يحدث الآن في المقبرة العربية

  • 2024/11/10
  • 2:49 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

أذكر أنه خلال سنوات الطفولة شاهدت يافعَين بدآ شجارًا بينهما لأسباب مجهولة بالنسبة لي حينها، وبينما كان أصدقاء كل واحد منهما يحاول سحب صديقه في محاولة للحؤول بينهما، كان يدعو أحدهما الآخر لتصفية الحساب بينهما في المقبرة، وغالبًا ما كان هذا الشجار ينتهي بأن يصفع الأول الثاني بينما يرد الثاني بركلة على مؤخرة الأول.

طبعًا لم أفهم حينها لماذا انتقلا للشجار في المقبرة وليس في عين المكان الذي بدأ فيه، لكن يمكنني الآن أن أفهم ذلك وأدرك الهدف بعدما رأيت كيف تقوم كل من إسرائيل وإيران بتصفية حساباتهما في المقبرة العربية بنفس الطريقة.

هذا الفراغ المريع في المساحة العربية من الطبيعي جدًا أن يجعلها ربما أكبر مقبرة على سطح اليابسة، حيث يعيش البشر فيها حياة لا تشبه حياة البشر، كونها حياة ميتة خالية من أي طعم إلا مرارة العيش نفسه واجترار كل شيء. الوقت والكلام والثقافة والتاريخ والجنس والدين، المستقبل وحده الذي انتظر منا قرنًا كاملًا أن نطرق بابه، وبعد أن يئس من أن نفعل، فرّ منا ومن روائح عقولنا المتعفنة.

يحدث الآن في هذه المقبرة المتمادية المساحة أن نصف مليون سوري على الأقل قُتلوا بدم بارد، وربع مليون قُتلوا تحت التعذيب، ومئات المقابر الجماعية المعلومة والمجهولة المكان، بينما هُجّر نصف السوريين لأجل أن يبقى عميل وضيع حاكمًا وخادمًا لمشاريع الآخرين على أرضه.

ويحدث الآن أيضًا أن 44000 قتيل و108 آلاف جريح تقريبًا فقدوا حياتهم، أو فرصة العيش الطبيعي، في غزة، التي دُمرت فيها أيضًا البنى التحتية، مضافًا إليها 360 ألف وحدة سكنية ضمن صراع المشاريع الاحتلالية الفارسية والصهيونية.

ويحدث أيضًا وأيضًا أن آلافًا من القتلى والجرحى ودمارًا وتهجيرًا غير مسبوق يشهده لبنان لمجرد أن بعضًا ممن جعلوا أنفسهم أدوات في المشروع الفارسي لاستباحة المنطقة، قرروا خوض حرب عبثية إسنادًا لسياسات طهران ومفاوضاتها بشأن ملفها النووي، بينما يدفع اللبنانيون الغرم كله.

وكذلك حدث ويحدث أن العراق أعيد إلى العصر الحجري، وجُعل منه أكبر مسرح للدمى الفارسية في العالم تُعرض فيه شتى الطقوس الشيطانية، وأن اليمن أعيد إلى بدائيته الأولى التي بالكاد تمكن قبلًا من مغادرتها.

في المقبرة العربية، وبعد أن شُطر السودان إلى نصفين، يحدث أن قامت ثورة ضد الظلم والتجويع، فقفز العسكر ليسطوا عليها ثم ليقاتلوا ميليشيات أـسهموا هم أنفسهم بإنشائها، فكان المدنيون ضحايا هذه الحرب ووقودها.

ويحدث أن يبقى ذو إعاقة على كرسيه المدولب حاكمًا حتى يمضي الله قضاءه فيه، وآخر يقصي شقيقه ويجعله حبيس بيته، ليولي ولده خلفًا له، وفقيه دستوري ما إن وطئت قدماه قصر الحكم حتى وطئ الدستور بنعليه.

يحدث الآن أن تنهال العروض وتتهافت الحكومات على خطب ود قاتل مجرم مارس طقوس القتل العلني جهارًا نهارًا، فقط لكي يخرج من حلفه مع إيران، وأن يقبل استقبال بعض من شعبه ممن نجا من مذبحته المعلنة.

يحدث في المقبرة العربية الآن، وغدًا وبعد غد، أن جُعل عليها حكام يتقنون فن إيقاف الزمن وتعطيل الحياة على شعوبهم ضمن مساحات وظيفتهم السلطوية غير عابئين بالقفزات الهائلة للبشرية التي تحصل خارج نطاق سلطانهم.

475 مليون شخص تعداد من يسكنون المساحة المسماة أراضٍ عربية، ما قيمتهم المضافة للبشرية وما الإسهامات التي يقدمونها لأنفسهم ولغيرهم، التي يمكن القول إنها تثري حياة الإنسان على أي مستوى من المستويات المعرفية أو الثقافية أو الاقتصادية أو العلمية أو حتى الفنية؟

متى يمكن أن نشعر قليلًا بالخزي؟ إذ ربما هذا الشعور يغذي فينا حميّة ما ويدفعنا لفعل شيء ما لأنفسنا فحسب، فاستمرارنا على هذا النهج سيودي بنا إلى الانقراض لا أكثر.

هل من قاع أعمق وأقذر يمكن أن نسقط فيه بعد؟ أزعم أن ثمة ما هو أعمق، ونحن نعمل بدأب وجدّ على الوصول إليه.

مقالات متعلقة

  1. المخطط التنظيمي لعربين يبدأ على حساب مقبرتها
  2. المقابر الجماعية في الرقة باتت مرئية عبر "جوجل إيرث" (فيديو)
  3. في أربعة أشهر.. انتشال 670 جثة من مقبرة الفخيخة في الرقة
  4. "مقبرة الحيوانات".. خيارات الموت والحياة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي