عنب بلدي – موفق الخوجة
خلال إجازته الوحيدة التي حصل عليها قبل انشقاقه، أدرك حسين الكبش (34 عامًا) أنها المرة الأخيرة التي سيرى فيها أمه وعائلته، وحصل ذلك بالفعل.
أواخر عام 2012، انشق الشاب الثلاثيني عن جيش النظام السوري، والتحق بأحد فصائل المعارضة التي تقاتل في مدينة دوما على أطراف دمشق، ثم انتقل مع عدد من عناصر فصيله إلى مدينته حلب.
وانقطع تواصل حسين المباشر مع أبيه وإخوته منذ ذلك الحين، واتصل بوالدته لإخبارها بقرار انشقاقه، إذ كانت حينها تبكي وتندب حظها.
بكاء والدته وتعلقه بها لم يثِنه عن قراره، بل صنع المبررات لأمه كي لا تقنعه بالعودة، فإذا عاد إلى ثكنته العسكرية فأحكام السجن الطويلة بانتظاره.
وشملت المبررات إتلاف دراجته النارية التي كانت بعهدته وكل وثائقه الشخصية، واتصاله بالضابط المسؤول عنه وشتمه.
مواجهات عسكرية
حسن، الأخ الذي يصغر حسين الكبش بعام واحد، التحق بعده بصفوف جيش النظام، وعلى عكس أخيه الأكبر كان الصغير على نهج عائلته في التأييد، وتم فرزه للقتال في حلب بعد التحاقه بمدة قصيرة.
وعلم حسين في أثناء “رباطه” (الحراسة على خط المواجهة العسكرية) على محيط مستشفى “الكندي” بحلب، أنه يواجه أخاه حسن الذي كان يقاتل مع النظام من داخل المستشفى حينها.
لم يكن حسين يعتبر أنه يواجه أخاه، بل يقاتل ضد “الباطل” الذي يقف حسن بجانبه، على حد تعبيره.
وبعد مقتل الأخ الأصغر المنخرط في صفوف جيش النظام على جبهة الراموسة بحلب، قال حسين، إن حزنه على أخيه كان أقل مقارنة بحزنه على صديقه الذي قتل إلى جانب صفوف المعارضة.
إلى جانب حسين، قابلت عنب بلدي حالات أخرى أيضًا تفرقت بسبب الاصطفافات السياسية، فهناك سعاد الجزاع من مدينة دير الزور التي تحاول جاهدة، منذ 12 سنة، أن تلتقي مع أخويها جهاد وعماد.
جهاد هو مقاتل في صفوف “الجيش الحر”، أما عماد فانضم إلى “قوات سورية الديمقراطية” (قسد) بعد سيطرتها على أجزاء من دير الزور.
ولم تحظَ سعاد بحضن أو مكالمة صوتية منهما، بالرغم من وجود الإخوة الثلاثة في مدينة واحدة.
وبحسب حديث السيدة لمراسل عنب بلدي في دير الزور، افترق الإخوة الثلاثة بسبب عمل زوج سعاد كضابط في جيش النظام، إذ خيّرها بين البقاء معها أو أن تفارقه وتذهب إلى إخوتها.
ما أسباب الانقسام
منذ بدء الثورة السورية عام 2011، انقسم المجتمع السوري بين مؤيد للنظام ومناهض له ومطالب برحيله.
وتعزز هذا الانقسام مع الوقت، ووصل إلى حد القطيعة بين أبناء العائلة الواحدة بسبب تباين آرائهم السياسية حتى بعد مرور 13 سنة على اندلاع الثورة.
وبسبب تقسيم الجغرافيا السورية بين أطراف الصراع المتعددة، واختلاف الانتماءات السياسية ضمن العائلة الواحدة، شهدت هذه العوائل اصطفافات على المستوى العسكري أيضًا، وصلت إلى حد المواجهة والقتال في بعض الأحيان.
وقال الباحث الاجتماعي الدكتور صفوان قسّام لعنب بلدي، إن ما حصل في سوريا لم يكن تفرّقًا طبيعيًا، لكنه انقسام “مرضي” ناتج عن هزة عنيفة تعرض لها المجتمع، أدت إلى تفتيت العلاقات الاجتماعية.
وأضاف قسّام أنه ليس غريبًا على المجتمعات في أوقات الأزمات وخصوصًا السياسية منها، والتي تعتمد على تبني وجهات النظر والاصطفاف، أن يكون هناك انقسام “أفقي وعمودي” في البناء الاجتماعي.
استقطابات جغرافية
الاستقطاب الذي جرى تجاه النظام أو ضده، أخذ طابعًا جهويًا وعشائريًا وطائفيًا وعائليًا، بحسب ما ذكره الباحث الاجتماعي صفوان موشلي.
وأضاف موشلي أن هذه الاستقطابات أصبحت لديها جغرافيا خاصة بها، موضحًا أن الجغرافيا السورية تقسمت إلى ما يسمى بالمناطق “المفيدة” و”المحررة” ومناطق كردية ويقابلها عربية، بالإضافة إلى التقسيمات التي أخذت طابعًا طائفيًا وأصبح لديها حدودها وميليشياتها.
ونشر الكاتب حمزة رستناوي مقالًا بمركز “حرمون للدراسات”، في تموز الماضي، قال فيه إن الانقسام السياسي للسوريين جاء بناء على وجود منظور سياسي معيّن، وإن الاصطفاف السياسي جاء بناء على أسباب وسياقات تتعلق بالتجارب الشخصية للأفراد.
عائلته عارضت انشقاقه
علاوة على متابعته للأخبار وما يحصل في المنطقة، كان شاهدًا على المظاهرات وحملات الاعتقال التي طالت سوريين، وإحضارهم إلى فرع “فلسطين” القديم والفرع “92” خلال وجوده في الجيش، قال الشاب حسين الكبش.
وباعتبار أنه كان يخدم في شارع “التوجيه” بدمشق، فقد كان شاهدًا أيضًا على عمليات التعذيب من مبنى “السجلات” الذي كان يطل على ساحات الفروع الامنية، الأمر الذي دفعه إلى الانشقاق، كما أخبر حسين.
على الجانب الآخر، عارضت عائلة الشاب قرار ابنها بالانشقاق، إذ كانت بمجملها تؤيد السلطة الحاكمة بسبب صلة قرابة قبلية مع وزير الدفاع السابق، جاسم الفريج، الذي جندهم لمصلحة النظام وقتها، كما قال حسين.
والتحق حسين بالخدمة الإلزامية في آذار 2011، وبحكم عمله قبل ذلك في مقاهي الإنترنت، كانت لديه الخبرة الكافية للدخول إلى “سكايب” و”فيس بوك” الذي كان محظورًا في سوريا.
وكان يتابع الأخبار بشكل دائم من المنصات غير القابلة للرقابة، في وقت كانت عائلته تتابع وسائل الإعلام الرسمية والمقربة من النظام فقط.
أسباب اجتماعية تعزز القطيعة
الحالات التي قابلتها عنب بلدي لا يمكن تعميمها على المجتمع السوري، وهي “حالات فردية تستحق الدراسة”، للوقوف على الدوافع الإنسانية للسلوك البشري، كما قال الباحث الاجتماعي موشلي لعنب بلدي.
والعلاقة العائلية بين حسين وإخوته أو سعاد وإخوتها كانت ضمن الإطار الطبيعي قبل الثورة، على عكس أحمد الموسى (49 عامًا) الذي ظهرت بوادر قطيعته مع أخيه قبل الثورة.
وليست الأسباب السياسية وحدها ما دفعت أحمد إلى قطع العلاقة مع أخيه، فهناك أسباب اجتماعية أخرى إلى جانب السياسية.
ووصف أحمد نفسه بأنه ملتزم دينيًا بينما كان الأخ الأكبر “منحل أخلاقيًا”، حسب تعبيره، ما سبب شرخًا في العلاقة بينهم حتى قبل الثورة.
واعتقل النظام أحمد عام 2005، على خلفية ارتباطه بمحمود قول أغاسي المعروف بـ”أبو القعقاع”، الذي كان له دور حينها في دعوة الشباب السوري إلى “الجهاد ضد الأمريكي”، كما وصفه، إبان الغزو على العراق.
وخلال فترة اعتقاله، قال أحمد لعنب بلدي، إن أخاه استغل غيابه، وقام باستفزاز زوجته وأخذ منها المال والذهب، مدعيًا أنها للمساعدة في خروجه من السجن، مضيفًا، “وصل به الأمر أن يخبر عائلته أنه مقتول ليحصل على الميراث”.
واستمرت فترة اعتقال أحمد لمدة ست سنوات، وفي السنوات الثلاث الأولى، لم تتمكن عائلته من معرفة مكانه، وحتى عندما استطاعت الوصول له لم يقم أخوه بزيارته.
وبدأت القطيعة الفعلية بين أحمد وأخيه قبيل سيطرة فصائل “الجيش الحر” على المناطق الشرقية من مدينة حلب، في تموز 2012.
وتلقى أحمد المكالمة الأخيرة من أخيه الذي كان حينها ضمن اللجان الشعبية” أو ما يعرف بـ”الشبيحة”، وأخبره بأنه ينوي اللحاق بصفوف “الثوار”.
وبسبب معرفة أحمد بموقف أخيه السياسي الموالي للنظام، أحس بوجود “خدعة” وقرر مغادرة منطقة سكنه، والإقامة في مناطق سيطرة المعارضة خوفًا من الوشاية به.
هل تستمر القطيعة
يربط أحمد أسباب القطيعة مع أخيه ببقاء النظام السوري في سدة الحكم، فإذا زال هذا السبب تنتهي القطيعة، على حد قوله.
ولحسين أيضًا موقف مشابه لموقف أحمد، وذكر لعنب بلدي أنه لا يريد أن يكون بطرف “الظالم” ويقصد (النظام السوري)، فإذا سقط ستعود المياه إلى مجاريها في العائلة.
ويرى الباحث الاجتماعي قسّام أن الانقسام تترسخ حدوده مع الزمن لأن الأفراد الذين اختلفوا على السردية الأولى للمسألة السورية، لن يغيروا مواقفهم التي تبنوها طوال سنوات حياتهم وعملوا على تكديس الحقائق المنتقاة، لأنهم بذلك يهدرون 13 سنة من حياتهم سدى.
وجهتا نظر
في حوار بين مفكرين مستقلين أجراه مركز “حرمون للدراسات”، في أيلول الماضي، حول “الانقسام المجتمعي على خلفية الموقف السياسي”، طرح المحاورون وجهتي نظر حول الآلية العملية لإزالة الخلافات بين السوريين المنقسمين بسبب المواقف السياسية.
وترى وجهة النظر الأولى أن من الصعب الحديث عن أي حلول قبل تحقيق “مسار مقبول للعدالة يشمل الجميع”.
ويشمل هذا المسار كل الأطراف التي ارتكبت “انتهاكات” بحق الشعب السوري، وليس النظام السوري ورموزه فقط.
وربط أصحاب وجهة النظر الأولى الحل بعدة عوامل، منها توفر حياة سياسية في سوريا، وأحزاب فاعلة يمكنها النهوض بأعمال مؤثرة على صعيد معالجة الانقسام السياسي.
ومن العوامل الأخرى التي تحدث عنها فريق الباحثين، تطوير المشاركة المجتمعية والتنمية الاقتصادية المتوازنة في كل المناطق السورية.
ويرى الفريق الآخر من المشاركين في حوار مركز “حرمون”، أن العمل على معالجة الانقسامات بين السوريين لا يتطلب الشروط التي ذكرها الفريق الأول من المحاورين.
وطرح المحاورون عدة أفكار لمعالجة الانقسامات، منها تعزيز الحوار بين السوريين وتطويره، والانتقال بحوارات السوريين من الدوائر المغلقة التي تضم ناشطين وناشطات إلى دوائر أوسع، تغطي كل التيارات والانتماءات.