المثلث الحديدي لدولة الحرب

  • 2024/11/10
  • 12:28 م
لمى قنوت

لمى قنوت

لمى قنوت | رهام قنوت رفاعي

عانت الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن الماضي من مرحلة كساد اقتصادي سميت بـ”الكساد الكبير”، بدأت مع انهيار “وول ستريت” في تشرين الأول عام 1929، واستمرت لعقد من الزمان، وجد خلاله 25.6% من العمال الأمريكيين، نساء ورجالًا، أنفسهم عاطلين عن العمل.

تخللت مرحلة الكساد الكبير محاولات الرئيس الأمريكي روزفلت لسن سياسات وبرامج إصلاح اقتصادية تدعى “الصفقة الجديدة واحد واثنين”، إلا أن انخراط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) أسهم بشكل فعال وكبير في إنعاش اقتصادها من خلال توفير الطلب المستمر على التَسَلُح وزيادة عدد القوات المنخرطة في الحرب وفتح أسواق لصرف الفائض من الإنتاج المحلي، فارتفع الناتج الحقيقي أو القيمة الثابتة للسلع والخدمات بنسبة 65% بين عامي 1940 و1944، وقفز الإنتاج الصناعي بنسبة 90%.

ومع نهاية الحرب، وبسبب تدمير الاقتصادات الأوروبية واليابانية، ظهرت الولايات المتحدة كقوة هيمنة عالمية، وشكلت أكثر من 60% من إنتاج التصنيع العالمي.

قلقت نخب الولايات المتحدة السياسية والصناعية من العودة إلى اقتصاد ما قبل الحرب، حيث لن يكون الطلب المحلي كافيًا لاستيعاب الفائض من الإنتاج الاقتصادي الهائل والمتزايد، ما قد يؤدي إلى تجدد حالة الركود والكساد، فتوجهت جهود مخططي ما بعد الحرب لتحقيق استقرار النظام من خلال ثورة الترويج الإعلاني والتسويق المكثف لمبيعات الشركات، ومن خلال إنشاء دولة حرب دائمة، مكرسة للسيطرة الإمبريالية على الأسواق العالمية ولخوض الحرب الباردة، فأضحى بذلك المجمع الصناعي العسكري إحدى آليات امتصاص الإنتاج الفائض الرئيسة.

عرّف الاقتصادي سكوت نيرينغ (Scott Nearing) الدولة الحربية في عام 1964 على أنها “دولة تستخدم الحرب والتهديد بالحرب كأدوات حاسمة في سياستها الخارجية. في الدولة الحربية، يضع الجسم السياسي على رأس أجندة عمله التخطيط للحرب والاستعداد لها، وشن الحرب عندما تتاح الفرصة”.

قُدّر إنفاق الولايات المتحدة العسكري المعلن عنه في عام 2023 بـ916 مليار دولار، وهي ميزانية أكبر من الميزانية العسكرية للدول التسع التالية التي تليها في حجم الإنفاق العسكري مجتمعة.

بينما حاجج وبرهن عدة باحثين مستقلين، نساء ورجالًا، على أن الإنفاق العسكري في أمريكا قد وصل إلى 1.537 تريليون دولار في عام 2022، وهو أكثر من ضعف المستوى المعترف به، ويعادل ضعف ما ينفقه الكونجرس سنويًا على القطاعات غير العسكرية مجتمعة، وينسجم ذلك مع كونها دولة حروب دائمة، فالولايات المتحدة لم تكن منخرطة بشكل مباشر ومعلن في حروب إلا لمدة 17 عامًا من أصل 248 عامًا من عمرها إثر إعلانها عن قيام دولتها في عام 1776، وتأتي هذه الحسابات دون التعمق في عقود من إبادة السكان الأصليين وتدخلات الولايات المتحدة العسكرية غير المعلنة ودعمها العسكري لأنظمة دول أخرى وللاحتلال الاسرائيلي.

المجمع الصناعي العسكري

حذر الرئيس الأمريكي، دوايت أيزنهاور، في خطابه الوداعي في نيسان 1953، من “النفوذ غير المبرر” لما أسماه المجمع الصناعي العسكري، هذا الكيان الذي نشأ بفعل عملية تحالف عميقة وقوية بين مؤسسات عسكرية، كالبنتاجون والجيش والاستخبارات، ومع قطاع واسع من شركات تصنيع الأسلحة، وشكلت (المؤسسات والشركات) مع الكونجرس مثلثًا حديديًا يعمل بانسجام وتناغم تام. يخصص الكونجرس نسبًا عالية من أموال دافعي الضرائب لإعطائها للبنتاجون، ويقوم الأخير بناء على توجيهات الكونجرس بتحويلها إلى شركات تصنيع الأسلحة الكبرى الخمس بشكل أساسي وشركات عسكرية أخرى أصغر منها، وذلك عبر عقود مربحة.

تخصص تلك الشركات جزءًا من أرباحها للتبرع لحملات انتخابية لمرشحين ومرشحات لمقاعد في الكونجرس، لضمان ولاء أصوات معينة، كما تخصص جزءًا آخر للضغط على قرارات الكونجرس لمصلحة زيادة الإنفاق العسكري والحصول على المزيد من العقود، فتدعم جماعات الضغط في واشنطن، وهم في الغالب أعضاء حاليون أو سابقون في الكونجرس أو مسؤولون في البنتاجون يتم تعيينهم أو توظيفهم عبر سياسة الباب الدوار، ليستفيد المجمع من علاقاتهم وخبراتهم. كما تستثمر تلك الشركات في مراكز الأبحاث والبرامج الجامعية والمنشآت الأكاديمية المعنية بالتكنولوجيا العسكرية والراغبة في زيادة الإنفاق العسكري ودعم دورته الكاملة.

على المستوى المحلي في الولايات المتحدة، تعاظم نفوذ المجمع الصناعي العسكري وتوسع نشاطه ليشمل عسكرة الشرطة والقوى الأمنية وحتى بعض المؤسسات المدنية عن طريق عقود مع شركات أمنية خاصة، الأمر الذي يعزز من هيكلية المظالم السياسية والاجتماعية في النظام الأمريكي، كما يحرم إنفاق المجمع المواطنين الأمريكيين، رجالًا ونساء، من تخصيص أموال ضرائبهم لتحسين الأوضاع المعيشة للأسر المُفقَرة جراء نظام التمييز العنصري والاستعلاء الأبيض، وجعل فرص التعليم بمستوياته كافة في متناول الجميع، وتأمين السكن الصحي الآمن بأسعار معقولة وتوفير نظام الرعاية الصحي الشامل بشكل مجاني، وغيرها من برامج العدالة الاجتماعية والعيش الكريم، إضافة إلى مواجهة تغير المناخ والاستدامة البيئية.

على مستوى الجنوب العالمي، يتسبب المجمع الصناعي العسكري الأمريكي في القتل والتهجير وتدمير المؤسسات والبنى التحتية، وتمكين وتسليح وتعويم قوى أمر واقع وأنظمة استبدادية وشمولية وإفقار عدد من الدول وسرقة مقدراتها وتلويث البيئة والموارد الطبيعية وزيادة الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي