التماهي مع الدكتاتور.. متى يكون صحيًا؟
أحمد عسيلي
في معظم دساتير العالم تقريبًا، يمنع انتخاب رؤساء الجمهورية لأكثر من دورتين انتخابيتين، ولهذا العرف امتداد عريق في تقاليد الديمقراطية منذ لحظة تأسيسها في أثينا، بل في بعض الحالات وصلت تلك الديمقراطية الضاربة في القِدم إلى حدود متطرفة في هذه النقطة، فكانوا يمارسون النفي السياسي، وذلك بالطرد خارج المجتمع لأي شخص مهدد للديمقراطية، غالبًا لمدة عشر سنوات، مع وجود ضوابط كثيرة لذلك، هذا يدل على عمق فهم الحضارة اليونانية للنفس البشرية، فإمكانية أن تؤخذ الجماهير بعظمة شخص ما قد تحطم الديمقراطية في لحظة هوس بإنسان يملك “كاريزما” قوية، وإيمان المجتمع بأن شخصًا واحدًا (مهما كانت قدرات هذا الشخص) هو الحامي، المدبر لشؤونه، سيعمل على استصغار البشر لقدراتهم، فالمجتمع يجب أن يبقي على الثقة بذاته، وبقدراته الخاصة كمجتمع، دولة، وإلا سار في طريق الانحلال والضعف.
أذكر حول هذه النقطة فيلمًا إسرائيليًا حضرته منذ حوالي عشر سنوات كانت تدور أحداثه في روضة أطفال كانوا يغنون في الصباح نشيدًا تقول كلماته: من هو أعظم شخصية في إسرائيل، نحن هذا الجيل أعظم شخصية، كل جيل قادم سيكون الأعظم. تذكرت حينها كيف كنا أطفالًا نغني في مدارسنا لعظمة حافظ الأسد، كيف كانوا يغرسون في أدمغتنا أن كل ما نعيشه من “نعيم” هو بفضل “الأب القائد” حافظ الأسد، فلبناء الدكتاتورية جذور تغرس في الطفولة.
والسؤال هنا: هل يمكننا اعتبار هذا التماهي دومًا حالة مرضية؟
الجواب المباشر هو لا، بل العكس تمامًا، غالبًا ما يدل على صحة نفسية، فهو أصلًا ما يمنح حياة الإنسان نوعًا من المعنى، يضفي عليها الكثير من الجمالية، فبناء علاقات متخيلة مع شخصية ما، أو (بمرحلة ذهنية أرقى) فكرة ما، أو مذهب فكري أو سياسي، هو الذي يمنحنا السعادة، حالة من الرضا عن النفس. أشيع مثال على ذلك، تعلق بعض الجماهير بأحد الأندية الرياضية، ما يجعلها تتابع جميع مبارياته، تبتهج بفوزه، تحزن لهزائمه، يمنحها الكثير من المتعة في أثناء لحظات التشجيع، لأن المشجعين اعتبروا هذا النادي كأنه جزء من حياتهم، بنوا علاقات متخيلة مع تلك النوادي، رموزها، مع أنهم واعون لحقيقة أن لا علاقة واقعية حقيقية أو مجردة تربطهم بهذا النادي أو ذاك، سوى تلك التي بنوها بأنفسهم، يعيشونها مع أنفسهم بخيالاتهم، في عالمهم الخاص.
هذا التماهي والانصهار المتخيل مع هذا النادي أو ذاك، أو مع هذا التيار الفكري، أو مع أيديولوجيا معيّنة، يصل إلى حد أن يمنح الإنسان حياته ثمنًا لهذه الفكرة المتخيلة، وهذا ما أعطى للتاريخ حراكًا، دينامية، وهل فكرة “اليوتيوبيا” سوى ذلك؟ من هو بالنهاية تشي غيفارا أو سناء محيدلي سوى أشخاص وصل التماهي بينهم وبين فكرهم إلى درجة الانصهار التام، التضحية بحياتهم في سبيل إيمانهم بقضيتهم.
لنفهم مدى صحية هذا الشكل من التماهي، دعونا نتخيل الإنسان لو جرد من هذه القدرة، ولم يعد باستطاعته إنشاء تلك الروابط المتخيلة، السباحة في بحوره الخاصة. حينها يعيش هذا البائس في سجن المادة، ينعدم الخيال، وتفقد الأشياء رمزيتها، تصبح الكتب بلا معاني، تتحول إلى مجرد ورق، المتاحف مجرد حجارة، الرياضيون مجرد رجال يركضون، يقفزون، بل، أحيانًا الإنسان كله مجرد جسد، لا روح له، لا شيء يميز أي فرد عن آخر، تنعدم القدرة على الحب، على الإحساس بالموسيقا والأدب.
نحن بحاجة لنخلق معانينا، وقيمنا، تراثنا، لكن (هذا أهم ما في هذه المقالة من فكرة) يجب أن تبقى هذه الحاجة تحت سيطرتنا، ضمن مجال وعينا، تحكمنا، فهي (ككل الغرائز، اللذات) يمكن أن تجرفنا معها، حين نعجز عن فهمها، وضعها في مكانها الصحيح بأولويات حياتنا.
يمكن هنا أن نفهم لماذا تصر بعض الملكيات الأوروبية على الاحتفاظ بتراثها الملكي رغم ديمقراطيتها، لماذا تصر بعض تلك الدول على خروج الملك أو الملكة في خطابات بأيام معيّنة، بتواريخ معيّنة، بل، في بعض الدول بأماكن محددة، لأن تلك الشخصيات ممثلة للدولة، تربطهم بها علاقات شخصية (تخيلية) ومعنوية قوية، فهم مدركون لأهمية هذه الروابط في تشكيل المجتمع، لكنها لن تخرج عن هذا الحد الذي يخدم حاجة نفسية للشعب.
رموز السينما والغناء أيضًا حالة صحية من التماهي، حين تبقى في إطار واعٍ، مدرك للدرجة التي يمكننا أن نتماهى فيها مع هذا الممثل أو ذاك النادي الرياضي، فنبقي على مسافة واعية منه، نحدد مكانته في حياتنا النفسية، وإلا تحول إلى مرض حقيقي، كما حدث ذات مرة مع أحد مشجعي نادي الزمالك في مصر، الذي تعرض لأزمة قلبية حادة بعد خسارة أمام الأهلي، فمن قال إن الأمراض، والعلل النفسية، لا تقتل أحيانًا.
هذه الحاجة تستغلها الأنظمة الدكتاتورية بشكل كبير، فتحاول أن ترسم الدكتاتور دومًا كأنه أب للشعب، حامٍ له، مخلصه، أمله، كلنا يتذكر كيف كانت تتنشر في سوريا ملصقات لصور حافظ الأسد، عليها جملة “الأب القائد”، مع أننا جميعا نعلم أنه ليس أبانا، إنما هو شخص عادي، لديه أسرته الخاصة التي يحبها أكثر من الجميع، يعمل على نقل سلطته لأحد أولاده الحقيقيين، هو يحتل منصبًا إداريًا في الدولة، رابطتنا به يجب أن تبقى ضمن هذا المنصب، حين توفي ابنه باسل، كان الهتاف: كلنا باسل، هذا الهتاف أثر في الكثيرين، خاصة مع المؤثرات الموسيقية، لدرجة جعلتهم فعلًا يعتقدون أن هناك رابطة أخوة حقيقية تربطهم بباسل (خاصة في حاضنته الشعبية)، مع أنه واقعيًا، بشكل مجرد، إن كانت هناك رابطة تربطهم مع باسل، فهي رابطة استغلال، نهب، إخضاع.
أولى الطرق للتخلص من إمكانية إقامة نظام دكتاتوري مستقبلًا، هي نزع فكرة الرمز، الأب، الشخص ذي القدرات الخارقة، اتكالية المجتمع على هذا الشخص، بل يجب اعتماد هذا المجتمع على نفسه فقط.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :