اللامبالاة الجميلة.. عندما يتحمل الجسد وحده عبء المصائب كلها
أحمد عسيلي
لا يكاد يصل الجسد إلى عمر الأربعينيات، إلا وقد مر عليه كثير من الاضطرابات والعلل، نتيجة حالة التلوث العامة التي نعيشها، بالإضافة إلى ضغوط الحياة الجسدية والنفسية، من أمراض للقلب، وارتفاع للضغط، وخثرات دم هنا وهناك.
يستطيع أكثرنا تجاوز هذا كله، لو كان يعيش حياة سليمة وصحية، فالمناعة ووسائل دفاع الجسد الذاتية، غالبًا تكون قادرة وحدها على إدارة شؤونها بنفسها، أو ربما مع بعض المساعدة الطبية البسيطة.
هذه الآليات الذاتية، تصبح غير قادرة وحدها على الحفاظ على الجسد، إذا رافقتها طبيعة حياة أو سلوكيات غير صحية، تضعف من قدرة جسدنا على حل أموره بنفسه، فتسبب له تلك السلوكيات أمراضًا خطيرة، فالإدمان الكحولي سيسبب تشمعًا في الكبد، والتدخين سيتلف الرئة، وتناول المخدرات سيؤثر على المخ والأعصاب، والشره وتناول الطعام بشكل غير مسؤول سيؤثر على عضلة القلب وربما يؤدي إلى السكري.
هذا الجسد المسكين، لا يتحمل فقط النزوات والسلوكيات الخاطئة، بل يدفع في كثير من الأحيان ثمن الضيق النفسي، والحزن، وكل المآسي التي نمر بها في حياتنا، فتترك بصمتها عليه، فالتوتر سيسبب زيادة في ضربات القلب، ونوبات الهلع ستسبب ضيقًا في التنفس، والعشق وبلاويه (وما أكثرها) سيسبب الأرق وقلة النوم.
ويبدو أن هذا الجسد يتطوع أحيانًا فيتحمل وحده عبء الاكتئاب، وخاصة حين يصاب بالآلام العضلية، التي صرنا نعالجها منذ سنوات عديدة بمضادات الاكتئاب، رغم عدم وجود أعراض اكتئاب مرافقة لتلك الآلام، وكأن الجسد هنا تكفل وحده بتحمل كل تلك الأعراض، وأخذها على عاتقه.
وحتى عندما يصاب هذا الجسد بآلام جسدية بحتة، كآلام الأسنان والتهابات الأعصاب، وهي أمراض عضوية تمامًا لا علاقة لها بمجريات الحياة النفسية، نعالجها بمسكنات للآلام، فيمنح الجسد هذه النفس أيضًا هديتها، فتعيش حالة “زهزهة” حتى مع مسكنات عادية من المفترض أنها لا علاقة للنفسية بها، وربما من أشهر تلك الأدوية الترامادول الذي كان يصفه كثيرًا أطباء الأسنان خاصة، لكن لوحظ أن تأثيره النفسي يفوق تأثيره الجسدي، ورفض الأطباء النفسيون وصفه باعتباره بعيدًا عن مجالنا، وتوقف كثير من أطباء الأسنان عن وصفه لأثره النفسي الإدماني، وكأن الجسد حين يستريح، يرفض عيش تلك الراحة وحده، فيمنح النفس نصيبها، بل حتى السيتامول، الدواء الأكثر استخدامًا للصداع وخفض الحرارة، اكتشف لاحقًا أن له دورًا في تهدئة الآلام النفسية.
ضمن هذا السياق، تعتبر حالة “اللامبالاة الجميلة”، وهي ترجمة حرفية لحالة في الطب النفسي ندعوها “La Belle indifference”، واحدة من أكثر تضحيات الجسد تطرفًا للحفاظ على النفس وهدوئها، فحين تعجر النفسية وجميع آليات دفاعها عن تحمل صدمة أو رض نفسي ما، تلقي بجميع حمولتها على كتف الجسد، لتتحرر هي تمامًا من الهم والمآسي، ويصاب هنا الجسد بمرض عضال.
هل هناك تضحية أعظم من هذه؟
وليفهم القارئ أكثر عن هذه التضحية، سأشرح عن حالة سريرية، كانت الأولى التي شاهدتها في حياتي المهنية عام 2005، عندما كنت طالبًا في كلية الطب بجامعة “دمشق”، أبدأ مساري المهني في مستشفى “المواساة”.
هي حالة لفتاة في منتصف العشرينيات، عزباء، دون عمل، توفي والداها منذ فترة، تاركًا لها أخًا وحيدًا، انتقلت للعيش عنده، فأصبحت مكسورة الجناح، تعيش حالة خوف دائم من المستقبل، وبإحدى المرات وقعت في خلاف مع زوجة أخيها، فصفعتها زوجة الأخ هذه، ونتيجة لذلك، أصيبت هذه المريضة التعيسة بحالة شلل في يدها. كانت جميع الفحوص العصبية سليمة، ولم تكن المريضة تشتكي من أي ألم أو أي من أعراض الاكتئاب.
عندما التقيت بها بحضور أستاذتي في الطب النفسي وقتها، كانت تتكلم بهدوء وراحة بال، تتحدث عن تلك الصفعة الذي تلقتها من زوجة أخيها، وكأنها تتحدث عن حادثة جرت مع فتاة أخرى، كانت تنام وتأكل في المستشفى بشكل جيد، ولديها قناعة تامة أن مرضها جسدي فقط، رغم كل الأدلة على خطأ هذا الاعتقاد.
لم تتحمل المريضة تلك الإهانة، أرادت أن ترد صفعة زوجة الأخ تلك، لكنها أضعف من أن تقوم برد فعل، فدخلت في مأزق نفسي أكبر منها، هنا كان الجسد حاضرًا لتحمل كل تلك الآلام، ليترك فرصة لتلك الفتاة كي تعيش حياتها النفسية بكل هدوء، ولم يكن أمام الجسد إلا امتصاص كل تلك الطاقة النفسية السلبية، كل تلك الصدمة والمآسي والألم الناتج عنها، فصبت جميعها على تلك اليد التي لم تتحرك، فأصيبت بالشلل.
هذه ليست بالحالة النادرة جدًا بالطب النفسي، كانت أستاذتي قد أخبرتني سابقًا عن حالة طالبة جامعية متفوقة في دراستها، تحزن وتبكي لو فقدت علامة واحدة في الامتحان، ذهبت يومًا لرؤية نتيجة أحد الامتحانات، وعندما وجدت نفسها راسبة أصيبت بالعمى. وهذه آلية تحويل ليست واعية وليست إرادية، لكنها الحل الوحيد الذي ارتآه الجسد.
علاج هذه الحالة ليس بالأمر السهل أبدًا، ونتائجها أصلًا ليست مضمونة دائمًا، لأنه علينا هنا العمل على الوعي واللاوعي، ومخاطبة الجسد والروح معًا، والعلاقة أصلًا بينهما معقدة، فكيف لنا بالدخول إلى لاوعي المريضة لتغيير آلية تأقلمها مع ظروفها!
على حد علمي، شفيت تلك المريضة من شللها لاحقًا، بعد أشهر طويلة وتعاون قوي بين أخيها وأستاذتي في الطب النفسي وقتها، لكني شاهدت لاحقًا الكثير من الحالات التي لم تشفَ أبدًا وبقي الجسد عنيدًا ومصرًا على أن يتحمل وحده كل الآلام، كي تحافظ النفس على حالة اللامبالاة تلك.
لذلك فالتمارين الرياضية والحفاظ على صحتنا، وعيش حياة سليمة، ليس مهمة فقط للجسد، بل هي أكثر أهمية للنفس أيضًا، فالجسد هو المدافع الأول عنها، وستراه دومًا جاهزًا عند اللزوم لتحمل جميع أعبائها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :