عن الذين يعاندون عقارب الساعة
غزوان قرنفل
لم يكن الاجتياح الكبير لمناطق سيطرة النظام، الذي تم في بضعة أيام لا أكثر، عملًا عسكريًا اعتياديًا من تلك التي اعتادت عليها مساحة الصراع في سوريا طوال 12 عامًا. حقًا لقد كان زلزالًا جيوسياسيًا بدّل قواعد الصراع نفسه، واقتنص أوراق قوة تسمح للسوريين الواقفين على ضفة الثورة بالتفاوض بزخم وقوة أكبر، بعد أن انتزعوا من خصومهم أوراقًا ليس من السهل على هؤلاء ابتلاع خسارتها.
غني عن القول بطبيعة الحال إن هذا الفعل لم يكن ليحصل دون ضوء أخضر تركي، وربما غض طرف روسي، أريد به في المقام الأول كسر شوكة “الأسد” وإجباره على الامتثال لموجبات الرسائل الدبلوماسية التي حضّته عليها روسيا بشأن الاستجابة لرسائل التطبيع التركية، وهو ما يعني أن العملية كان يفترض أن تكون محدودة الزمن والنطاق الجغرافي بما يسمح باستعادة المناطق التي خسرتها الفصائل المعارضة عام 2020 أو بعضها، وربما لم تتوقع روسيا، أو ربما تركيا أيضًا، أن تتطور الأمور باتجاه السيطرة مجددًا على حلب التي استماتت روسيا قبل ثماني سنوات لانتزاعها من الفصائل المعارضة.
حجم الانهيار والضعف والارتباك في صفوف النظام وميليشياته كان صادمًا ومفاجئًا، رغم إدراكه أن المعركة قد تتطور باتجاه حلب نفسها، بدليل التحضيرات والأوامر التي تسرب بعضها بضرورة إخراج ونقل جميع السجلات الحكومية وإفراغ المصارف منها، وهذا يؤشر إلى مدى هشاشة النظام ومؤسساته العسكرية والأمنية التي ما عادت قادرة على تنظيم دفاع حقيقي عن مدينة كبرى كحلب دون أن يكون لديها دعم كبير من حلفائها، وخاصة من الميليشيات الطائفية الشيعية و”الحرس الثوري الإيراني”، الذي ما إن فقدهما بسبب الاستهداف الإسرائيلي لهما وتقليم أظافرهما في سوريا ولبنان، وانشغال روسيا في وحلها الأوكراني، حتى بان العجز فاضحًا على سلطة لا تملك إلا الاستقواء على شعبها واستباحته.
على المستوى النظري والدبلوماسي، لا يمكن افتراض أن هذه العملية أسقطت صيغة “أستانة” بكليتها والاتجاه نحو نهج الحسم العسكري لهذا الصراع، ربما يمكن تأويلها على أنها كسر للمحددات التي أجبرت الفصائل المسلحة المعارضة على الامتثال لها إثر هزيمتها العسكرية عام 2020 وتقلّص مساحات سيطرتها الجغرافية كثيرًا بما لا يجعل لها أي وزن أو قيمة فارقة في معادلات الحل السياسي، خصوصًا مع جنوح أنقرة نحو المصالحة مع النظام وإيجاد تفاهمات معه تتيح لها إعادة اللاجئين وسحب قواتها العسكرية من سوريا دون قلق على أمنها القومي، كما كانت تعتقد، والتي لم يستجب لها النظام، ونشكر الله أنه لم يفعل.
إذًا، هذه الانتصارات ليست فقط تضيف تثقيلًا قويًا لوزن القوى المعارضة، بل أيضًا تمنحها زخمًا وأوراقًا تفاوضية قوية، تجعلها قادرة على قبول أو رفض ما يمكن قبوله وما يتعين رفضه، والمعيار في ذلك دائمًا هي مطالب السوريين بطي صفحة الاستبداد وتفكيك بناه وأدواته السلطوية والانتقال إلى ضفة تحول ديمقراطي حقيقي يعلي من شأن الإنسان وحقوقه ويكرّس مبادئ المواطنة وسيادة القانون.
الحقيقة أن السوريين أمام مرحلة جديدة واستحقاقات كبيرة مرتبطة بالإجابة عن سؤال جوهري ذي شقين، الأول منهما يتعلق بالمقاربة الروسية الصدئة للمسألة السورية التي تبنتها موسكو منذ بدء الاحتجاجات قبل 13 عامًا، عندما حبست نفسها ضمن معادلة أنها “لن تسمح للسنة بحكم سوريا”، وأن نظام الأسد هو البديل عن نظام الأسد! أما الشق الثاني فيتعلق بالنظام نفسه وبقدرته على الاستجابة الجدية لموجبات حل سياسي حقيقي ومستدام في سوريا.
منطق الأشياء يقودنا لإجابة تقول إن الأسد لا يستطيع ولا يرغب بالامتثال لموجبات الحل السياسي، لأنه يدرك أن أي حل يتسم ببعض الموضوعية يعني دقًا للمسامير الأخيرة في نعشه، وأن روسيا نفسها لم تعد على الأغلب قادرة على الخروج من مقاربتها الغبية والقاصرة للحل في سوريا، بعد أن أعملت قتلًا في السوريين واختبرت أسلحتها على حيواتهم وأحيائهم ومدنهم، إلا إذا حصلت على ضمانات تحميها من المساءلة عن تلك الجرائم، وأن يكون لها دور وكلمة في تشكيل بنية السلطة البديلة إن حصل توافق دولي معها على ذلك.
خارج هذا السياق أعتقد أن الصراع سيبقى مفتوحًا، على الأقل في الآماد المتوسطة، على مختلف الاحتمالات، رغم أن جميع الأطراف الإقليمية والدولية يفترض أنها قد تعزز الإدراك لديها الآن أن السوريين ليسوا في وارد التخلي عن حقوقهم وأحلامهم بالعيش كبشر.
المساعي الدبلوماسية تنصب الآن لبعث الروح في صيغة “أستانة” عبر الصدمات الكهربائية بهدف معاندة عقارب الساعة، وغالبًا سيتم الاشتغال على تفاهمات بين الفاعلين ليست معظمها في مصلحة السوريين، فحذارِ من أولئك الذين يؤخذون مخفورين ليكونوا شهود زور على موت أحلام السوريين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :