ما زال تحقيق فريق “spotlight” يلهم الصحفيين حول معنى الصحافة الاستقصائية، والجوانب المهنية والأخلاقية وحتى النفسية في هذا الحقل، إذ تولى أربعة من الصحفيين ضمن الفريق مهمة الكشف عن واحدة من أكبر الفضائح في تاريخ الكنيسة.
التحقيق الذي حمل اسم “الإساءة في الكنيسة الكاثوليكية” (Abuse in the catholic church)، نُشر في صحيفة “بوسطن غلوب” (Boston Globe)، في كانون الثاني 2002، وبدأ إعداده بالحفر وراء قصة تحرش قساوسة كاثوليك بأطفال، في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، ليتبين أن هناك اعتداءات مخفية تمتد لعشرات السنوات، وأن الكنيسة على علم، لكنها أخفت المسألة.
الدأب الصحفي كشف عن جرائم واسعة النطاق في الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية، وتسبب بملاحقات جنائية لخمسة كهنة كاثوليك بتهمة الاعتداء الجنسي على الأطفال، ووجود تستر في عدد من الأبرشيات الكبيرة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ثم اتسعت الدائرة بعد النشر، ليتبين أن آلاف الأطفال وقعوا ضحية لنفس الممارسات في دول أخرى مثل أيرلندا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والهند.
كان من الممكن أن يتوقف فريق التحقيق عند قضية طفل أو مجموعة أطفال، باعتبار أن هذا يكفي للكشف عن فضيحة، لكن “تقشير البصلة” بالاتجاه المعاكس (Onion peeling – in the opposite direction) كما يصفه، ديفيد كابلان (David E. Kaplan) المدير التنفيذي لشبكة الصحافة الاستقصائية العالمية (Global Investigative Journalism Network)، توصل إلى نتائج كبيرة أثرت في الرأي العام العالمي، وأظهرت أهمية الاستقصاء الصحفي ودوره في المساءلة والكشف عن الفساد.
على الرغم من أن التحقيق نشر في أعقاب هجمات أيلول 2001، ورغم انشغال الأمريكيين بالحرب على الإرهاب، فإن القضية لم تنتهِ، ووصلت إلى إنتاج فيلم “spotlight” عام 2015، الذي أعاد إحياء القضية، وحولها بحذافيرها إلى قصة سينمائية دون تغيير التفاصيل، وحاز جائزتي “أوسكار”.
تحدث كابلان عن ثمانية دروس عن الصحافة الاستقصائية في تحقيق فريق “spotlight” هي:
الحدس الاستقصائي:
وضع فريق “Spotlight” فرضية عمل مفادها أن المعتدين جنسيًا على الأطفال يتمتعون بالحماية داخل الكنيسة على نطاق واسع أكبر بكثير مما كان يعتقد، وبدؤوا العمل في محاولة لإثبات ذلك.
وفي هذا خلاصة تقول إن الحس (الحدس) الصحفي يؤدي إلى تحقيق غير عادي.
تقشير البصلة – في الاتجاه المعاكس:
في معظم التحقيقات، تكون البداية متشعبة ثم يضيق التركيز باستمرار حتى تحصل على قصة قوية، أو دراسة حالة محددة وضيقة يمكن أن تساعد في الكشف عن قضية أوسع.
في قصة مثل تستر الكنيسة الكاثوليكية، تبدأ بتقشير البصل، لكن البصل يزداد حجمًا.
اختراق المصادر:
في أي مشروع استقصائي، توجد دومًا بضعة مصادر تساعد في فتح القضية وتوفير مستندات، بيانات رئيسة، صورة كبيرة أو دليل قاطع، ويتجلى ذلك فقط عندما يقوم فريق “Spotlight” بإجراء مقابلة مع باحث في مجال الصحة النفسية درس المشكلة منذ سنوات، حينها يدركون النطاق الهائل للقصة، فهو يمتد ليشمل الآلاف من رجال الدين، وأعدادًا أكبر من الضحايا في جميع أنحاء العالم.
وهذا يقود إلى خلاصة تقول: يجب تنويع المصادر والوثائق.
درب المساءلة:
ورث مارتي بارون، المحرر الجديد في “غلوب”، سِمَة الأمريكيين القدامى في التحري. إذ يقول لفريقه الصحفي، إن إثبات حالات التحرش الفردية لا يكفي، يريد أن يعرف ما إذا كان الاعتداء الجنسي على الأطفال داخل الكنيسة يمثل مشكلة منهجية، وإذا كان هناك تستر، ومن يجب أن يحاسب.
هذه هي الأسئلة الكلاسيكية للصحافة الاستقصائية.
البيانات والوثائق:
تتبع فريق “Spotlight” خلال عملية البحث المنهجي القصص الإخبارية، وتسجيلات المحاكم، وأدلة الأبرشية السنوية التي تُدرج أسماء الكهنة المنقولين أو الغائبين لأسباب غير مفسرة. قام الفريق بتجميع البيانات، ماذا فعلوا بها؟ بنوا قاعدة بيانات خاصة بهم.
أيها الصحفيون، تعلموا استخدام جداول البيانات وقراءتها!
المعركة داخل غرفة الأخبار:
الحصول على الوقت والموارد اللازمة للتعامل مع قصة كبيرة، غالبًا ما تكون واحدة من أصعب المعارك داخل غرفة الأخبار الخاصة بك.
في الماضي، كان رؤساء تحرير “بوسطن غلوب” قد دفنوا قصصًا عن الكنيسة والتحرش الجنسي بالأطفال، وكانوا متشككين في أن قصة “Spotlight” حول الإساءة من قبل الكنيسة الكاثوليكية يمكن أن تكون كبيرة جدًا.
كيف وصل الصحفيون إلى هذا السبق؟ كان لديهم قائدهم في التحرير، الذي عرف أن القصة عظيمة بمجرد الاطلاع عليها.
سلم الفريق البضاعة كاملة (البحث والنبش المحترف) لينالوا حقهم بمواصلة العمل.
العمل ضمن فريق:
عملت وحدة “Spotlight” كفريق واحد، وهذا مهم جدًا في التحقيق بالقضايا الصعبة.
يتمتع الصحفيون عادة بمهارات مختلفة، مثل العثور على المصادر، إجراء المقابلات، الكتابة، وهناك حاجة لمجموعة متنوعة عند مواجهة قضايا معقدة ومؤسسات قوية.
صحافة الغضب:
الذروة العاطفية في الفيلم عندما يرى صحفي في الفريق أن القصة تتأخر في النشر، لينفجر حينها في موجة من الغضب.
هناك بوصلة أخلاقية للصحافة الاستقصائية تجتذب الذين يرغبون في تصحيح الأخطاء، ويتمسكون بالمحرومين والمهمشين، ويوقفون انتهاكات السلطة.
يقول كابلان، هذه الصحافة في أفضل حالاتها.. وللحديث بقية.