أحمد عسيلي
منذ فجر التاريخ، ومنذ بدأ الإنسان تشكيل التجمعات البشرية الأولى (سواء الأسرة أو القبيلة)، كانت العلاقة بين من يملك سلطة ما، ومن لا يملكها، إشكالية بشكل دائم، تمر بشكل مستمر بمراحل وأطوار مختلفة، من الانصياع أحيانًا، إلى التمرد أحيانًا أخرى، من القبول والتبرير لها بعلل دينية أو قانونية أو اجتماعية، أو الرفض التام والثورة عليها، بأفكار وأيديولوجيات ثورية، غالبًا ما تكون بالتضاد مع علل القبول والانصياع.
بداية وعي الإنسان- الطفل، تؤرخ بوعيه بالسلطة الأولى، هي سلطة الأب (أو الأم)، وبالتالي الثورة الأولى، والتي غالبًا ما تمر بمرحلة صلح مع تلك السلطة، تنتهي بتماهي شخصية الطفل وانصهارها مع والده، وتشكيل الأسرة بكل قوانينها والتزاماتها.
هذه الآلية التي يتبعها الطفل للتصالح مع من يملك السلطة قبل تشكل وعيه، تستلزم تجاوزها في مرحلة الوعي، وخاصة مع من يملكون السلطة خارج الأسرة، بل ذهبت المجتمعات الغربية إلى تجاوزها لاحقًا حين امتلاك الوعي، حتى داخل الأسرة، وهو السياق الذي ظهرت به أشهر نظرية في تاريخ التحليل النفسي، وهي قتل الأب، التي ترفضها العقلية الشرقية بطبيعة الحال.
هاجس تلك الأشكال من العلاقات (سلطة- لا سلطة) كانت محل دراسات وتحليلات كثيرة، أب- طفل، طبيب- مريض، غني- فقير، وقدمت الكثير من الأفكار لتعديل وتقويم تلك العلاقة منذ بدايات تأسيس الدول في اليونان القديمة، لكن إلى الآن، ومع نهايات الربع الأول من القرن الـ21، لم تستطع الإنسانية إيجاد حل صحي لتلك العلاقة بشكل جذري ودائم، والتي تختلف درجة تعقيدها بين الشعوب، حسب السياق التاريخي والمجتمعي لكل شعب، فهي مشكلة عامة، بدءًا من أكثر أشكال التنظيم بدائية في قبائل غابات الأمازون، حتى أكثر أشكالها تقدمًا وتعقيدًا في الحياة السياسية بفرنسا والولايات المتحدة.
سأقوم في الجزء الأول من هذه المادة، باستعراض بعض تلك العلاقات المرضية، بين من يملك سلطة، ومن لا يملكها، ضمن سياقنا العربي، وأتابع في الجزء الثاني باستعراض سريع لتك العلاقة في بعض المجتمعات الأخرى، وفي مراحل تاريخية مختلفة، الهدف من ذلك هو الوصول لفهم أعمق لآلية تشكيل الدكتاتوريات على المستوى النفسي، وسأبدأ بالحديث عن هذه الظاهرة مع أكثر تلك العلاقات المرضية شهرة في تاريخنا العربي وهو جمال عبد الناصر.
جمال عبد الناصر وعلاقاته المرضية
بالرغم من مرور أكثر من 50 عامًا على رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، ورغم كل الفشل الاقتصادي والعسكري الذي سببه للبلاد، فإنه إلى الآن، يعتبر الرئيس الأكثر حضورًا في الوجدان المصري، ربما ينتقده البعض، أو يدافع عن سياساته البعض الآخر، ولكلٍ وجهة نظره الخاصة التي لا أود هنا دحضها ولا الدفاع عنها (فهي خارج موضوعنا)، لكن هذا الوجود الطاغي لعبد الناصر، كأكثر رئيس “عشقه” الشعب، ربما حقيقة ثابتة، دُرست وحُللت من قبل كثير من الدارسين لعلم النفس السياسي وأطباء النفسية، واحدة من أهم تلك الدراسات (على مستوى الطب النفسي) المقاربة التي تناولها الطبيب النفسي المصري الشهير الدكتور أحمد عكاشة في كتابه “قراءة للعقل المصري”، وتحدث فيها عن الذكاء العاطفي لعبد الناصر وقدراته الشخصية، التي أسرت شعوبًا كثيرة، وليس الشعب المصري وحده، وحتى الآن لا نكاد نجد مدينة عربية (بل وأجنبية أحيانًا) دون أن تحوي شارعًا باسم عبد الناصر، سواء في سوريا أو لبنان، أو حتى نيودلهي التي شاهدت واحدًا من أكبر شوارعها يحمل اسمه، بل وحتى في دول الخليج، التي ناصبها عبد الناصر العداء، ودخل في معارك مع السعودية في اليمن، لكن اسمه موجود تقريبًا على معظم شوارع تلك المدن، وغالبًا ما يكون في واحد من أكبر شوارعها وأكثرها أهمية.
هذا التعلق المرضي بالحاكم (خاصة الدكتاتور) رغم أدائه السياسي والقمعي، لا يقتصر فقط على مؤيديه أو المستفيدين منه، بل يمتد في كثير من الأحيان حتى إلى معارضيه، بل وضحاياه، ففي حالة عبد الناصر، كان الكاتب الشهير صلاح عيسى واحدًا من أكثر ضحاياه الذين تعرضوا للظلم، ذنبه الوحيد أنه نشر دراسة أشبه بالمراجعة لـ”ثورة يوليو”، بعد عشرة أعوام على حدوثها، فاعتقلته أجهزة مخابرات عبد الناصر وعذبته (وما أدراكم ما أجهزة عبد الناصر في تلك الفترة)، ورغم كل الوساطات التي أجريت مع عبد الناصر لإخراجه من السجن رفضها كلها، بل وأعلن بكل تبجح أن صلاح عيسى لن يخرج من السجن سوى إلى القبر!
فماذا كان رد فعل صلاح عندما توفي عبد الناصر، وهو الخبر الذي كان يعني له تنفس هواء الحرية؟ بكى بكل حرقة، وقال إنه لم يبكِ قبل هذا اليوم بمثل هذه الشدة سوى عندما توفيت والدته؟
حالة صلاح عيسى وعبد الناصر ليست فريدة في عالمنا العربي، ففي أيامنا هذه أيضًا شهدنا شيئًا مشابهًا مع الروائية اللبنانية نسرين نقوزي، التي تعارض سياسة “حزب الله” في لبنان بكل وضوح، وترفض تدخلاته العسكرية في سوريا، وهي بالأصل ضد أي تدخل للدين في السياسة، أي بمعنى أدق، معارضة تمامًا لـ”حزب الله” ولأمينه العام، ذي الشخصية الطاغية حسن نصر الله، ومع ذلك كتبت عند وفاة نصر الله مقالة في موقع “رصيف 22″، تتحدث فيه عن حزنها وبكائها لحظة سماعها لخبر مقتله.
ولنختم الآن بواحدة من أكثر تلك الأشكال مرضية كما تجلت في شخصية الصدر، وعلاقته بأتباعه، ففي مشهد انتشر منذ فترة عبر “يوتيوب” في أثناء أحد خطابات الصدر، صرخ بهم: “ترى أنا زعلان منكم ولح تزعلوني أكتر”، ما أصاب جمهوره بحالة هياج وصياح هستيري.
فالعلاقة بين السياسي وجمهوره هنا لم تعد علاقة طبيعية حيادية، ممكن أن تزعل الأم من ولدها، الصديق من صديقه، لكن لماذا يزعل سياسي من جمهوره؟
العلاقات السياسية هنا خرجت من الإطار الذي كان يدعى إطار العمل العام، لتصبح العلاقة شخصية أسرية بل وفيها شيء من العلاقة العاطفية بشكلها المرضي، وهو ما سنفصل فيه بشكل أكبر في المادة المقبلة.