عنب بلدي – هاني كرزي
حجزت محال الذهب السورية مكانًا بين صاغة اسطنبول، حيث استطاعت أن تكون منافسًا في السوق التركية، لكن تلك المهنة واجهت بعض التحديات التي أثرت على أصحابها، في ظل التضخم الاقتصادي الذي تعاني منه تركيا.
اشتهر السوريون على مدى عقود طويلة باحترافهم عدة صناعات قديمة منها حرفة الذهب، إذ لطالما عجت سوق الصاغة القديمة وأسواق الذهب السورية بتجار الخليج العربي وغيرهم من الذين يقصدونها دون غيرها، نظرًا إلى الذوق الذي يمتلكه الصاغة السوريون.
عقب بداية الحرب نقل كثير من الصاغة أعمالهم خارج سوريا كحال كثير من المهن، نتيجة غياب الأمن وانتشار الفوضى وانهيار الليرة السورية، وقرر بعضهم أن يؤسس عملًا جديدًا في تركيا.
اسطنبول كانت أبرز وجهة للصاغة السوريين، لأنها عصب الاقتصاد في تركيا، وهناك افتتح بعضهم ورشات خاصة لتصنيع الذهب وبيعها للمحال، بينما اكتفى آخرون بشراء الذهب من تلك الورشات وبيعها للزبائن، محققين الربح من رسوم الصياغة وارتفاع سعر الذهب.
إقبال من الأتراك
يختلف الذهب الذي يبيعه السوريون في تركيا عن الذهب التركي، إذ يبيع الصائغ السوري الذهب عيار 18 و21 قيراطًا، بينما يوجد لدى الصاغة الأتراك ذهب من عيار 14 و22 قيراط.ًا
ويختلف النوعان من حيث اللون، فالذهب السوري مائل للحمرة قليلًا، أما التركي فهو فاتح اللون.
أحمد الشامي، صاحب محل لبيع الذهب في منطقة يني بوسنا باسطنبول، قال إن هناك إقبالًا لدى بعض الأتراك على شراء الذهب من المحال السورية، ويعود ذلك بحسب رأيه إلى سببين.
الأول أن رسوم صياغة الذهب (أجرة تصنيع القطعة) لدى المحال السورية أقل من التركية، فالأخيرة تتقاضى رسوم صياغة تتراوح بين 1000 و1500 ليرة تركية على كل غرام ذهب، بينما يتقاضى الصائغ السوري 300 ليرة رسوم صياغة عن كل غرام، إضافة إلى أن أغلب الصاغة السوريين يقدمون حسمًا بسيطًا للزبون بعد حساب التكلفة الكلية للقطعة الذهبية.
وبحساب بسيط، نجد أنه لو أراد الشخص شراء قطعة ذهب تزن 15 غرامًا، فإنه سيدفع رسوم صياغة وسطيًا حوالي 20 ألف ليرة للصائغ التركي، بينما تبلغ رسوم الصياغة لذات القطعة لدى المحل السوري حوالي 4500 ليرة (الدولار يقابل 34.3 ليرة تركية).
تختلف رسوم الصياغة من محل لآخر، حتى بين السوريين، ويتوقف ذلك على نوع القطعة الذهبية ووزنها، ومدى ندرة الموديل والوقت الذي يتطلبه لإنجازه، إضافة إلى موقع المحل ومساحته، فكلما كان إيجار المحل أعلى ومساحته أكبر، تزداد التكاليف على الصائغ، وبالتالي يضطر لرفع سعر الصياغة.
السبب الثاني لإقبال الأتراك على محال الصاغة السورية، بحسب ما ذكره الشامي لعنب بلدي، يعود إلى أن المحال التركية تبيع فقط ذهبًا من عيار 14 و22، فلو أراد الزبون شراء قطعة ذهبية عيار 22، فإن سعر الغرام أغلى بنسبة 5% من الذهب السوري (عيار 21).
أما لو أراد شراء ذهب عيار 14 قيراطًا من المحل التركي، فإن القطع الذهبية من هذا العيار، تضاف إليها أحجار زينة كثيرة تُحسب مع وزن الذهب، وبالتالي سيتعرض الزبون لخسارة حين يقرر بيعها، لأن تلك الأحجار تُزال من قبل الصائغ قبل وزن القطعة.
وأشار الشامي إلى أن الزبون السوري في تركيا يفضّل دومًا شراء الذهب السوري، لأنه يراعي اعتبارات، أهمها أنه من الممكن أن يعود إلى بلده في يوم من الأيام وهناك يستطيع أن يبيعه أو يستبدله، بينما قد لا يجد في سوريا من يشتري منه الذهب التركي (عيار 22).
سعر الذهب عيار 21 في تركيا يبلغ 2655 ليرة تركية، وعيار 18 بـ2257 ليرة، في حين يبلغ سعر غرام الذهب التركي عيار 22 حوالي 2780 ليرة.
ورشات ذهب سورية
يوجد وسط اسطنبول مجمع في منطقة يني بوسنا، يضم مئات المحال وورشات الذهب، ويعتبر هذا السوق من أبرز الأماكن التجارية للمجوهرات، حيث يعرض ويباع الذهب بأشكال وأحجام مختلفة، وبجودة عالية وأسعار معقولة مقارنة بمحال الذهب الأخرى في اسطنبول.
الصائغ أحمد الشامي، الذي يمتلك محلًا في مجمع يني بوسنا، قال لعنب بلدي، إن صناعة الذهب السوري في تركيا شهدت تطورًا خلال السنوات الماضية، فقبل ست سنوات كان يوجد حوالي سبع ورشات سورية لتصنيع الذهب في مجمع يني بوسنا، أما اليوم فيوجد ضمن المجمع حوالي 50 ورشة سورية.
وبرر الشامي زيادة عدد الورشات السورية بزيادة الطلب على الذهب السوري من قبل السوريين والأتراك من جهة، إضافة إلى تطور آلية تصنيع الذهب، بعد إدخال ماكينات حديثة (البروجيكت)، بينما كانت صناعة تصاميم الذهب في السابق تعتمد على تشكيل القطعة عن طريق الشمع بشكل يدوي، حتى يتم في النهاية تشكيل القالب وصناعة الموديل.
أما تصميم موديلات الذهب فصار يجري اليوم عن طريق برنامج “Matrix”، الذي يساعد على إنشاء نماذج مجوهرات باستخدام رسومات ثلاثية الأبعاد، وبعد اختيار التصميم المناسب، يطبعه الصائغ عبر ماكينة الشمع (البروجيكت)، ثم يستخرج الموديل.
ولفت الشامي إلى أن تصنيع الموديل أصبح يحتاج إلى يوم تقريبًا، بينما في السابق كان يستغرق تصنيعه بشكل يدوي حوالي أسبوع، إضافة إلى أنه كان يتطلب خبرة طويلة.
تحديات ترهق الصاغة
يواجه الصاغة السوريون في اسطنبول عدة تحديات، حالهم كحال بقية الصاغة في تركيا، فالتضخم الاقتصادي وتذبذب قيمة الليرة التركية، وما نتج عنها من ارتفاع في قيمة الضرائب وغلاء إيجارات المحال والورشات انعكس بشكل سلبي عليهم.
وبلغ معدل التضخم السنوي في تركيا 49.38% في أيلول الماضي، بعدما وصل إلى 52% في آب 2024، في حين سجل سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار 34.33 وفق موقع “Doviz“.
صبحي باكير، صاحب محل مجوهرات سوري في منطقة العمرانية باسطنبول، قال إن التحدي الأكبر الذي يعانيه الصاغة، هو غلاء سعر الذهب في تركيا مقارنة مع بقية الدول، نتيجة التضخم الاقتصادي الذي شهدته تركيا.
وأضاف باكير لعنب بلدي، أنه قبل خمس سنوات كان الصائغ يدفع زيادة حوالي 300 دولار عن كل كيلوغرام مقارنة بسعر الذهب في الدول الأخرى، أما الآن فصار الصائغ يدفع زيادة حوالي 3700 إلى 4000 دولار عن كل كيلو ذهب، مشيرًا إلى أن ذلك يرهق الصاغة، خاصة الجدد.
من خلال جولة لعنب بلدي على عدد من المحال السورية في اسطنبول، تبين أن العديد منها لديها كميات قليلة من الذهب المعروض ضمن المحل.
عند الاستفسار عن السبب، قال صبحي باكير، إن ذلك يعود إلى الضرائب، فكلما كانت كمية الذهب المعروضة أكبر تزداد الضرائب، “لذا نضطر لشراء كميات قليلة من الذهب للتخفيف من حجم الضرائب التي أرهقتنا”، مشيرًا إلى أن انخفاض كميات الذهب المعروضة ضمن المحل يسهم في تخفيض المبيعات لدى الصائغ، لأن الزبون حينها لا تكون لديه خيارات كثيرة من الموديلات.
وأضاف باكير أن الدولة التركية أحيانًا تتساهل مع موضوع الضرائب لاستقطاب رؤوس الأموال، لكن قبل شهرين كانت هناك حملة واسعة على المحال لمراقبة البيع والشراء وعمليات التهرب الضريبي، وهذا الأمر يتسبب في انشغال الصائغ عن عمله لتنظيم حساباته وأوراقه لتقديمها لمديرية المالية التركية، إضافة إلى تكاليف الضرائب التي يدفعها، عدا عن المخالفات التي يتعرض لها الصائغ.
تشهد أسعار الذهب حالة تخبط بين ارتفاع وانخفاض، ما يؤثر على عمليات البيع والشراء، ويرى الصائغ أحمد الشامي أن غلاء أسعار الذهب يزيد حركة البيع، بينما انخفاض سعره بشكل مفاجئ يتسبب بركود الأسواق.
وبرر الشامي هذا الموضوع بأنه مرتبط بالحالة النفسية للزبون، فعندما ينخفض السعر فجأة، يعزف الناس عن الشراء لأنهم ينتظرون حتى ينخفض أكثر، وحين يرتفع سعر الذهب يسارع الزبائن للشراء خوفًا من أن يرتفع سعر الذهب بشكل أكبر، مضيفًا، “الأفضل بالنسبة لنا هو ثبات سعر الذهب”.
كذلك تعتبر عمليات السرقة والاحتيال من الهواجس الأمنية التي تقلق الصاغة، حيث شهدت اسطنبول عدة حالات سرقة طالت بعض الصاغة السوريين، منها حالات انتهت بمقتل الصائغ.
في أيلول الماضي، قتل الصائغ السوري محمد موشمة على يد لصوص مسلحين في منطقة سلطان غازي بولاية اسطنبول، بعد أن حاول منعهم من سرقة حقيبة بداخلها كيلوغرام من الذهب في أثناء توجهه إلى المنزل.
حضور سوري في معرض اسطنبول
تشهد اسطنبول كل عام إقامة معرض للمجوهرات، يشارك فيه صاغة ذهب من مختلف دول العالم، ففي الفترة بين 2 و5 من تشرين الأول الماضي، أقيم على أرض مدينة المعارض في اسطنبول المعرض الـ56 للمجوهرات.
وقالت وكالة “الأناضول” التركية، إن حوالي ألف علامة تجارية وشركة من 14 دولة مختلفة، بما في ذلك تركيا، شاركت في معرض اسطنبول للمجوهرات، وهو أحد أكبر خمسة معارض للمجوهرات في العالم.
حضر 20 ألفًا و831 مشتريًا من 134 دولة إلى معرض المجوهرات في اسطنبول، الذي قدمت فيه مجموعة واسعة من المنتجات للزوار، من المجوهرات الذهبية والألماس والزمرد والفضة واللؤلؤ.
وذكرت “الأناضول” أن نسبة المشترين الأجانب بلغت 34% ضمن المعرض، الذي ضم إلى جانب المجوهرات، أجنحة خاصة لعرض أحدث آلات ومعدات وتقنيات تصنيع المجوهرات، إلى جانب القوالب والصناديق ومعدات الأمان والبرمجيات و”إكسسوارات” العرض ومنتجات التعبئة والتغليف.
عنب بلدي قامت بجولة ضمن المعرض، حيث كان لافتًا مشاركة العديد من محال الذهب السورية.
أحمد صابوني، صاحب محل مجوهرات في منطقة سلطان بيلي باسطنبول، شارك في معرض المجوهرات، قائلًا إن المشاركة كانت مهمة جدًا لتعريف مختلف الزبائن خاصة الأتراك بالمنتجات السورية، بغية تشجيعهم على شراء الذهب السوري الذي أصبح منافسًا للذهب التركي.
وأضاف صابوني (55 سنة) لعنب بلدي، أن مشاركته في المعرض كان غرضها تسويقيًا من جهة، إضافة إلى رغبته في الاطلاع والتعرف إلى أحدث تقنيات تصنيع الذهب من جهة أخرى، حيث شاركت في المعرض شركات أجنبية عرضت آلات وتقنيات متطورة يمكن الاستفادة منها في تسهيل عملية تصنيع الذهب، بغية اختصار الزمن والجهد.