ألف ألف مبارك.. الفرح بعد اليأس من كل فرح

tag icon ع ع ع

د. أحمد غياث سليمان

السيد رئيس تحرير صحيفة عنب بلدي

في 24 من تشرين الثاني 2016 أرسلت لكم آخر مقالاتي بعنوان “ثورة على العولمة” بعدما كنت قد توقعت في مقالتي “المذبحة السنية” قبل يومين من الانتخابات الأمريكية انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، على عكس التوقعات السائدة حينها والتي “تنبأت” بل واستبشرت خيرًا بانتخاب السيدة كلينتون المؤكد.

كتبت كل مقالاتي باسم “حركي” لكيلا يتضرر أقاربي في دمشق: أحمد الشامي.

تعرضت بعدها لأزمة صحية وقررت على إثر ذلك أن زمن الثقافة والكتابة قد فات أوانهما، وأن كل ما سوف أكتبه، بعدما بانت خيانة العالم بأسره للثورة السورية، سوف يكون سوداويًا ومتشائمًا للغاية.

مع الأسف وحتى نهاية تشرين الثاني الماضي، تحققت أغلب التوقعات المتشائمة باستثناء الموقف الأخلاقي والاستثنائي للسيدة ميركل (وهو ما كلفها السلطة فيما بعد)، والدعم الأردوغاني الذي تبين أنه لمصلحة تركيا طالما كانت مصالح الدولة التركية متناسقة مع مصالح السوريين الثائرين. هذا “الدعم” انتهى، على الصعيد الداخلي التركي إلى ما نعرفه من اضطهاد السوريين اللاجئين وإلى الرغبة في إعادتهم. بالنسبة للأتراك عودة السوريين تمر عبر مساعدتهم على تحرير بلادهم بضوء أخضر أمريكي وغض بصر إسرائيلي وصمت روسي من قبل “ظل الشيطان على الأرض” بوتين.

لا يجب أن نكون سذّجًا لنصدق أن داعمي تحرير السوريين قد “صحت” ضمائرهم وأنهم انتبهوا إلى معاناة هؤلاء المساكين في ظل نظام الكيماوي والبراميل.

يبدو لي أن سقوط النظام هو نتيجة منطقية للزلازل التي وقعت في العالم منذ شباط 2022:

– الغزو الروسي لأوكرانيا الذي توقع بوتين أن يكون نزهة وتحول إلى مستنقع تغرق فيه روسيا وقيصرها وتتورط فيه أوروبا، والكل سيهرع في النهاية لشراء أسلحة من “العم سام”. إضافة إلى أن روسيا أصبحت بسبب “اتفاقية مونترو” عاجزة عن إمداد الأسد بحرًا بالسلاح لكون سفنها الحربية التي تحمل العتاد العسكري ممنوعة من عبور الدردنيل.

– اغتيال قاسم سليماني، رجل إيران القوي والذي كان قادرًا على ملء أي فراغ في السلطة الإيرانية والتأثير على المرشد المريض والعجوز. تبع ذلك “موت” إبراهيم رئيسي الخليفة المحتمل لعلي خامنئي، في ظروف غامضة، ما أضعف “الحرس الثوري” وميليشياته والتيار المتشدد في إيران عمومًا.

– انتخاب بزشكيان لرئاسة إيران بموافقة المرشد، وهو ما قوّى التيار الإصلاحي في إيران، وهذا التيار يعتبر أن المشروع النووي الإيراني بلغ نقطة اللاعودة، وأن إيران أصبحت بمنأى عن أي تهديد جدي للنظام وأن “حزب الله” وكل محور “المقاومة والممانعة” لم يعد لهم من فائدة، بل إن المحور أصبح عبئًا على إيران، وتكلفته أكثر من فائدته. هكذا نفهم التضحية أولًا بإسماعيل هنية ثم بحسن نصر الله وبكوادر الحزب الإلهي بالجملة ومن بعدهم “بصبي الشام” وعصابته.

– شرارة الزلزال في منطقتنا كانت مذابح السابع من تشرين الأول 2023 والهولوكوست الغزي الذي تلاها، ما أطلق العنان للوحش الإسرائيلي بغطاء أمريكي لا سابق له، مع ما يعادل قنبلتين نوويتين ألقيتا على غزة الشهيدة، اقتداء بـ”قواعد حماة” التي سنها المقبور حافظ بمباركة إسرائيلية وسط تواطؤ ما يسمى “المجتمع الدولي”.

– الحزب الإلهي “تورط” بعدها في حرب إسناد خجولة دون أن يكون له سند حقيقي سوى ممثلي التيار المتشدّد في إيران و”الحرس الثوري”، وهم في حالة ضعف خاصة بعد الردود الإيرانية الضعيفة على العدوان الإسرائيلي. علمًا أن الغارات الأخيرة قضت على الدفاعات الجوية الإيرانية، دون أن تدمر المشروع النووي الإيراني بسبب الفيتو الأمريكي على هذا الخيار، خاصة أن مهاجمة المفاعلات النووية في إيران مستحيلة دون مشاركة أمريكية حاسمة. عدم مهاجمة المفاعلات النووية في الدولة الفارسية “طمأن” التيار الإصلاحي وقوّاه على حساب “الحرس الثوري” الذي عجز عن إسقاط ولو طائرة واحدة رغم أن الطائرات الإسرائيلية بقيت أربع ساعات على الأقل في الأجواء الإيرانية.

– انتخاب ترامب هذه المرة أتى في مصلحة السوريين “خارج إرادة” الرئيس المنتخب! يجب ألا ننسى أن الرئيس الحالي لأمريكا لا يزال العجوز بايدن، الصهيوني والآيل للرحيل، الرجل قام بالعفو عن ابنه المدان بالفساد، ثم “أهدى” إسرائيل الضوء الأخضر المعطى للأتراك ولعملية “ردع العدوان”.

الحقيقة أن سقوط نظام الأسد كان أكيدًا وكان يمكن لهذا السقوط أن يكون على يد أعوان إيران من أتباع “الحرس الثوري”، لإغراق سوريا بالميليشيات الطائفية تحت شعار “طريق القدس يمر من بيروت- دمشق وحتى صنعاء”. هذه الحالة كانت ستجبر الدولة العبرية على الدخول برًا لسوريا والغرق في مستنقع جاهز سلفًا بحكم حجم الدمار في هذا البلد. الدخول الإسرائيلي كان سيقوي موقف المتشددين في إيران على حساب الإصلاحيين على مبدأ “لا صوت يعلو على صوت المعركة”. بايدن وجد أن تسليم السلطة في سوريا لقوى سنية “مضبوطة” هو أفضل ضمانة لكيلا تقوم لـ”حزب الله” قائمة بعد الضربات الإسرائيلية عبر قطع خط الإمداد “القصير- البوكمال”.

ضربة معلم تضعف “الحرس الثوري” و”حزب الله” والتيار المتشدد وتصب بمصلحة إسرائيل وأمريكا دون تكلفة. سقوط الأسد هو “الجزرة” التي قدمت للثوار السوريين، علمًا أن “العصا” الإسرائيلية جاهزة دومًا للضرب بيد من حديد على “كل من يفكر في تهديد إسرائيل”، بحسب نتنياهو.

اللاعب الإسرائيلي هو إذًا في قلب الحدث السوري شئنا أم أبينا، الآن ذهب “الولد” ودخل “المعلم” إلى الساحة، وهو ما يفسر الغارات الإسرائيلية وتحركات القوات الإسرائيلية في الجولان لخلق واقع جديد يستفيد من الفوضى القائمة في البلاد بما يوجب التحرك السريع من أجل سلطة انتقالية لها مشروعية وقبول دوليين، كي لا نكسب دمشق ونخسر جنوبي سوريا إضافة إلى الجولان. مسارعة نتنياهو لإلغاء اتفاقية فك الاشتباك المشؤومة الموقعة عام1974 تنضوي في هذا الإطار.

هذه الاتفاقية هي في أصل الكارثة السورية. إسرائيل “أقطعت” سوريا لآل الأسد بشرط حماية حدود إسرائيل وبمباركة أمريكية وسوفييتية (حينها) مع السعودية في دور “بيت المال”، وأتى الإيراني بعدها إلى “عرس الدم السوري” مطالبًا بحقه في “حماية المراقد”. معاهدة الخيانة هذه أصبحت من التاريخ بعدما كلفت السوريين مئات آلاف الشهداء منذ “حماة” عام 1982 وحتى شهيدي الأمن السياسي منذ أيام، إضافة إلى ملايين المهجرين وعشرات آلاف المعتقلين، كل ذلك من أجل “أن يتزلج الإسرائيليون في الجولان بأمان”.

الذئب الإسرائيلي لم ولن يصبح “حملًا” دون “ربيع” إسرائيلي يقصي عصابة نتنياهو، الذي أمسك بالسلطة في إسرائيل لأطول مدة في تاريخ هذه الدولة، ووصل إلى الاستعانة ببن غفير وأتباعه المتطرفين من “فتيان التلال”. نتنياهو يخرج من معركة ليدخل أخرى ويطيل أمد الحرب، فقط لكي يبقى في السلطة ولا يذهب إلى السجن مثل أيهود أولمرت الذي كان أشرف منه بكثير.

لنتفاءل خيرًا، فجرير الذي أمضى عمره في هجاء الفرزدق بكى يوم وفاة هذا الأخير قائلًا : “واللهِ ما تبارى رجلان وتناطح كبشان، فمات أحدهما، إلا وتبعه الآخر عن قريب”، والله أعلم وعسى أن “يلحق الحبل بالدلو…”.

في النهاية وكما قال امرؤ القيس: “اليوم خمر وغدًا أمر”.

اليوم يوم فرح وعرس حرية وأمل، لتعود سوريا للسوريين جميعًا، بكل طوائفهم ومعتقداتهم، باستثناء من ولغوا في دماء الأبرياء أيًا يكن منبتهم.

مبارك لشعبنا، معارضة وثوارًا وحتى “موالين” مغلوبين على أمرهم.

ألف مبارك، لقد انتهى الجزء الأول من بناء سوريا الجديدة وقد كان الأقسى، لكن القادم صعب ويحتاج إلى كثير من الجهد والعمل.

هكذا هو الأمر في كل البلاد التي تعرضت لنكبات وخاصة بلدنا الذي عاش في “جحيم دولة العصابة”، “سوريا الأسد”، التي انتهت غير مأسوف عليها.

د. أحمد غياث سليمان “بيزية” فرنسا

سابقًا: “د. أحمد الشامي “.

نجاح

شكرًا لك! تم إرسال توصيتك بنجاح.

خطأ

حدث خطأ أثناء تقديم توصيتك. يرجى المحاولة مرة أخرى.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة