حسن إبراهيم | علي درويش
كسرت عمليات فصائل المعارضة السورية جمود جبهات القتال شمال غربي سوريا، بعد ثبات خريطة السيطرة منذ آذار 2020، لتغير معادلة القوى والنفوذ، وتتجاوز قواعد الاشتباك، معلنة عن مرحلة جديدة في المنطقة، متجاوزة اتفاقيات دولية تحكمها.
مدينة حلب، مركز ثقل الشمال السوري، وعشرات القرى والبلدات في أرياف حلب وحماة وإدلب، انتزعتها الفصائل من قبضة قوات النظام السوري وميليشيات إيران و”حزب الله” اللبناني بسرعة مفاجئة، في حدث استثنائي لفت الأنظار إليه، منذ إطلاق المعارك فجر 27 من تشرين الثاني الماضي.
وسبق عمليات المعارضة السورية ويرافقها مناخ سياسي معقد، وسط مؤشرات على “رضا” ووجود “ضوء أخضر” تركي، وتعاطٍ “بارد نسبيًا” من روسيا رغم قصفها المنطقة، ورواية معتادة من النظام وقواته التي تتحدث عن “التصدي وإعادة التموضع” وتتوعد بالرد ثم الانسحاب، في توقيت يراه خبراء ومحللون أنه ملائم ومناسب للتغيير وفرصة مواتية، خاصة مع ضعف موقف إيران وميليشياتها، ويحمل في طياته وجهًا جديدًا لسوريا.
بدأت المعارك بعمليات “ردع العدوان” التي انطلقت من إدلب إلى مدينة حلب وأرياف إدلب وحلب وحماة، ثم انضمت إليها عمليات “فجر الحرية” التي أطلقها “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، في 30 من تشرين الثاني، ضد قوات النظام و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وسيطر بها على مناطق متفرقة في ريف حلب الشرقي.
في هذا الملف، تواكب عنب بلدي سير عمليات المعارضة السورية، وتسلط الضوء على تحضيراتها والفصائل المشاركة فيها، والمناطق التي سيطرت عليها، وتناقش مع خبراء ومحللين دلالات التوقيت والمكاسب والخسائر منها، وتأثر الأطراف الداخلية والخارجية الفاعلة في المنطقة، ومآلات العملية ومستقبلها.
تقدم سريع.. النظام ينهار
رغم اتفاق “موسكو” أو “وقف إطلاق النار”، بين روسيا وتركيا عام 2020، الذي يحكم الشمال السوري، لم تتوقف قوات النظام وحلفاؤها والطيران الروسي عن قصف واستهداف المنطقة، وبقي الاتفاق “حبرًا على ورق”.
وبحسب أحدث إحصائيات “الدفاع المدني السوري” (الخوذ البيضاء)، استجابت فرقه منذ بداية العام الحالي حتى 10 من تشرين الثاني، لأكثر من 876 هجومًا من قبل قوات النظام وروسيا وحلفائهما على شمال غربي سوريا.
وتسببت هذه الهجمات بمقتل 80 مدنيًا، وإصابة 372 آخرين، بينما تواصل فرق “الدفاع المدني” استجابتها وتوثيقها للقصف، منها مقتل 24 مدنيًا وإصابة 95 آخرين، خلال 27 و28 و29 من تشرين الثاني.
بطريقة كلاسيكية، بدأت فصائل المعارضة هجومها على مواقع النظام بريف حلب الغربي، مهدت بسلاح المدفعية، وتقدمت مجموعات مقاتلة إلى نقاط قوات النظام والميليشيات الإيرانية، التي بدأت بالسقوط الواحدة تلو الأخرى وبوتيرة سريعة.
رافق إعلان العملية، تنظيم وتجهيز يعد الأول من نوعه في مناطق سيطرة المعارضة، من عدة نواحٍ، سواء الطبية أو الخدمية وحتى العسكرية، فجميع البيانات تصدر عن غرفة واحدة دون أن تسمي أي فصيل.
المعركة ضمت الفصائل المنضوية في غرفة عمليات “الفتح المبين”، وهي “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير” و”جيش العزة”، كما شاركت فصائل من “الجيش الوطني” أبرزها “الجبهة الشامية” و”القوة المشتركة” و”حركة نور الدين الزنكي”.
ثلاثة أيام فقط، أعلنت خلالها الفصائل سيطرتها على كامل ريف حلب الغربي إداريًا، وفتحت محورًا آخر بريف إدلب الشرقي، ودخلت حلب المدينة ووسعت سيطرتها، وسيطرت على كامل محافظة إدلب إداريًا، ثم وصلت مدينة حماة، التي لم تدخلها منذ عام 2013، في حضور لم يرقَ للسيطرة العسكرية آنذاك.
وكانت أحياء حلب الشرقية خرجت عن سيطرة فصائل المعارضة، في كانون الأول 2016، حين ودع مقاتلو المعارضة ونحو 75 ألفًا من السكان مدينتهم بعد أشهر من الحصار ومعارك الكر والفر على أسوار المدينة، وعشرات المجازر بحق المدنيين، التي نفذها طيران النظام وروسيا.
“كتائب شاهين”
استخدمت الفصائل المشاركة في العملية أنواعًا مختلفة من الأسلحة الخفيفة والثقيلة (دبابات، مدفعية، راجمات صواريخ) والمتوسطة، من بينها رشاشات مضادة للطائرات من عيار 14.5 و23 ملمترًا، إلى جانب قناصات من أنواع مختلفة تملكها سابقًا الفصائل، أحد أنواعها محلي الصنع، بحسب ما رصدته عنب بلدي على معرفات الفصائل.
وشاركت “سرايا القتال الليلي” لاحقًا في العمليات، وهي عبارة عن مجموعات مدربة للمشاركة بالعمليات العسكرية الليلية ومزودة بأسلحة مناسبة لطبيعة هذه المعارك.
وظهرت لأول مرة وبإعلان رسمي “كتائب شاهين”، وهي المسؤولة عن استخدام سلاح المسيّرات خلال العملية، والتي أطلقت أنواعًا مختلفة من المسيّرات، منها ما يطلق بدفع أولي من قبل شخص، بنفس طريقة المسيّرات المصنعة التي استخدمها تنظيم “الدولة الإسلامية” سابقًا.
مسيّرات أخرى أطلقت من منصة لم يُعرف نوعها بعد، إن كانت مصنعة محليًا أو تم شراؤها من الخارج، وهناك نوع آخر معروف من حيث الشكل، وهو المسيّرات ذات الأربع مراوح، إلى جانب مسيّرات محلية الصنع طورتها على مدار سنوات فصائل “غرفة عمليات الفتح المبين”.
وزودت المسيّرات بذخائر، غالبًا تكون عبارة عن قنابل (محلية الصنع أو غيرها) أو قذائف من أنواع مختلفة خفيفة الوزن، كي تستطيع المسيّرة حملها والوصول إلى الهدف.
كما ظهر نوع آخر من المسيرات قادر على حمل ذخائر ثقيلة الوزن، لم تعلن الفصائل حتى الآن حجمها ونوعها ووزنها.
طيران النظام يقصف أكثر من الروسي
في المقابل، لم يكن للطيران الروسي الوقع العسكري المعتاد، بعدما عرف بتمهيده الدموي وفتح الطرق أمام قوات النظام للسيطرة على المناطق، خاصة بين 2015 وآذار 2020، وارتكابه مئات المجازر بحق السوريين.
“المرصد 80” المتخصص برصد التحركات العسكرية، قال لعنب بلدي، إن الطائرات الروسية التي تشن غاراتها على الشمال السوري تنطلق من مطار “حميميم” في اللاذقية، بينما الطيران الحربي التابع لقوات النظام يقلع من ثلاث مطارات هي “السين” بريف دمشق و”التي فور” (T– 4) شرقي حمص و”كويرس” بريف حلب (قبل السيطرة عليه من فصائل “الوطني”).
طيار منشق عن قوات النظام أوضح لعنب بلدي، أن الطيران الروسي يقتصر حاليًا على بعض الطلعات الجوية خلال سير العمل القتالي، وعلى أهداف مجهز لضربها سابقًا، وينفذ ضربات على خطوط الاشتباك لأنه دقيق بعكس الطيران السوري، وذلك لتقليل خطورة التنفيذ على قوات النظام والميليشيات الرديفة، وهذا عكس سلوكه في السنوات السابقة، حين كان الطيران الروسي يكثف غاراته أيضًا على الحاضنة الشعبية، مستخدمًا أسلوب الأرض المحروقة، لإفراغ المنطقة من أهلها.
واعتبر الضابط أن تنظيم سير العمليات القتالية من الفصائل، قلل من مخاطر تأثير الطيران الروسي الذي يستهدف خطوط القتال، وهو أمر يُحسب للفصائل، لافتًا إلى أن النظام هو المتكفل بالتغطية الجوية، وله الحيز الأكبر حاليًا بتنفيذ الضربات.
ولأجل التقليل من أثر الطيران السوري- الروسي، يجب الاستمرار في عمليات التنظيم والتواصل والرصد، وهو ما يتعلق بالطيران الروسي، أما طيران النظام، فيمكن التعامل معه باستخدام رشاشات مضادة للطيران من “عيار 23″ و”57” ملمترًا، ما يمكن أن يعوق تأثيره على خط الجبهة، وفق الضابط.
وأشار الضابط إلى أن “إدارة العمليات العسكرية” وسعت جبهتها بشكل محكم ومنضبط وتدريجي، وهو ما يحتاج إلى طلعات كثيفة على خط جبهة واسع وعريض، ما قلل من أثر الطيران الروسي على إعاقة تقدم الفصائل.
“إدارة احترافية”
العقيد المنشق عن قوات النظام والخبير العسكري عبد الجبار العكيدي، أرجع التقدم السريع لفصائل المعارضة لعدة أسباب هي:
1 – التحضير الجيد للفصائل المنخرطة في “إدارة العمليات العسكرية” ضمن عملية “ردع العدوان”، وخبرتها العسكرية، فعناصرها مدربون بشكل جيد خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية من الجمود العسكري، وخاضعون لدورات ومعسكرات تدريبية في اختصاصات معينة، ومستفيدون من التكنولوجيا الحديثة في التصنيع، خاصة تصنيع الطائرات المسيّرة والعربات المدرعة الناقلة للجند.
2- القيادة الاحترافية المتميزة في إدارة المعركة، إذ شتتت النظام ودخلت من محاور الريف الغربي بالبداية، ثم توسعت بشكل عرضي باتجاه اليمين واليسار (اتجاه ريف حلب الشمالي وريف حلب الجنوبي) باتجاه سراقب، والتف العناصر من جهة خان طومان وعندان، وقطعوا خطوط الإمداد عن نبل والزهراء، وقطعوا خطوط الإمداد بالعنصر البشري عن الميليشيات الموجودة التابعة للنظام.
3- قوات النظام بالأصل منهارة منذ العام 2015، والميليشيات الإيرانية متعبة، ووضع إيران صعب الآن، و”حزب الله” اللبناني منهار.
4 – صعوبة وضع النظام الاقتصادي، فلا روسيا ولا إيران تقدمان له شيئًا، وهو غارق في الديون.
5 – ضعف العقيدة العسكرية لعناصر النظام، فعناصر الميليشيات الإيرانية يقاتلون في أرض ليست أرضهم، بينما عناصر فصائل المعارضة يقاتلون عن مبدأ وعقيدة قتالية صحيحة، إذ يقاتلون لاستعادة أرضهم التي هجّروا منها.
6 – الأهم استمرار زخم الفصائل في التقدم دون توقف، ومنع جيش النظام من التقاط أنفاسه.
وأضاف العكيدي لعنب بلدي، أن على الفصائل تحصين الدفاعات وتقوية الخطوط وتطمين المدنيين من كل المكوّنات في حلب، والكرد في حيي الأشرفية والشيخ مقصود في حلب، والشيعة في مدينتي نبل والزهراء.
وبعد السيطرة على المنطقة وتمشيطها من قوات النظام و”الشبيحة” وعناصر الأمن وأي خلايا، يجب تركها لإدارة مدنية، والتوجه لجبهات أخرى، لأن “الهدف دمشق وإسقاط النظام وإقامة دولة مدنية ديمقراطية، دولة حرية وعدالة لكل السوريين”، وفق تعبير العكيدي.
توقيت ملائم..
حلفاء النظام منشغلون
قبل الضغط على الزناد، شهدت الأشهر الثلاثة الماضية موجات نزوح لآلاف العائلات في ريف إدلب وحلب إلى مناطق شمالي إدلب، بحيث تكون أبعد عن خطوط التماس مع قوات النظام، بعد حديث لقي رواجًا عن “عملية عسكرية محتملة”، دون أن تُحدد الجهة التي ستطلقها بدقة، مع تصعيد من النظام السوري وقواته على الشمال السوري.
ومطلع تشرين الأول الماضي، ذكرت صحيفة “الوطن” المحلية المقربة من النظام، أن النظام رفع الجاهزية العسكرية على جبهاته في منطقة “خفض التصعيد” بأرياف إدلب وما حولها، تحسبًا لهجوم من “الإرهابيين”، على حد وصفها.
الباحث في الجماعات الجهادية والحركات الدينية عبد الرحمن الحاج، قال لعنب بلدي، إن ثلاثة أسباب قادت فصائل المعارضة للقيام بعملية “ردع العدوان”، الأول استباق لعمليات كان يجهز لها النظام ويحشد لها (الفرقة 25 كانت تعد العدة للتقدم نحو مناطق سيطرة المعارضة).
وأضاف الباحث أن السبب الثاني كان لأجل منع “حزب الله” من التمركز في مناطق ريف حلب، والاستقرار فيها بعد الاستهداف الإسرائيلي في لبنان، والثالث من أجل الاستفادة من الوضع الإقليمي الحالي، واستهداف الوجود الإيراني وطرق إمداده.
ولفت الحاج إلى أن للعملية أهدافًا معلنة، هي وقف عدوان الميليشيات الإيرانية والنظام المستمر لأشهر طويلة من الاستهداف اليومي بالطائرات الانتحارية للمنطقة، معتبرًا أنه هدف غير واضح الحدود، وقابل للتوسيع والتأويل.
الباحث السياسي في مركز “جسور للدراسات” عبد الوهاب عاصي، ربط توقيت المعركة بأمرين أساسيين، الأول سوري يتعلق بجولة “أستانة 22″، لأنها عادة كانت مفاوضات مرتبطة بتثبيت “وقف إطلاق النار” شمال غربي سوريا، أو استمرار الخلاف بين الضامنين، وبالتالي استمرار الخروقات، أو تغير قواعد الاشتباك عند خطوط التماس.
وأضاف عاصي، لعنب بلدي، أن انطلاق المعركة بعد جولة “أستانة 22” يعني بشكل قاطع أن هناك أمرًا حصل بهذه الجولة، أدى إلى عدم استمرار العمل باتفاق “وقف إطلاق النار”.
ما يحصل على الأرض جاء بخلاف ما صدر عن البيان الختامي لاجتماع “أستانة” بصيغته الـ22 عن تركيا وروسيا وإيران، في 12 من تشرين الثاني الماضي، إذ اتفق فيه المجتمعون على أهمية استمرار الجهود الرامية لاستعادة العلاقات بين تركيا والنظام السوري من أجل “مكافحة الإرهاب”، وخلق الظروف المناسبة لما وصفها البيان بـ”العودة الآمنة والطوعية والكريمة للسوريين” بمشاركة مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
المجتمعون استعرضوا بـ”التفصيل” الوضع في منطقة “خفض التصعيد” بمحافظة إدلب، وأكدوا ضرورة الحفاظ على “الهدوء على الأرض” من خلال وقف إطلاق النار الكامل.
وفق عاصي، فالأمر الثاني مرتبط بالوضع الإقليمي، إذ جاءت المعركة بالتزامن مع وقف إطلاق النار بين إسرائيل ولبنان، وهو استثمار لوقت كانت فيه الميليشيات الإيرانية و”حزب الله” منشغلة ومنكفئة باتجاه الصراع مع إسرائيل.
ويعتقد عاصي أن فصائل المعارضة و”هيئة تحرير الشام”، كان لديها تقدير عالٍ بأن التدخل الروسي سيكون محدودًا، ومن غير الوارد أن تستهلك موسكو قدرتها ومجهودها الحربي في معارك الشمال السوري، لأن تركيزها العسكري متوجه نحو مناطق الساحل، والعاصمة ومناطق الجنوب المحاذية لإسرائيل، لافتًا إلى انشغال روسيا في حربها ضد أوكرانيا.
وبالنسبة لتعامل إيران، ذكر الباحث أن طهران حشدت إعلاميًا وميدانيًا لدفع الميليشيات العراقية للتوجه نحو سوريا، لكن تدخل التحالف الدولي عرقلها.
وفي 27 من تشرين الثاني، أغارت طائرات أمريكية على موقع ميليشيات مدعومة من إيران في سوريا، ردًا على هجوم استهدف قواعدها العسكرية في المنطقة، وذكرت أن الضربة استهدفت منشأة لتخزين الأسلحة لفصيل مدعوم من إيران.
مكاسب..
العودة والأرض وإضعاف الأسد
مع انطلاق المعركة، وتوجيه فوهات البنادق نحو قوات النظام وحلفائها، اعتبر البعض أن فتح معركة هو أمر عبثي دون رؤى سياسية واضحة، وتنتج عنها فوضى ودمار، وربما تكون مغامرة خاسرة وغير محسوبة.
في استطلاع أجرته عنب بلدي قابلت خلاله عددًا من الأشخاص في إدلب، سألتهم عن رأيهم بـ”رد العدوان”، وكانت الإجابات تدل على الرضا عن العمليات العسكرية، والأمل بالعودة إلى البلدات والقرى التي هجّروا منها، معتبرين أنه “انتصار جاء بعد تجهيز وعمل دؤوب”.
الأربعيني محمد، نازح من ريف إدلب الشرقي منذ عام 2019 إلى مخيمات “حربنوش” شمالي إدلب، قال لعنب بلدي، إن فرحته نابعة من الرغبة الشديدة بالعودة إلى بلدته، بعد خمس سنوات من “القهر والمعاناة” قضاها مع عائلته (خمسة أفراد) في خيام لا ترد حرًا أو بردًا.
السبب الثاني للفرحة، هو إخراج المناطق من سيطرة قوات النظام السوري، وإضعاف الأسد، الذي وصف “الثوار بالثيران”، واستخدم كل الوسائل لإبادة المدنيين والمطالبين بالحرية.
لا يريد محمد أن يدخل نفسه في حسابات سياسية، ويرفض أي تفكير بمؤامرة أو تسليم مناطق أو اتفاقيات أو ألاعيب أو خفايا تجري “تحت الطاولة”، فالمهم منزله الذي يؤويه في بلدته بعيدًا عن الخيام وقوات النظام، ولاحقًا يبدأ “الحلم الكبير بسوريا حرة”.
ويسكن شمال غربي سوريا 5.1 مليون شخص، منهم 4.2 مليون بحاجة إلى مساعدة، و3.6 مليون منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي، 3.5 مليون منهم نازحون داخليًا، ومليونان يعيشون في المخيمات، وفق الأمم المتحدة، في حين تتحدث إحصائيات محلية عن 6.6 مليون شخص.
الباحث في الجماعات الجهادية والحركات الدينية عبد الرحمن الحاج، يرى أن عمليات المعارضة تحمل عدة مكاسب هي:
- كسب الأرض لأنها تسمح بعودة مئات الآلاف من النازحين.
- توسيع رقعة سيطرة المعارضة، ما يضاعف الأوراق في يدها بأي تسوية سياسية محتملة.
- إظهار ضعف بشار الأسد وعجزه عن السيطرة.
- إعادة طرح التسوية السياسية في سوريا على طاولة المفاوضات، مع قدوم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الساعي لإنهاء الحروب.
- إمكانية أن يحفز ما حدث في الشمال الفصائل بالجنوب السوري.
الباحث السياسي عبد الوهاب عاصي، اعتبر أن المكسب الأساسي هو أن المعارضة السورية كسبت لأول مرة منذ عام 2013 مدينة كاملة تسيطر عليها بأريافها، وهذه المدينة ليست كغيرها، لأنها استراتيجية صناعية يمكن أن تتحول إلى عاصمة سياسية للمعارضة السورية، وتؤدي إلى تغيير حالة الصراع والسيطرة وميزان القوى.
وأضاف لعنب بلدي أن ذلك يؤدي إلى تفكيك المعادلة السياسية التي رسمها النظام السوري بدعم حلفائه، سواء على مستوى مسارات التطبيع مع الدول العربية، ومع تركيا، أو التقارب مع الدول الأوروبية.
المكسب من المعركة أيضًا، محاولة إعادة رسم شكل الحل السياسي في سوريا، خصوصًا إذا امتدت هذه المعركة لمناطق أوسع كحماة، التي وصل المقاتلون إلى تخومها، وفي حال تغيرت خارطة أو موازين القوى من الجبهة الجنوبية، فهناك تغير كبير في الحل بسوريا.
إقليميًا ودوليًا
ما المناخ السياسي؟
جاءت المعركة في ظل ظروف سياسية متشابكة ومعقدة، خاصة بالنسبة للأطراف المنخرطة في الملف السوري، ولها مصالح وارتباطات على الجغرافيا السورية، أبرزها وصف غير مسبوق من موسكو لأنقرة بأن تركيا تتصرف كـ”دولة محتلة” في سوريا، منتصف تشرين الثاني، ما اعتبره سياسيون ومحللون أتراك تحولًا في الموقف الروسي.
وعلى المستوى الدولي، تتزامن العملية مع ترقب العالم وصول الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، إلى سدة الحكم، وسط ترجيحات بتغييرات مقبلة في مستقبل المنطقة، ومع وقف إطلاق نار بين لبنان وإسرائيل، وتحذيرات من الأخيرة لبشار الأسد، بعدم السماح بتمرير الأسلحة إلى “حزب الله” عبر سوريا، وبأنه “يلعب بالنار”.
تركيا: نراقب عن كثب
بعد يوم من المعركة، قالت السلطات التركية إنها تراقب عن كثب ما يحصل في سوريا، وتتخذ الاحتياطات اللازمة لحماية قواتها، وبعد يومين منها، قال مصدر “أمني تركي كبير” لموقع “ميدل إيست آي” البريطاني، إن هجوم المعارضة السورية يهدف لوقف الضربات التي ينفذها النظام السوري على المدنيين، واستعادة حدود منطقة “خفض التصعيد” في إدلب عام 2019.
الحدود التي تحدث عنها المصدر تتوقف على أعتاب مدينة حلب، لكن الفصائل تجاوزتها ولا تزال مستمرة بالتقدم إلى مناطق وأحياء أخرى، حتى لحظة إعداد هذا الملف.
وفي 28 من تشرين الثاني، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، أونجو كيتشيلي، إن الحفاظ على الهدوء في إدلب والمنطقة المتاخمة لها، والتي تقع عند النقطة صفر من الحدود التركية، هو أولوية بالنسبة لتركيا.
وأضاف أنه منذ عام 2017، تم التوصل إلى عدة اتفاقيات بشأن منطقة “خفض التصعيد” في إدلب، وأن تركيا تلتزم بدقة بمتطلبات جميع الاتفاقيات التي تكون طرفًا فيها، وأنها حذرت في العديد من المنابر الدولية من أن الهجمات الأخيرة على إدلب وصلت إلى مستوى يقوض روح وتنفيذ اتفاقات “أستانة”.
وذكر كيتشيلي أن تركيا أكدت ضرورة وضع حد لهذه الهجمات، معتبرًا أن الاشتباكات الأخيرة أدت إلى تصعيد غير مرغوب فيه للتوترات في المنطقة.
إيران تتخبط
إيران التي تعد الدولة صاحبة الانتشار العسكري الأكبر في سوريا مقارنة مع بقية القوى الأجنبية، والتي كانت تملك حتى منتصف 2024، 117 موقعًا في حلب وأريافها، و27 في أرياف إدلب الخارجة عن سيطرة المعارضة، دعت إلى إحباط الهجوم، معتبرة أنه “مؤامرة صهيونية”.
المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، حذّر من عودة ما أسماها الجماعات “الإرهابية التكفيرية” في سوريا، داعيًا إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ومنسقة لمنع انتشار “الإرهاب” في المنطقة، معتبرًا أن التحركات جزء من “مخطط شرير للكيان الصهيوني وأمريكا” لزعزعة الأمن في غرب آسيا.
بقائي لفت إلى ضرورة التنسيق بين دول المنطقة، وخاصة جيران سوريا دون توضيح المقصود، لـ”إحباط هذه المؤامرة الخطيرة”، مشيرًا إلى أنه بموجب الاتفاقيات القائمة بين الدول الثلاث الضامنة لعملية “أستانة” (إيران وتركيا وروسيا)، تعتبر منطقة أطراف حلب وإدلب جزءًا من مناطق “خفض التصعيد”.
أبرز الأسماء الإيرانية التي قتلت في المعركة، كان قائد المستشارين الإيرانيين في حلب، وهو العميد بـ”الحرس الثوري الإيراني” كيومارت هاشم بورهاشمي المعروف بـ”الحاج هاشم”، وسبق أن عمل مستشارًا عسكريًا فيما تسميه طهران “محور المقاومة بالعراق وسوريا”.
الباحثة المساعدة في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” صبا عبد اللطيف، قالت لعنب بلدي، إن حلب تعتبر من أحد أهم المكاسب لإيران خلال تدخلها بسوريا، باعتبارها تحمل أهمية استراتيجية واقتصادية وحتى معنوية كبيرة، لذلك، فإن سيطرة الفصائل على حلب تشكل خسارة كبيرة لإيران، باعتبارها كانت الاستثمار الكبير، والحصة المبدئية لطهران من سوريا.
ولفتت عبد اللطيف إلى أن إيران عملت خلال السنوات الماضية على التوسع في حلب، وترسيخ نفوذها عسكريًا، لكن مع اشتعال جبهة لبنان مع إسرائيل خسرت طهران الكثير من القادة العسكريين، والكثير من مخازن الأسلحة خاصة في سوريا.
وترى عبد اللطيف أنه مع عدم وصول تعزيزات من ميليشيات إيرانية عبر الحدود العراقية، وضعف دور النظام في المنطقة، سيكون من الصعب استعادة مدينة حلب دون تدخل روسي أو فتح خطوط الإمداد.
الباحث السياسي عبد الوهاب عاصي، يرى في حديثه لعنب بلدي، أنه في حال أرادت إيران التدخل في المعركة، فستجمع قواتها في مناطق جنوب حلب، ثم ربما تدعم النظام السوري لاستعادة ما خسره ولو جزئيًا.
وفق الباحث، فإن محافظة إيران على مواقعها والتدخل في المعركة يتطلب أن تكون هناك إمداد للميليشيات الإيرانية في سوريا، وألا تكون هذه الميليشيات تحت ضغط الضربات الإسرائيلية في سوريا لا سيما بالجنوب.
وفي حال حصل تغيير في جبهة الجنوب السوري، يعتقد عاصي أن موقف الميليشيات الإيرانية من معركة حلب سيتغير، وبالتالي مزيد من الانكفاء عن الشمال.
روسيا: تعدٍ على سيادة سوريا
التعليق الروسي على “ردع العدوان” جاء بعد يومين (29 من تشرين الثاني)، من خلال تصريح لنائب رئيس “مركز الروسي للمصالحة” (أحد أقسام وزارة الدفاع الروسية)، النقيب أوليج إغناسيوك، قال فيه إن “الجيش السوري”، وبدعم من القوات الجوية الروسية، قتل أكثر من 400 مسلح من جماعة “هيئة تحرير الشام” هاجموا مواقع قوات النظام في محافظتي حلب وإدلب.
بعد ساعات دعت الرئاسة الروسية (الكرملين) النظام السوري لاستعادة ما أسمته “النظام الدستوري” في محافظة حلب، معتبرة أن ما حدث في مدينة حلب هو “تعدٍ على سيادة سوريا”، وأن موسكو تعمل على “إرساء النظام في المنطقة”، داعية السلطات السورية إلى استعادة الأمن بسرعة.
موسكو التي اتبعت خلال السنوات الماضية، منذ تدخلها العسكري في سوريا، في 30 من أيلول 2015، سياسة القتل الممنهج و”الأرض المحروقة”، ووضعت ثقلًا كبيرًا في تغيير الموازين لمصلحة النظام، تتعاطى اليوم مع هذه المعركة بحدة أقل، وشكل مغاير لسياستها المعهودة، إلى الآن.
سوريا “ليست أولوية موسكو الآن”
المحلل السياسي الروسي ديمتري بريجع، اعتبر في حديثه لعنب بلدي أن ما يحدث في ريف حلب، هو بداية لسيناريوهات مختلفة قد تحدث في الأراضي السورية، مرجحًا وجود رد فعل “عدواني قوي” من طرف النظام السوري وحلفائه.
وقال إن قلة الضربات الروسية في الشمال السوري تعود لانشغال القيادة العسكرية الروسية في الملف الأوكراني، مضيفًا أن الأزمة الأوكرانية هي أحد أهم الملفات، ويبدو أن الملف السوري ليس في الأولويات، وليس الأولوية رقم واحد لروسيا.
واعتبر بريجع أن قلة تغطية أو متابعة “الكرملين” لما يحدث في سوريا، لأن الروس يفهمون تعقيدات الوضع السياسي القائم في سوريا، وأنه لا يوجد حل سياسي، وتعقيدات أخرى من ناحية تعديل الدستور، وتطبيق القرارات الدولية، لافتًا إلى أن روسيا لم تستطع العمل على كل هذه الملفات بشكل واضح.
المحلل الروسي اعتبر أن موسكو فقط تحاول أن تؤمّن دمشق، وتساعدها من مفهوم السياسة الخارجية الروسية، التي وقّع عليها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في آذار 2023، وهي مساعدة النظام في عودة علاقاته مع دول الجوار، ومن ضمنها تركيا، لافتًا إلى أن روسيا عملت على حل سياسي في سوريا، لكن الخطوات الروسية لم تعطِ نتائج على أرض الواقع.
ووفق بريجع، يبدو أن ما يحدث في الشمال السوري، هو جزء من فتح جبهات جديدة ضد المصالح الروسية، معتبرًا أنها “جبهة رقم 2” ضد موسكو، وأن الإعلام والجهات الحكومية الروسية ستتحدث في الأيام المقبلة عن أن الغرب يحاول فتح الجبهة ضد روسيا في سوريا، خاصة أن وسائل الإعلام الروسية كانت تتحدث خلال الأسابيع الماضية عن وصول خبراء بالطائرات المسيّرة من الغرب وأوكرانيا إلى الشمال.
“خلاف” روسي- تركي
الباحث عبد الرحمن الحاج، يرى أن العملية العسكرية تشير إلى إخفاق “أستانة 22” في تحقيق مطالب تركية محددة، وتعكس رغبة تركيا في فرض وقائع على الأرض تستبق فيها تحركًا للقوات الكردية من “وحدات حماية الشعب” (YPG) و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) محاولة ملء الفراغ الذي يمكن أن يخلّفه انسحاب محتمل للميليشيات الإيرانية.
ويعتقد الحاج أن العملية تعكس وجود خلاف تركي- روسي، إذ ظهر عدم توافق بين الموقف التركي والروسي بخصوص التطبيع مع النظام وشروطه، وربما بسبب عناد الأسد المستند إلى الموقف الإيراني، ما قد يفسر ضعف الحماسة الروسية للمساندة الجوية في عمليات الدفاع ضد هجوم فصائل المعارضة.
في الواقع، من مصلحة الروس أن يكون القرار موزعًا بينهم وبين الأتراك، وخروج الإيرانيين من المعادلة، ولهذا السبب فإن العمليات على الأرجح ستكون مستمرة في محافظة حلب، وبالريف الشمالي بشكل خاص، وعلى الأغلب سيصبح “سوتشي” من الماضي، مع خرائط سيطرة جديدة.
د. عبد الرحمن الحاج
باحث في الحركات الدينية
ورجح الباحث الحاج أن تكون “وحدات حماية الشعب” (تعتبرها أنقرة إرهابية) هدفًا رئيسًا ومقبلًا في ريف حلب الغربي وفي منبج بريفها الشرقي، ما يحقق عودة واسعة للنازحين، ويسهم في تعزيز الأمن القومي التركي في الوقت نفسه.
في ظل حدث استثنائي كسر الخطوط الحمر، وكشف ملامح انهيار النظام السوري، لا تزال جميع الاحتمالات مفتوحة من أجل رسم وجه جديد لسوريا، فالنظام لا يزال موجودًا رغم حالته الهشة، والجبهات مفتوحة باتساع لم تشهده من قبل، والترقب حاضر لرد فعل روسي أو تدخل تركي مباشر، أو تحرّك إيراني، أو حتى فصائلي من الجنوب، أو أمريكي عبر “قسد”.