مجيب خطاب
في الشمال السوري، يعيش ملايين الناس واقعًا لا يحمل لهم بدائل تضمن الحياة الكريمة أو الأمان، وسط غياب شبه كامل لمقومات الحياة الأساسية. في ظل ظروف اقتصادية قاسية وبنية تحتية منهارة، وجدت هذه المنطقة نفسها محاصرة داخل دوامة من الأزمات الإنسانية والاجتماعية المتفاقمة، حتى بات يُطلق على الحياة هناك وصف “حياة بلا بدائل”.
يعود جزء كبير من هذا الوضع إلى السياق الجيوسياسي المتشابك الذي حول الشمال السوري إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، تُتبادل فيها المصالح والنفوذ على حساب السكان المحليين. ومع تدفق مستمر للنازحين من المناطق المجاورة، يزداد الضغط على الموارد الشحيحة أصلًا، مما يكثف المعاناة ويزيد من التحديات اليومية في مشهد مأساوي يخنق أي أمل في تحسين الأوضاع.
وفي ظل غياب حلول سياسية فعّالة، مثل القرار الأممي “2254” الذي ينص على الانتقال السياسي، والتراجع المستمر في الدعم الدولي، يجد سكان الشمال السوري أنفسهم عالقين بين غياب الخيارات وتفاقم الاحتياجات الأساسية.
جغرافيا الصراع وديموغرافيا الأزمات
لفهم ما يعانيه سكان الشمال السوري، ينبغي النظر إلى السياق الجيوسياسي الذي حول هذه المنطقة إلى ساحة صراع إقليمي ودولي.
منذ بداية خفض الصراع في سوريا، تحولت المنطقة إلى ميدان سياسي لتصفية حسابات قوى دولية وإقليمية، ما ألقى بظلاله على السكان المحليين وزاد من تعقيد جهود الإغاثة وإعادة الإعمار. وأدى تباين المصالح الدولية التي أعاقت أي جهود حقيقية لإعادة بناء البنية التحتية أو خلق أفق جديدة للتنمية، إلى تردي الأوضاع الإنسانية بشكل غير مسبوق.
ومع التدفق المستمر للنازحين من دول الجوار، ازداد الضغط على الموارد المحدودة أصلًا، مما أدى إلى ظهور احتياجات جديدة، لتأمين أساسيات الحياة للوقوف في وجه التحديات التي تواجه سكان الشمال السوري والتي يمكن وصفها بمتعددة الأبعاد، حيث تتداخل مشاكل نقص الغذاء مع ضعف الخدمات الأساسية وسوء الوضع الأمني، في مشهد مأساوي يفوق القدرات والموارد الحالية، إذ يعيش الآلاف من السكان في الشمال السوري بالأصل في خيام ومساكن مؤقتة غير مجهزة لمواجهة الظروف المناخية الصعبة ويعانون من نقص حاد في إمدادات الغذاء، مما يدفع بعض الأطفال إلى التخلي عن التعليم والانخراط في سوق العمل لمساعدة أسرهم.
وفقًا لتقارير “Human Rights Watch“، فقد بلغ عدد سكان شمال غرب سوريا حوالي 4.1 مليون نسمة في عام 2023، وقد ارتفع إلى نحو 5.1 مليون نسمة في عام 2024 بحسب “UNOCHA“، وهذا يعني زيادة سكانية تقدر بحوالي مليون نسمة خلال هذه الفترة، وبذلك يمكن تقدير نسبة الزيادة السكانية في شمال غربي سوريا بحوالي 24.4%.
هذه الزيادة السكانية خلال عام واحد فقط تعني نسبة نمو كبيرة في عدد الأشخاص الذين يحتاجون إلى مساعدة إنسانية، وتعكس واقعًا ديموغرافيًا متفاقمًا بسبب عدة عوامل، منها الزيادة الطبيعية الناتجة عن الولادات، والتدفق المستمر للعائدين من تركيا، إضافة إلى اللاجئين الذين أُعيدوا قسرًا من دول مجاورة، إلى جانب تداعيات الحرب في لبنان.
بناءً على هذا الاتجاه، من المتوقع أن يصل عدد السكان في المنطقة إلى حوالي 6.34 مليون نسمة بحلول عام 2025. تشكل الزيادة السكانية المتسارعة في الشمال السوري تحديًا إنسانيًا كبيرًا، حيث يزيد هذا النمو الحاد من مأساة المنطقة التي تعاني أصلًا من شح الموارد وتهالك البنية التحتية.
الزيادة السكانية وتآكل الموارد
يؤدي تضخم عدد السكان إلى ضغوط متزايدة على مختلف نواحي الحياة في المنطقة. أولًا، يتفاقم نقص الغذاء ليصبح أزمة أكبر، إذ إن الموارد الغذائية الحالية لا تكفي لتلبية احتياجات هذا العدد الكبير من السكان، ما يضطر عديدًا من العائلات إلى الاعتماد على المساعدات الإنسانية بشكل كامل.
ومع زيادة الطلب على الغذاء، تزداد أسعار المواد الأساسية، مما يزيد من انعدام الأمن الغذائي ويدخل المزيد من الأسر في دائرة الفقر.
كما أن الخدمات الصحية والتعليمية، التي كانت ضعيفة بالأصل، باتت غير قادرة على تلبية احتياجات هذا التعداد السكاني المتزايد، خاصة مع ازدياد الضغط على المراكز الصحية، ويصبح الحصول على الرعاية الطبية الأساسية تحديًا يوميًا، ما يعرض حياة السكان، لا سيما الأطفال وكبار السن، للخطر.
كذلك، يحرم الآلاف من الأطفال من حقهم في التعليم، حيث يضطرون إلى ترك الدراسة للالتحاق بسوق العمل بهدف دعم أسرهم، مما يشكل تهديدًا لمستقبل جيل بأكمله، وعلاوة على ذلك البنية التحتية المتدهورة هي تحد آخر تفاقمه هذه الزيادة السكانية.
يعيش آلاف السكان في مخيمات ومساكن مؤقتة غير ملائمة لمواجهة الظروف المناخية القاسية، ويفتقرون إلى مياه الشرب النظيفة وخدمات الصرف الصحي، مما يرفع من مخاطر تفشي الأمراض والأوبئة في مجتمع يعيش في بيئة غير صحية وفي المقابل تضيف هذه الظروف ضغوطًا اجتماعية وأمنية، حيث يسهم التكدس السكاني في تصاعد التوترات بين السكان المحليين والعائدين أو النازحين، ما يؤدي إلى انقسامات في النسيج الاجتماعي ويزيد من حدة التحديات الأمنية في بيئة غير مستقرة أصلًا.
هذه المعاناة لا تقتصر على تحديات الموارد فقط، إذ تتداخل معها عوامل أخرى تزيد من تعقيد المشهد، وعلى رأسها التراجع الحاد في التمويل الدولي للمساعدات الإنسانية.
وفقًا لتقارير “منسقي الاستجابة”، انخفض الدعم بنسبة 57% مقارنة بالعام الماضي، مما يهدد حياة ملايين الناس الذين يعتمدون على هذه المساعدات لتلبية احتياجاتهم الأساسية. ومع تسييس ملف المساعدات الإنسانية، أصبحت هذه المساعدات أداة للتجاذبات السياسية، الأمر الذي يضاعف العبء على المنظمات الإنسانية المحلية والدولية التي تسعى جاهدة لسد الفجوات في الخدمات المقدمة، لكنها تجد نفسها عاجزة أمام الطلب المتزايد.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى تدخل دولي عاجل وفعّال يهدف إلى إعادة تفعيل آليات إيصال المساعدات عبر الحدود، وضمان استمراريتها بعيدًا عن الحسابات والتجاذبات السياسية، من أجل تلبية الاحتياجات الإنسانية المتزايدة بشكل عاجل ومستدام.أسفل النموذج
ولكسر حلقة “اللا بديل” التي تعصف بالشمال السوري، تبرز الحاجة إلى جهود متكاملة وشاملة على المستويين السياسي والإنساني تتجاوز الحلول المؤقتة والطارئة نحو استراتيجية تضمن استقرار المنطقة على المدى الطويل.
يستدعي ذلك تفعيل القرار الأممي “2254” ووضعه في سلم الأولويات في المحافل الدولية والهيئات العالمية بوصفه إطارًا إنسانيًا فوق سياسي، إلى جانب إعادة بناء البنية التحتية المتهالكة، وخلق فرص اقتصادية مستدامة تسهم في تحسين حياة السكان وتعزيز قدرتهم على الصمود، كما يتطلب الواقع توجيه دعم جاد إلى المشاريع التنموية والتعليمية، بما يسهم في توفير بيئة أكثر استقرارًا ويمهّد للأجيال آفاقًا أوسع نحو حياة كريمة ومستقبل أفضل.
إن الشمال السوري يواجه تحديات معقدة تتشابك فيها الأزمات الإنسانية مع التوترات الجيوسياسية، مما يضع ملايين السكان في مواجهة واقع قاسٍ يفتقر إلى مقومات الحياة الكريمة والأمان.
تستدعي هذه الأزمة تحركًا دوليًا عاجلًا وفعّالًا، إذ لم يعد من الممكن التغاضي عن معاناة شعب أرهقته الصراعات وتحكمت بمصيره سياسات التجاذب الإقليمي، ولتأمين استقرار طويل الأمد في سوريا والشمال السوري خاصة، تبرز الحاجة إلى التزام دولي يستند إلى تفعيل القرارات الأممية، ولا سيما القرار “2254”، الذي يشكل إطارًا أساسيًا لمعالجة الأزمة.
وينبغي أن يترافق ذلك مع تقديم الدعم لإعادة بناء البنية التحتية وخلق فرص اقتصادية وتنموية تعزز قدرة السكان على الاكتفاء الذاتي والصمود، مما يسهم في تخفيف حدة واقع “حياة بلا بدائل”.
إن دعم الشعب السوري لتجاوز الاعتماد على المساعدات الطارئة، وتمكينه من بناء مستقبل أكثر استقرارًا، أصبح ضروريًا لتحقيق حياة كريمة ومستدامة في منطقة يزداد تعقيدها بفعل الصراعات والأزمات المتصاعدة.