة بالاعتقال وكنت في حالة نفسية لا يمكن تجاهلها وكان لا بد من معالجتها بشكل مناسب.
تضاءلت عديد من أعراض وتأثيرات الاعتقال، وخاصة الجسدية منها، لكنني ما زلت أعاني من مشاكل نفسية. الاعتقال في سجون الأسد ليس حدثًا عابرًا في الحياة بل تجربة، إذا نجوت منها، فقد تتركك متغيرًا جسديًا وعاطفيًا وعقليًا بشكل دائم.
أخيرًا، تقول قوى المعارضة التي قادت تحرير المعتقلين إنها تريد تحقيق أهداف الثورة السورية، وطمأنة مختلف شرائح المجتمع السوري، وإرسال رسائل الثقة للشعب السوري. لذلك، ونظرًا لأولوية قضية الاعتقال، فيجب على جميع أطراف الصراع في سوريا، أن تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين والمعتقلين تعسفيًا في سجونها، وتحسين أوضاع السجون بما يليق بكرامة الإنسان، ودعوة الجهات الدولية لزيارة هذه السجون. هذه هي الخطوة التي ستساعد في إثبات جدية هذه القوات بأفعالها، وليس فقط بأقوالها، في حماية كرامة الشعب السوري، وتجنب زرع بذور الصراع مرة أخرى أو تكرار انتهاكات نظام الأسد التي تقول إنها تحرر الشعب السوري منها.
لحماية الشعب السوري من تكرار الأهوال التي تعرض لها، هناك عدة مجالات للعمل فيها وخطوات يجب اتخاذها، من أولها أن تضمن الحكومة المنتخبة القادمة:
التصديق على العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، بما في ذلك:
- الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري
- والبروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب
- ونظام روما للمحكمة الجنائية الدولية
- ودمجها في دستور سوري جديد والقانون الوطني.
لا يمكن للسوريين أن يخاطروا بالحرمان من حماية القانون الوطني والحماية الدولية مرة أخرى. قطعنا شوطًا طويلًا وبذلنا الكثير من التضحيات، ولن نستبدل الاستبداد والإفلات من العقاب بالاستبداد والإفلات من العقاب.
*منصور العمري، مدافع سوري عن حقوق الإنسان. حاصل على درجة الماجستير في القانون في العدالة الانتقالية والصراع. يعمل العمري مع منظمات حقوق الإنسان الدولية والسورية لمحاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا.
في عام 2012، اعتُقل العمري وتعرض للتعذيب من قبل الحكومة السورية لمدة 356 يومًا، بسبب توثيقه فظائعها أثناء عمله مع المركز السوري للإعلام وحرية التعبير كمشرف على مكتب المعتقلين.