الأسد وسياسة “التطنيش” الاستراتيجي

  • 2024/12/01
  • 8:08 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

يُحسد “الأسد” على هذه القدرة العجائبية على “التطنيش” تجاه انتهاكات السيادة التي تقوم بها إسرائيل على مختلف الأراضي السورية، وقيامها بقصف أهداف هنا وهناك، دون أي مقاومة أو رد أو شجب أو إدانة أو حتى تقديم شكوى للأمم المتحدة، وهي عجيبة من عجائب الدنيا أن تجد “رئيسًا” لدولة تُستباح سماؤها وتقصف أرضها ويقتل أبناؤها وبدلًا من أن يقوم جيشها بالرد حفظًا للكرامة الوطنية على الأقل، فإنه يعاجل السوريين المتمردين على سلطة العصابة الحاكمة بقصف بلداتهم ومخيمات نزوحهم فيحصد العشرات من النساء والأطفال والمشردين والجوعى، فيما يبقى هذا “الرئيس” العتل جالسًا في قصره بكامل هدوئه وطمأنينته.

سبق لسلطة العصابة أن ابتدعت شعار الصمود والتصدي زمن الطاغية الأكبر كبديل عن شعار تحرير الأرض المحتلة، وفي كل الأحوال لا شعار التحرير كان ذا معنى، باعتبار أن ما يُفترض تحريره كان قد سُلّم طوعًا لإسرائيل في حرب 1967 دون أي مقاومة تُذكر وبأمر مباشر من حافظ الأسد المؤسس الأول لدولة العصابة، ولا شعار الصمود والتصدي بذي قيمة، فقد خرست الجبهات مع العدو منذ اتفاقية فك الارتباط عام 1974، ولم يعد لسلاح الجيش السوري من وظيفة إلا في مواجهة طموحات السوريين بالانعتاق وتنسم هواء الحرية.

في زمن الأسد، طُويت صفحة تلك الشعارات ليحل محلها شعار الصبر الاستراتيجي، كرد على الانتهاك الإسرائيلي اليومي للأجواء السورية وقصف طائراتها للكثير من المرافق العسكرية والمدنية السورية دون إبداء أي مقاومة، ودون التجرؤ على قصف مطار إسرائيلي واحد بصاروخ من تلك الصواريخ التي دك بها الأسد المدن السورية، عندما صار الشعب السوري مصدر خطر على سلطته.

والحقيقة أن شعار “التطنيش” الاستراتيجي ربما يكون أكثر بلاغة وتعبيرًا عن واقع حال النظام وجيشه القاتل، وربما يكون أكثر استفزازًا لقادة إسرائيل لو كانت بينها وبين النظام خصومة وعداء حقيقيان، لأنه يقول لهم افعلوا ما شئتم، واقصفوا ما قدّر لكم أن تقصفوا، فلن تجبروني على الخروج عن طوري ومغادرة “تطنيشي” الاستراتيجي، فأن أفوّت عليكم فرصة النيل مني هو عين النصر.

تقول الإحصاءات إن إسرائيل استهدفت الأراضي السورية جوًا وبرًا حتى بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي 95 مرة، دون رد واحد من النظام على الانتهاك لسيادة الدولة السورية، التي أناط النظام مسؤولية إدارة شؤونها بنفسه رغمًا عن إرادة السوريين، لكنه مع ذلك يمتنع عن القيام بما توجبه عليه تلك المسؤولية وطنيًا ودستوريًا، ليس فقط لأنه أجبن من أن يفعل، بل لأنه يدرك تمامًا أن الثمن هو السقوط إن فعل.

الثابت الرئيس والوحيد في سياسات النظام هو الاستمرار في السلطة أيًا كانت الأثمان التي يتعين أداؤها للحماة والرعاة، حتى لو سُبيت سوريا كلها بشعبها وثرواتها ومواردها، وهذا ما حرص النظام دائمًا على فعله، حيث حافظ على التزاماته بهذا الشأن منذ العام 1974 حتى الآن، وخرست جبهة الجولان 50 سنة بالتمام والكمال، ولا تزال، بينما كان يتم تفريغ الاحتقانات السورية– الإسرائيلية، إن وجدت، في الأراضي اللبنانية، إما مباشرة أو عبر وكلاء محليين.

الآن وفي ظل هذه المعمعة الكبرى التي تحصل في المنطقة سيبقى نظام الأسد بالنسبة لإسرائيل أفضل حليف غير معلَن في المشرق كله، ولن تغامر إسرائيل أو تقامر به على الأقل في المدى المنظور، وهو يدرك هذه الحقيقة ويحرص في نفس الوقت ألا يمنحها سببًا أو مسوغًا لاتباع سياسة مغايرة نحوه، فكان خيار الصمت و “التطنيش” الاستراتيجي هو الأمثل له على الدوام. ولا أرى موجبًا أو تفسيرًا لتفاؤل أولئك الذين ظنّوا للحظة ما أن النظام سيدفع ثمن تحالفه مع إيران و”حزب الله”، وهو تحالف لم يكن في أي وقت من أوقاته لمواجهة إسرائيل ولن يكون، بقدر ما كان أداء وظيفيًا لإحلال مجتمعات جديدة بديلة عن مجتمعاتها الأصلية، بعد تدمير الحوامل الكبرى للمشرق (دمشق وبغداد).

خلاصة ما علمتنا إياه أحداث ثورتنا وانكساراتنا وهزيمة الربيع العربي بكليته، أنه في هذه المنطقة المسكونة بالهواجس التاريخية، والهرطقات الفقهية، والجهالات القبلية، ليس مسموحًا، حتى الآن على الأقل، أن يحكم كياناتها المسماة دول إلا خصيان أو سفلة أو عملاء لا يكتفون بسحق شعوبهم بل يستقدمون أيضًا من يتبوّل عليهم.

وتبقى سياسة “التطنيش” الاستراتيجي التي تتبعها عصابة “الأسد” مثالًا فظًا وصارخًا عن حالة التبوّل هذه بعد أن حوّل سوريا إلى مرحاض عام.

مقالات متعلقة

  1. عنب بلدي – العدد 667 – الأحد 1 كانون الأول 2024
  2. حول قانون مناهضة التطبيع مع نظام الأسد
  3. قطار "أبو عمشة"
  4. حرب "البلاي ستيشن"

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي