عندما يصاب كبار السن بالاكتئاب

  • 2024/11/17
  • 1:38 م
أحمد العسيلي

أحمد عسيلي

لحظة ولادة الإنسان، يكون محررًا من كل قيد أو قانون، فلا ممنوع عليه ولا محرم، لا “تابوهات” ولا عادات اجتماعية ولا تقاليد، يمكن له أن يصرخ ليلًا، يؤدي حاجته أينما أراد، يضرب والده ربما، ليس لديه أي رد فعل مقرر، نسامحه مهما فعل.

ثم مع مرور الزمن، ومع كل مرحلة عمرية جديدة، تزداد عليه تلك القيود والواجبات وتبدأ سلسلة الالتزامات، فما يقبله المجتمع من طفل الأربع سنوات مثلًا، لن يقبله من مراهق بعمر الـ15، وما نبتسم له من تصرفات يقوم بها هذا المراهق ذو الـ15، ربما يصيبنا بالاشمئزاز أو السخرية لو قام به رجل في الـ40 أو الـ50.

وهكذا مع كل يوم جديد يمر في حياة الإنسان، تزداد عليه القيود الاجتماعية، ويصبح المجتمع أكثر تعنتًا مما ينتظره من هذا الكائن، لتتجسد في كبير السن كل الأغلال والسلاسل النفسية، فكل شيء له مرسوم بعناية، ولا يحق له أبدًا التعبير عن نفسه إلا وفق ما يمليه عليه سنه، فنفرض عليه ألوان ثيابه (انظروا إلى هذا العجوز بتلك الألوان الشبابية، يعتقد أنه عشريني)، ساعات نومه وصحوه، بل وطريقة ابتسامته (يضحك بهستيرية، تاركًا وقاره).

كبار السن، هم الفئة الأكثر تعرضًا للضغط النفسي والاجتماعي، ويضاف إليه أمراضهم الجسدية التي يصابون بها نتيجة تراكم الاضطرابات والعلل أساسًا، مع أن الشيخوخة بحد ذاتها لا تعتبر مرضًا، ولا تسبب أي مرض بحد ذاتها، لكن تراكم الأمراض مع الزمن، بالإضافة إلى تلك الناتجة عن الآثار الجانبية لكل دواء، وتلك الناتجة عن آثار تداخل الأدوية معًا، بل إن كثيرًا من الأمراض تفاقمت نتيجة الإهمال، لأنها كانت تُعزى دومًا لكبر السن، فحين ينسى (عادي، فهو عجوز)، إذا تباطأت حركته (عادي فهو كبير بالسن) وهكذا نمر عبر كثير من الأمراض دون علاجها، لأننا أصلًا لم نعطِ لأعراضه الأهمية المناسبة نتيجة سنه.

ضمن هذا السياق، يعتبر الاكتئاب لدى كبير السن إحدى أكثر المشكلات التي يعانيها دون أن ننجح في علاجها بالشكل الصحيح، ويزيد الأمر تعقيدًا أن أعراض وطرق التعبير عن الاكتئاب تكون مختلفة تمامًا عن طرق التعبير عنها لدى الأطفال أو الإنسان الناضج، وهو ما يجعل حتى بعض الأطباء الذين لا يملكون خبرة كافية، يتجاهلون تلك الأعراض، لذلك ونتيجة تكرار تلك الأخطاء من قبل بعض الأطباء، ظهر إلى الوجود خاصة في أوروبا تخصص جديد ضمن تخصصات الطب النفسي، يدعى طب نفس الشيخوخة، كي يكون هذا الطبيب النفسي المختص بتلك الأمراض قادرًا بشكل أكبر على التعامل مع خصوصية هذه المرحلة العمرية.

أول ما يميز الاكتئاب لدى كبير السن أنه لا يتظاهر بالحزن والإحساس بالأسى كما يتجلى عادة، بل غالبًا ما يتجلى بالخشونة والأفكار العدائية تجاه المحيط، فتراه دومًا بحالة غضب، دومًا يعتقد السوء بمن حوله، يخاف من الجميع ويتوقع الشر من الجميع، يفسر جميع تصرفات من حوله وكأنها مؤامرة ضده، ربما تعكس خوفه وإحساسه بهشاشته، فتراه دومًا متأهبًا وجاهزًا للمعركة، بل قد تزداد حالة الاكتئاب تلك، وخاصة حين تهمل ولا تعالج بالوقت المناسب أو بالشكل الصحيح، فيتهيأ له واقعًا آخر مليئًا بالمؤامرات والصراعات، وتكون ردود فعله متماشية مع عالمه الموحش والمخيف الذي بناه بخياله، وهنا تزداد صعوبة المعرفة بأنه مكتئب، لأن أول ما سيشَك به هو الخرف أو ألزهايمر، وعندها سيعامل على هذا الأساس للأسف.

وسأوضح هذه الفكرة بحالة سيدة سبعينية كنت قد أشرفت على علاجها منذ عدة سنوات، بدأت قصتها حين ذهبت إلى أحد مراكز الشرطة لترفع شكوى ضد ابنتها، مدعية أن هذه الابنة تحرض جارها على سرقة ثمار شجرها، وأنهما على وشك التخطيط معًا لدخول بيتها ليلًا لسرقة ذهبها، وحين حاولت الشرطة استجواب تلك السيدة لمعرفة تفاصيل أكثر عن تلك الشكوك، لاحظوا عدم انتظام أقوالها، فحولوها لي للفحص النفسي، وحين اتصلت بابنتها، اشتكت لي هذه الفتاة المنهارة نفسيًا، أن والدتها منذ عدة أشهر فقدت كل قواها العقلية وبدأت تعتقد أن جميع من حولها يشتركون بمؤامرة ضدها، وأنها تعتقد أن أمها مصابة بالخرف، وحين أجرينا جميع الفحوص الطبية المناسبة، كانت كلها سليمة دون أي خلل طبي، فبدأنا بعلاجها بمضادات الاكتئاب وبجلسات الدعم النفسي المناسبة، فكان التحسن ملحوظًا خلال عدة أسابيع، لتخرج من المستشفى بعد عدة أشهر وقد تحسنت علاقتها من ابنتها، وأدركت خطأ ما تعتقده.

للأسف، ما حدث مع هذه السيدة الفرنسية ليس الحالة العامة مع جميع كبار السن، فكم منهم يتلفظ بكلمات وأوهام غريبة، يبدأ الجميع معاملته وكأنه “انتهى” و”خرف”، ما يفاقم حالته النفسية، وتزداد تصرفاته عداوة، لندخل هنا بحلقة مفرغة من تفاقم المرض وتفاقم ردود فعل المحيط حتى نصل إلى مراحل كارثية.

كبير السن يتعرض لضغط اجتماعي ونفسي كبير، ربما لا نملك طرقًا لتخفيف هذا الضغط بشكل عاجل، لأن لها أسبابًا اجتماعية متجذرة في نفوسنا، لكننا نستطيع رعايته بشكل أفضل والاهتمام به أكثر، وأول خطوات هذا الاهتمام هي التوقف عن التعامل معه وكأن أيامه معدودة، أو أن كبر السن يعني المرض والخرف، وأن نفهم جيدًا أن له طبيعته الخاصة في التعبير عن نفسه، بل وحتى عن أمراضه، ونحاول معه بكل السبيل كي يعيش سعيدًا إلى ما شاء الله له، فالأعمار بيد الله، وقد يعمر الإنسان حتى ما فوق الـ100 وبصحة جيدة، إذا توفرت له طبعًا شروط تلك الحياة الصحية.

مقالات متعلقة

  1. الحالة النفسية للسوريين في المنفى.. لماذا وصلنا إلى هنا؟
  2. الوقاية من الانتحار.. توعية وتعاون
  3. أعداد المصابين نفسيًا في سوريا تتضاعف 4 مرات
  4. اكتئاب ما بعد الولادة قد يؤثر على تطور الأطفال

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي