بين الاستغلال ونقل المعاناة
“صنّاع محتوى” سوريون بين عالمين
عنب بلدي – نوران السمان
في حي من أحياء العاصمة السورية دمشق، تنبعث أصوات الحياة المتعبة، تتخللها أصوات أشخاص يعبرون الشارع ويخترقها ضجيج السيارات في أثناء مرورها، ويظهر آنذاك، بشار، وهو يعكف على نبش أكوام النفايات بحثًا عن قطع حديدية وخشبية يمكن بيعها.
يعتبر هذا المشهد الذي وثقته كاميرا قناة “ديالا ووارف”، التي تقدم سلسلة من الفيديوهات توثق المهن اليومية في سوريا، ومنها الفيديو الشهير لبشار وهو يجمع الخردة، مثالًا لحياة العديد من السوريين الذين يعيشون تحت وطأة الفقر.
الفيديو الذي يعرض معاناة بشار، وهو رجل متقدم في السن، يعيش على مهنة “النبش” (جمع الخردة لإعادة بيعها)، يروي قصة “إنسانية” تنبع من قلب المعاناة، ووصل إلى متابعين من حول العالم، محققًا مئات الآلاف من المشاهدات.
أصبح المقطع المصور سببًا في وصول مساعدات غذائية وعينية ومالية لبشار من العديد من الأشخاص خارج سوريا الذين تابعوه وتأثروا به، وكانت إحداها من دولة الإمارات.
لكن في المقابل، وفي أماكن بعيدة جدًا عن دمشق، كان هناك شاب سوري آخر يقف أمام سيارته الرياضية اللامعة، يصور يومياته في التسوق داخل متجر فاخر أو يوثق عشاء فاخرًا في مطعم عالمي.
هذا النوع من المحتوى، الذي يختلف تمامًا عن الواقع الذي يعيشه بشار وآلاف السوريين في داخل مناطق سيطرة النظام السوري، يشكّل “فجوة” وصورة مغايرة للسوريين بعيدًا عن الأزمات الاقتصادية والفقر الذي يعيشه الأهالي في سوريا.
هوّة بين العالمين
التباين بين هذين النوعين من المحتوى، يفتح الباب أمام تساؤلات كبيرة حول دور صنّاع المحتوى في تقديم صورة دقيقة عن الواقع السوري.
فمن جهة، يستخدم صناع المحتوى داخل سوريا منصات مثل “يوتيوب” لتوثيق معاناة المواطنين، وتقديم صورة حية لما يعانيه الناس في ظل الأزمات الاقتصادية والحروب.
ومن جهة أخرى، هناك صنّاع محتوى سوريون يقيمون في الخارج يقدمون صورة مغايرة تمامًا، إذ يركزون على رفاهية الحياة التي يتمتعون بها، مثل السفر إلى دول متعددة، والتسوق في متاجر فاخرة، وتناول الطعام في أفخم المطاعم.
استغلال أم نقل معاناة
يثار الجدل حول بعض الفيديوهات التي تتحدث عن الفقر، ويرى البعض أن هذه الفيديوهات تسهم في زيادة الوعي العالمي بمعاناة السوريين، ويعدها وسيلة فعالة لدعم الأسر الفقيرة، في حين يرى آخرون أن بعض صنّاع المحتوى يستغلون هذه المآسي لتحقيق مكاسب شخصية وجذب المشاهدات، دون أن يكون هناك تأثير حقيقي على أرض الواقع.
نور، وهي مقيمة في دمشق ومتابعة لصنّاع المحتوى، ترى في حديثها لعنب بلدي أن الوضع الراهن في سوريا قد أسهم بانتشار هذه المنصات الاجتماعية بشكل كبير.
وتعتبر نور أن الارتفاع المستمر في الأسعار، وغلاء الإيجارات، وندرة الفرص الاقتصادية، “أجبرت العديد من الأسر على الظهور في مثل هذه الفيديوهات” لأخذ المساعدة، مشيرة إلى أن “الفيديوهات التي توثق معاناة الناس في الأحياء الفقيرة صارت وسيلة فعالة لجذب الدعم من الخارج”.
وبينما قالت إن هذه الفيديوهات تظهر “معاناة حقيقية”، ضربت نور مثلًا، الأمهات اللاتي يعجزن عن تأمين طعام لأطفالهن، أو الأسر التي تعيش في ظروف “مزرية”.
وأشارت إلى أن هذه الفيديوهات أسهمت في تحفيز العديد من الأشخاص خارج سوريا على إرسال مساعدات مالية وعينية، لتخفيف معاناة هذه الأسر.
ترى نور أن صناعة المحتوى بهذا النمط أفضل، مقارنة بـالمنصات التي وصفتها بـ”السيئة”، والتي تستغل أوضاع الناس للشهرة.
أما لجين، وهي إحدى المتابعات لهذه الصفحات، فقالت إن تقديم المساعدة يجب أن يتم بشكل بعيد عن عرض معاناة الناس على الكاميرات.
واعتبرت لجين، في حديثها لعنب بلدي، أن تقديم المساعدة يمكن أن يتم “دون تصوير الأشخاص الذين يعانون”، ووصفت هذا الأسلوب الإعلامي بأنه “غير مناسب”، مشيرة إلى أن المحتوى المنشور يعكس قلقًا متزايدًا بشأن استغلال صور المعاناة لأغراض تجارية أو لجذب الانتباه، بدلًا من التركيز على تقديم المساعدة بشكل مباشر وفعّال “وراء الكاميرات”.
وتتفق آسيا مع لجين، وهي متابعة أخرى أيضًا لهذا النوع من المحتوى، ولكنها تعتبر أن هذه الفيديوهات تُعد أفضل من المقاطع المصورة التي تروج للسياحة وأن سوريا “بخير”.
الباحثة في العلوم الاجتماعية الحاصلة على إجازة الدكتوراة في الإعلام هلا الملاح، قالت لعنب بلدي، إن المسؤولية الأخلاقية لصنّاع المحتوى في سوريا باتت “ضعيفة جدًا”، مشيرة إلى أن القليل منهم فقط يلتزمون بهذه الحدود.
وأضافت الملاح أن هناك تناقضًا كبيرًا بين صنّاع المحتوى الذين يروّجون للسياحة في سوريا وبين الواقع الإنساني الذي يعيشه الأهالي في سوريا، معتبرة أن الترويج للأماكن السياحية الفخمة في وقت تعاني فيه شريحة واسعة من الشعب من تدني مستوى معيشتها هو “تناقض واضح”.
وتطرقت الملاح إلى أن السياحة في سوريا تقتصر في الغالب على شريحة مقتدرة ماليًا، وغالبًا ما تكون من فئة “تجار الحرب”، ما يجعل فكرة الرفاهية في البلاد غير شاملة للجميع.
الكاميرا كصوت للمعاناة
في حين يسعى صنّاع المحتوى داخل سوريا إلى نقل صورة مأساوية عن الواقع الذي يعيشه المواطن السوري، يركز آخرون في الخارج على تقديم صورة متفائلة، تصور السوريين على أنهم قادرون على النجاح في الخارج رغم كل الصعوبات التي مروا بها، كقناة “عمر مسكون” وغيره.
هذا النوع من المحتوى يسلط الضوء على حياة السوريين بعد هجرتهم، ويعكس الفرص التي حصلوا عليها بعد الهروب من واقع الحرب.
ولكن، ومع ذلك، يشعر بعض المتابعين بأن هذا النوع من المحتوى لا يعكس الحقيقة، بل هو “فقاعة” تنبع من حياة منفصلة عن واقعهم المرير، كما قالت لجين.
وبدورها، الباحثة الاجتماعية هلا الملاح، أشارت إلى أن “فئة قليلة” من صنّاع المحتوى ما زالت محافظة على الطابع الإنساني، ولكن في الوقت الذي تزداد فيه شعبية “السوشال ميديا”، نوهت الملاح إلى أن هذه المنصات أصبحت تتحول إلى “تجارة” يتم من خلالها استغلال الأوضاع الإنسانية والفقر، أو نشر كلام مسيء أو حتى “تشويه سمعة وكرامة الناس” من أجل تحقيق أرباح.
وترى أن بعض الممولين باتوا يمولون صنّاع المحتوى لتوجيه رسائل معيّنة، ما أفرغ المحتوى من صدقه ونزاهته، وأدى إلى تحوله لمنتج تجاري.
ورغم أن هذه الظواهر لا تشمل جميع أنواع المحتوى المتعلق بسوريا، فإن من الضروري وجود معايير حقيقية لضبط هذا النوع من الإعلام في العالم العربي وفي سوريا بشكل خاص، وفق الملاح.
من جانب آخر، تشير دراسة أجرتها “تريندز للبحوث والاستشارات” بعنوان “وسائل التواصل الاجتماعي: تأثيرات متنامية وأدوار شائكة في العالم العربي”، إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في نقل الأفكار والآراء المتعلقة بقضايا معيّنة لعدد كبير من الأشخاص في مناطق مختلفة من العالم، ما يسهم في تشكيل رأي عام دولي بشأن القضايا الإنسانية.
وفي المقابل، تعتبر الدراسة أن وسائل التواصل الاجتماعي تقع في “فخ التضليل الإعلامي والتأثير السلبي” في الرأي العام، حينما يتم توظيفها بهدف تغيير قناعات أفراد المجتمع في دولة ما باتجاه معيّن.
وأضافت “تريندز للبحوث والاستشارات” أن منصات التواصل الاجتماعي جعلت من العالم “قرية متواصلة”، خاصة أنها تسمح بإنشاء المحتوى الإلكتروني وتبادله (نصوص، صور، فيديوهات) عبر الإنترنت.
وتوصف صناعة المحتوى بأنها تشكّل “إعلام العولمة” الذي لا يلتزم بالحدود الوطنية للدول، وإنما يطرح حدودًا افتراضية غير مرئية، ترسمها شبكات التواصل الاجتماعي على أسس سياسية واقتصادية وثقافية وفكرية، لتقديم عالم “من دون دولة”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :