هل تفقد المجتمعات رشدها؟

  • 2024/11/17
  • 12:52 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

سؤال لطالما يحاصر تفكيري بين حين وآخر كلما قرأت رأيًا أو شاهدت سلوكًا أو موقفًا يؤشر إلى غياب الرشد في مجتمعاتنا العربية المأزومة، لأجد نفسي بعد طول محاكمات عقلية وقد وصلت إلى تلك القناعة التي تقول نعم، يمكن حقًا للمجتمعات أن تفقد رشدها وتعيش بالتالي تحت وطأة الجهل والتجهيل والفقر والإفقار، واستطرادًا فقدان القدرة على تغيير الواقع المهمش للإنسان والمهشم لكيانه وآدميته.

الاستبداد المديد هو كلمة السر، التي تُدخل المجتمعات في تلك الغيبوبة التي تُخرج البشر عن سياق الحياة وتجعلهم مجرد قطعان بشرية، تتكيف وتعيش ضمن نمط من الحياة البهيمية التي لا تشبه حيوات المجتمعات التي ترفل في نعيم الحرية، حيث ينعم العقل برفاهية المعرفة والاطلاع والتنوع والتقبل، وهي جزء من طبائع البشر وحقوقها التي تجعلها ترتقي في مراتب الإنسانية.

الاستبداد يفقد المجتمعات مناعتها ويتركها نهبًا لكل الأمراض وجائحات الفكر المتطرف أو المتبلد أو الشعاراتي الأجوف، لأنه على الضد من الإرادة الحرة التي هي لب التكوين البشري، والتي يفترض أن يتمتع بها البشر جميعًا ويمارسونها في انتقاء مذاهبهم الحياتية والسياسية والاقتصادية التي يرون أنها تستجيب لمصالحهم ومتطلبات عيشهم الآدمي دون إكراه حتى يكونوا مسؤولين عن خياراتهم واختياراتهم. حتى الخالق نفسه جلّ في علاه لم يصادر إرادة البشر، وأبى أن يُكره مخلوقاته على الإيمان به قسرًا، وترك لهم حرية الإيمان أو الكفر ليتحملوا مسؤولية اختياراتهم.

وأقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النّفس على العقل، كما يقول المفكر الكبير عبد الرحمن الكواكبي، فاستبداد المرء بنفسه واضطهاده لها هو أخطر ثمرات الاستبداد السياسي المديد، حيث يألف المرء حياة الخنوع ويركن للأمان المتوهم تفاديًا لحرية ثمنها دم وخراب، بل وفي كثير من الأحيان يتحول المرء إلى طبال أو بوق يعزف من النوتة الموسيقية للسلطة فيبرر لها جرائمها ويزين أعمالها مهما كانت متواضعة أو وضيعة.

مناسبة القول هو قيام السلطات المصرية بتوقيف طبيبة نساء مصرية تحدثت في تسجيل مرئي عن ظاهرة بدأت تتضخم في المجتمع المصري، تتعلق بجرائم خيانة زوجية وسفاح وحمل خارج إطار الزواج ونسب أطفال لغير آبائهم، بزعم أن ما قالته الطبيبة يسيء لقيم المجتمع المصري، علمًا أن ما قالته تلك الطبيبة هو من واقع عملها وما تراه وما ترصده يوميًا تقريبًا من هذه الجرائم، فأرادت أن تقرع ناقوس الخطر علّ العائلات والأسر تتنبه إلى أبنائها وعوائلها، لكن سياسة الإنكار ورفض دراسة الحالة هي سيدة الموقف في الدول والمجتمعات أسيرة الاستبداد، وغالبًا ما يكون الضحية هو الشخص الذي يكشف ويعلن تلك الحقائق أو يجاهر بها.

والحقيقة أن مثل تلك المعالجات القائمة على الإنكار ومحاولة إخراس من يسلط الضوء على المثالب ليست خاصة بالدولة المصرية أو المجتمع المصري، بل هي جزء أصيل من سياسات الحكومات والمجتمعات في مختلف الدول العربية بوصفها أكبر مستنقعات الاستبداد عبر التاريخ.

إن مساحة الحرية العقلية ترتبط وتتسع اطرادًا مع اتساع مساحات المعرفة، ولهذا لا يركن الاستبداد والمستبدون إلا للجهلاء، ولا تستقيم أدواته ومؤسساته إلا في حجب سبل المعرفة والتنوير عن الناس، وتحويل البلد لكهف من كهوف الجهل والتجهيل، ولهذا أيضًا تتسم المجتمعات العربية بالضحالة المعرفية وتبقى أسيرة رواسب ما تم حشوه في عقولها من أفكار دون أن تجرؤ على إجراء مراجعات حقيقية وفي العمق لمجمل مفاهيمها وقيمها وأفكارها وتراثها المعرفي والفقهي، لتتبين هل العلة تكمن في تلك المفاهيم والأفكار أم في المجتمعات التي ركنت على هامش الحياة واستكانت لما تعتقده قدرًا لها.

أما من تجرأ وكسر المحرمات، كما يقال، وهم قلّة على أي حال، فقد كان النبذ المجتمعي والتكفير والقتل أحيانًا مصيرًا لهم، بدءًا من عبد الرحمن الكواكبي الذي قضى غيلة بالسم، مرورًا بالمفكر المصري فرج فوده الذي كفرته واغتالته جماعات إرهابية، وليس انتهاء بنصر حامد أبو زيد الذي تم تكفيره وإصدار حكم بالتفريق بينه وبين زوجته بوصفه “مرتدًا”، ما اضطره لمغادرة وطنه واللجوء إلى هولندا. دون أن ننسى تكفير الدكتور محمد شحرور والمستشار محمد عبدو ماهر وغيرهما من رواد التنوير الديني، الذين قدموا قراءة معاصرة ورؤية مغايرة كليًا عما تستبطنه كتب التراث الفقهي من أضاليل وأباطيل حولت حياة المسلمين إلى جحيم مقيم.

عود على بدء، هل تفقد المجتمعات رشدها حقًا؟

لعل خير وأبلغ رد على هذا التساؤل ما قاله يوما المفكر محمد رشيد رضا: “إن الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتُساس بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسها، ويذهب بأسها، وتُضرب عليها الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخُلُقية، إذا أخرجت صاحبها من بيئتها ورفعت عن رقبته نيرها، أَلْفَيْتَه ينزع بطبعه إليها، ويتفلت منك ليتقحم فيها”.

مقالات متعلقة

  1. آن الأوان لتجاوز هؤلاء
  2. في نفس الحائط.. في نفس المكان كل مرة
  3. من الرز بحليب إلى البخور والدجاج
  4. الحرية التي نجحنا بالتفريط بها

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي