عنب بلدي – نوران السمان
“يا دار تركنا فيك بعض مهجتنا، فهل للقياك يبقى عندنا أجل؟ تبكي الزوايا فكم ضمت لنا قصصًا، حتى الحجارة قد حنت لساكنها، فكيف بالقلب إذ ضاقت به الحيل؟”.
يظهر رجل متقدم بالسن، في مقطع مصور نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي يلقي أبيات الشعر هذه بصوت مرتجف، مستعيدًا شعوره حين رأى منزله بعد خمس سنوات من الغياب.
يقف الرجل أمام منزله القديم بحلب، ينظر إلى الجدران التي احتضنت صباه، ملامسًا أحجار بيته ومستذكرًا صخب الأيام الجميلة التي عاشها قبل أن تفرقه الحرب عن بيته.
الفيديو هو واحد من آلاف اللحظات الإنسانية التي عاشها السوريون العائدون إلى مدنهم ومنازلهم في الأيام الأخيرة، بعد سنوات من النزوح القسري، هربًا من قصف مستمر، ودمار لم يترك زاوية في المدينة إلا وطالها.
ويأتي ذلك بعد إعلان فصائل المعارضة السورية دخول مدينة حلب، وسيطرتها على المدينة، لتكمل تقدمها إلى مدينة حماة، في ظل انهيارات كبيرة ومتتالية في صفوف قوات النظام السوري.
وداع حلب.. وداع بلا أمل
عبد الغفور، شاب غادر حلب عام 2013، قال لعنب بلدي، “عندما تركت حلب، أصبت باكتئاب شديد، فقدت الكثير من وزني، وكنت أعيش في حالة مستمرة من القلق”.
وجد عبد الغفور في دراسته متنفسًا، فأنهى تخصصه في الأدب الإنجليزي، لكن ذلك لم يكن كافيًا لتخفيف ألم الفقد والشوق لعائلته ومدينته.
أضاف الشاب أن دافعه للصمود كان إيمانه بـ”الثورة”، إذ ظل يحلم بالعودة يومًا ما، رغم أن الأمل “كان ضعيفًا” في عودته إلى منزله ورؤية عائلته مجددًا.
وعندما سُئل عن حجم شوقه لعائلته، لم يتمكن من الرد، بل اكتفى بإرسال مقطع مصور يظهر فيه وهو يعانق أفراد أسرته بحرارة وسط مشاعر الفرح والدموع التي تخللتها أصوات الأنين والشوق، في لحظة وصفها بأنها “أعادت للحياة معناها”.
قصص العودة.. استعادة للروح والذكريات
على غرار عبد الغفور، يعيش الآلاف من أبناء حلب قصصًا مشابهة، بينهم محمد حفار، وهو ناشط إعلامي من أهالي حلب، يصف شعوره عند دخول حلب لأول مرة بعد سنوات من التهجير، بالقول، “كأنني أعيش حلمًا، رأيت المدارس، والمقابر، والأحياء القديمة، ورغم الدمار، فإن تلك اللحظة تعوض كل شيء”.
وأضاف، “حلب هي مسقط رأسي، ووالدي مدفون فيها، لذلك كانت العودة حلمًا بالنسبة لي”.
غادر محمد حلب في عام 2016، تاركًا وراءه كل ذكرياته وأهله، وكان يرى في العودة استعادة لروحه التي تركها هناك، “عندما رأيت شوارع حلب القديمة وناسها، شعرت وكأنني أستعيد نفسي من جديد”.
القصف لم يترك آثاره على البنية التحتية التي دُمرت فحسب، بل أيضًا على النفوس التي أنهكتها الغربة وفقدان الأحبة، وبالنسبة لجيل كامل من الشباب السوريين، كانت العودة إلى ديارهم بمثابة محاولة لاستعادة حياتهم التي توقفت مع بداية النزوح.
قال محمد عن مغادرته حلب، “روحي بقيت هناك، وغادرتُ بلا روح”، لتعود الآن عند رؤية مدينتي.
وأضاف، “رغم الخوف الذي ما زال يرافقنا، فإن رؤية مدينتنا وناسها تعني أننا استطعنا الوقوف مجددًا”.
الحنين للوطن والآمال
يظهر مقطع مصور نُشر على وسائل التواصل الاجتماعي إلى جانب العديد من المقاطع الأخرى، اجتماع شقيقين بعد سنوات من الفراق في مدينة حلب، معانقين بعضهما بحرارة وسط أفراد العائلة.
وفي مقطع آخر، يجتمع الناشط السوري أنس قضيماتي بعائلته بعد سبع سنوات من التهجير، تلك اللحظات لم تكن مجرد لقاءات عائلية، بل كانت استعادة للذكريات التي توقفت عندها الحياة، وعودة إلى الأحضان التي اشتاقوا إليها طويلًا.
العودة بالنسبة إلى الكثيرين ليست مجرد عودة إلى أماكن عادية، بل إلى ذكريات وأحلام توقفت عندها الحياة، وكأن المشاعر المختلطة بين الفرح والحزن كانت حاضرة في كل المدينة.
وأما عن أمل المبعدين الآخرين عن بلدهم، فيترقب منصور، الذي يقيم في مدينة اسطنبول التركية، العودة إلى حيه في الغوطة الشرقية.
وقال إن “تحرير حلب أعاد لنا الأمل، وننتظر بفارغ الصبر تحرير بقية المناطق لنجتمع بعائلتنا”.
وفي كل حي من أحياء حلب، هناك قصة تُروى عن ألم الحرب وأمل العودة، وتجسد تلك القصص قدرة الإنسان على الصمود والنهوض رغم أصعب الظروف.
العودة إلى المنازل ليست مجرد لحظة استرجاع للمكان للاجئين السوريين، بل بداية لرحلة إعادة بناء ما دمرته الحرب، سواء كان ذلك على مستوى البنية التحتية أو الأرواح التي نزفت من شدة الشوق، وكانت رجوعًا إلى جذور الهوية، وإلى ذكريات تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة كل فرد عاش فيها، وكأن كل لقاء في حلب يشبه ولادة جديدة.
ملايين اللاجئين ينتظرون
يعاني ملايين اللاجئين السوريين ظروفًا صعبة، بين تهديدات بالترحيل وعدم الاستقرار، إضافة إلى التمزق والتشتت الاجتماعي جراء انفصال معظم العوائل عن بعضها.
ويوجد نحو خمسة ملايين لاجئ سوري في دول محيطة بسوريا، ففي تركيا وحدها هناك نحو ثلاثة ملايين لاجئ ينحدرون من مختلف المحافظات السورية، كما يوجد نحو مليون و850 ألف لاجئ في الأردن ولبنان والعراق ومصر، وتبلغ نسبة الأطفال والشباب منهم نحو 68%، وبين مجمل اللاجئين في الجوار هناك 900 ألف شخص من ذوي الإعاقة.
ويتوزع ملايين السوريين اللاجئين في دول أخرى، فهناك أكثر من شخص واحد من بين كل خمسة سوريين في عداد اللاجئين، وهذا يجعل سوريا الدولة التي تضم أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة لعدد سكانها بمعدل 20 ألف لاجئ لكل 100 ألف نسمة، وفق تقرير اتجاهات النصف الأول من عام 2024، الصادر عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.