غزوان قرنفل
في أحدث إبداعات صور الجائحة العنصرية ضد السوريين في تركيا، يقر المتهم في أولى جلسات محاكمته بجريمة قتل طفل تركي بإطلاق النار عليه من سلاح صيد، لأنه أثار حنقه وانزعاجه لكونه يلعب الكرة مع رفاقه أمام متجره في أحد أحياء مدينة غازي عينتاب، ويقول “لقد ظننته سوريًا، لم أعرف أنه تركي ولم أكن أتوقع مثل هذا السلوك من أطفال أتراك”!
ليس فعل القتل واستباحة الروح وحده جريمة فحسب، أيًا كان جنس أو جنسية الضحية، الدافع للجريمة في بعدها العنصري، وافتراض الجاني أن السلوك الطفولي المحدث للضجيج الذي استفزه لا يمكن أو لا يتوقع صدوره عن أطفال أتراك هو وجه آخر أكثر قبحًا ودناءة لتلك الجريمة المروعة.
والحقيقة أن الاستباحة ليست سلوكًا طارئًا على جزء من المجتمع التركي تجاه اللاجئين السوريين، فهم لا ينظرون إليهم على أنهم أقران في السمات البشرية، بل ينظرون إلى أنفسهم كشيء أسمى من بني البشر من العرب والعجم، متورمون ومتعملقون عليهم في السلوك وطريقة الكلام، لكنهم وضيعون لفرط انبهارهم وتذللهم لكل من هو، أو يعتقدون أنه، أوروبي، سواء بسبب سحنته أو لغته أو طريقة لباسه في أسوأ تعبير عن انكسار الشخصية وضعة صاحبها.
ونقول إنه ليس شيئًا طارئًا، إذ لطالما اقترنت أكثر جرائم القتل أو الاعتداء على السوريين بدوافع أو أبعاد عنصرية صرفة. ولا حاجة ربما للتذكير بجريمة إحراق ثلاثة عمال من الشبان السوريين ضمن غرفتهم في إزمير كأوضح صور جرائم القتل بدوافع عنصرية، ولا شك أن هناك عشرات الجرائم التي يمكن الإضاءة عليها وليس آخرها بطبيعة الحال الجريمة موضوع سطورنا.
الهجوم المروع على محال ومساكن السوريين في مدينة قيصري نمط فظ من أنماط الجرائم العنصرية التي يعانيها السوريون، وهو نمط سبق أن جرّب في مدن أنقرة وأضنة وغيرهما، وهو ما دفع آلافًا من السوريين للفرار “طوعًا” هذه المرة إلى شمالي سوريا، الذي تستبيحه بدورها عصابات مسلحة متفلتة من أي أخلاق أو قيم أو قانون، تحمل اسم فصائل “الجيش الوطني” وتحظى برعاية ودعم تركيين، وتنعم أيضًا بغض طرف تركي غير مفهوم عن جرائمها وتجاوزاتها وانتهاكاتها لحقوق الناس وكراماتهم.
ليس ثمة إحصائية دقيقة معلومة لدينا عن كم الجرائم العنصرية المرتكبة ضد السوريين في تركيا، لكنها بالقطع بالمئات، ويمكن الآن للمختصين بالرصد والتوثيق أن يضيفوا إليها جريمة جديدة ارتكبت خلال كتابة هذه السطور، كان ضحيتها طالب مدرسة سوريًا قضى بطلق ناري إثر شجار مع زميل له خارج المدرسة.
بطبيعة الحال، فإن كل الجرائم الخطيرة يتم تحويل مرتكبيها إلى القضاء الذي يصدر فيها حكمه العادل، وحتى الانتهاكات والاعتداءات التي يتقدم ضحاياها بشكاوى مباشرة للنيابة العامة يتم فتح تحقيقات بها، لكن يحاول معظم ضحايا تلك الانتهاكات تجنب ذلك خوفًا من ترقين قيودهم من قوائم الخاضعين لنظام الحماية المؤقتة بسبب انخراطهم في نزاعات قضائية، وفق السياسات القاصرة التي تتبعها معظم دوائر الهجرة بشكل تعسفي، ما يقتضي معه، على ما نأمل، تدخلًا واضحًا وحازمًا من صنّاع القرار لتصويب هذا السلوك الوظيفي غير العادل.
صحيح أنه لا يمكن القضاء على السلوك العنصري الفاقع الذي يواجهه اللاجئون هنا بالسرعة التي يأملونها، لكن بالقطع فإن اتخاذ تدابير قضائية عاجلة وحازمة، وقيام المؤسسات الإعلامية بدور إيجابي في هذا السياق بدلًا من الشحن والتحريض وتداول المعلومات غير المؤكدة ونشرها أو بثها وكأنها حقائق، وكذلك اتخاذ إجراءات حازمة قضائية وسياسية ضد الشخصيات السياسية التي تؤلب الرأي العام ضد اللاجئين وتحرض عليهم في خطابها اليومي مع جمهورها، كل ذلك لا شك أنه يسهم في تفكيك الخطاب العنصري، ومن شأنه أن يحد منه ومن آثاره كثيرًا.
أما الاكتفاء بسياسة الإنكار كسبيل لمواجهة ودحض التقارير الحقوقية، ومعظمها تقارير لمنظمات تركية، والتي تشير إلى وجود جرائم وانتهاكات بحق اللاجئين وخاصة في مراكز الاحتجاز والترحيل، فلا يفيد بشيء، بل على العكس يراكم المشكلة ويسيء لسمعة تركيا الدولية كثيرًا، وهو ما ليس من المصلحة الوطنية في شيء.
كما أن العمل طويل الأمد على برامج تربوية وتعليمية في المدارس على تقبل الآخر المختلف في العادات والأفكار والانتماء القومي، استراتيجية لا بد من اعتمادها والاشتغال عليها لبناء أجيال تسهم في القضاء على النزوع العنصري المتطرف بكونه على الضد من الهوية الوطنية الجامعة وعلى الضد من الترقي بين الأمم، وحتى ذلك الحين نأمل ألا يقف أحدهم مجددًا في قاعة المحكمة ليقول:
عذرا لقد ظننته سوريًا، وإن بعض الظن إثم، أقر بأنني آثم فقد كان الطفل تركيًا!