أحمد عسيلي
منذ حوالي السنتين تقريبًا، نشرت عدد من الصحف والمواقع الإلكترونية السورية، المعارضة والمؤيدة، تصريحًا للدكتور أيمن دعبول، مدير عام مستشفى “ابن سينا” للأمراض النفسية، ذكر فيه أنه في مناطق سيطرة النظام هناك 45 طبيبًا نفسيًا فقط، وأن البلاد بحاجة لـ10 آلاف طبيب نفسي كي يصبح باستطاعتهم علاج الأمراض المنتشرة بين السوريين، وقد أرجع الدكتور دعبول انخفاض عدد الأطباء النفسيين للوصمة التي تلحق المريض النفسي بشكل أساسي، أي لأسباب اجتماعية تخص عقلية المجتمع السوري.
بطبيعة الحال، هذه لم تكن المرة الأولى، ولا الأخيرة، التي يشتكي فيها بعض العاملين في مجال الصحة النفسية من نقص الرعاية الطبية النفسية في سوريا، ربما أحدثها كان تصريح في الشهر الماضي للدكتور مازن خليل، رئيس رابطة الأطباء النفسيين في مناطق سيطرة النظام السوري، أدلى به لصحيفة “البعث”، وذكر أن عدد الأطباء النفسيين في تلك المنطقة 75 طبيبًا (لا أعرف صراحة كيف ازدادوا 30 طبيبًا في سنتين)، وتحدث أيضًا عن الإهمال في هذا القطاع، مرجعًا السبب لهجرة الأطباء خارج البلاد.
لن ندخل في معمعة الأرقام وصحتها، فالدكتور أيمن دعبول ذكر أن عدد الأطباء النفسيين قبل 2011 كان 60 طبيبًا فقط، أي قبل موجة اللجوء السوري، فكيف تكون هجرتهم هي التي أوصلت العدد إلى 75؟ نحن هنا أمام رقمين متناقضين من مسؤولين مختلفين، وهنا لا نتحدث عن أرقام وإحصائيات معقدة، بل عن عدد لا يتجاوز العشرات، ولن أكون مبالغًا إذا قلت إننا (كأطباء نفسيين) جميعًا نعرف بعضنا وبالاسم تقريبًا، ونستطيع العد بكل سهولة.
على كل، لنترك هذا الأمر جانبًا، ولنتفق أن هناك فعلًا خللًا بميدان الطب النفسي في سوريا، لكنه ليس عائدًا لوصمة المرض النفسي كما أشار الدكتور دعبول منذ سنتين، ولا لهجرة الأطباء السوريين كما أشار الدكتور خليل منذ شهر، بل هناك أسباب أعمق وأكثر جذرية من هذين السببين، يعلمها كل ممارس للطب النفسي في بلادنا الحبيبة، ولأني لم أجد في الصحف والمواقع الإلكترونية السورية إلا توضيحات مبهمة وغير مباشرة، لا تكفي أبدًا لمعرفة الواقع الحقيقي للممارسة النفسية، رأيت أن أوضح هذه النقاط بشكل أكثر شفافية وصراحة مع القارئ، كي نعرف تمامًا الواقع الطبي الذي عاشه ويعيشه الناس في الداخل السوري.
أولًا: المستشفيات النفسية في سوريا
في سوريا ثلاثة مستشفيات عامة فقط، مخصصة للأمراض النفسية، هي “ابن سينا” في ريف دمشق، ويصل استيعابها لحوالي 500 مريض، و”ابن خلدون” في حلب، وتستوعب حوالي 400 مريض، بالإضافة إلى مستشفى “ابن رشد” قرب كراج العباسيين، الذي كان يسمى “المرصد الوطني لرعاية الشباب”، وهو مركز لعلاج الإدمان أساسًا، يحتوي 25 سريرًا 17) للرجال و8 للنساء(، هذا بالإضافة إلى قسم الطب النفسي في جامعة “دمشق” (في مستشفى المواساة)، وهو عبارة عن 8 أسرة 4) رجال و4 نساء).
في ريف دمشق أيضًا، كان هناك مركزان للصحة النفسية تابعان للقطاع الخاص، هما مستشفى “البشر” في حرستا ومستشفى “الطب النفسي الحديث” في المليحة، لكنها تبقى مراكز خاصة ذات أجور عالية، ليست في متناول إلا القلة من السوريين.
ثانيًا: الحاجة الحقيقية للمستشفيات النفسية
ذكر الدكتور أيمن دعبول أن سوريا بحاجة لحوالي 10 آلاف طبيب نفسي، وهو رقم مقارب فعلًا لحاجتها الحقيقية، ولكي نأخذ فكرة بسيطة عن تلك الحاجة، سأضرب مثلًا بالفصام، الذي يصيب حوالي 1% من الناس لدى معظم الشعوب تقريبًا (حسب معظم الدراسات يتراوح الرقم بين 0.8 و1.02)، ولما كان عدد السوريين في 2011 حوالي 24 مليون نسمة، نستطيع أن نقول إن هناك حوالي 240 ألف مصاب بالفصام، سيحتاجون في مرحلة ما لعلاج نفسي كي تستقر حالتهم. نسبة اضطرابات ثنائي القطب أيضًا مشابهة للفصام تقريبًا، وسيحتاج المريض فيه بمرحلة ما لتدخل طبي نفسي بأحد الأشكال، وهنا نتحدث عن حالات عقلية طبية تستلزم معظم الأحيان تدخلًا دوائيًا أو طبيًا نفسيًا متخصصًا، دون أن نذكر الكثير من الاضطرابات الأخرى، التي ربما تكون تداعيات عدم المداخلة المختصة فيها أقل خطرًا من هذين المرضين (أعرف أن بعض الزملاء يمكن أن يختلفوا معي حول خطورة عدم التدخل في بقية الأمراض، لكن هذا ليس موضوعنا هنا).
ولنفترض هنا أنه لدينا حاجتنا من الأطباء النفسيين، السؤال: أين سيعمل هؤلاء الأطباء؟
هنا يبرز الخلل الكبير في هذا القطاع، بل نستطيع القول بكل صراحة، إنه لم يكن يوجد لدينا أي بنية تحتية للطب النفسي، بكل ما لهذا الخلل من تداعيات، سواء على الصحة النفسية، أو على السلامة الاجتماعية للناس، فكثير من الجرائم أساسها نفسي، وكان بالإمكان تفاديها لو أن هناك مراكز كافية للعلاج، بل إن عدد الأطباء في “ابن سينا” قد وصل في مرحلة ما إلى 15 طبيبًا مقابل 600 مريض، وهو عدد قليل لكن لا بأس به بالنسبة لبلد في العالم الثالث.
المشكلة لم تكن بعدد الأطباء، وإضافة عدد من الأطباء لن يغير شيئًا من الواقع، لأن البنية التحتية الأساسية اللازمة للعلاج لم تكن متوفرة، لا سابقًا ولا حاليًا، بل المشكلة في المستشفيات التي يمكن أن يعمل فيها هذا العدد، والتي لم يحاول النظام أبدًا توفيرها طيلة فترة حكمه.
في بناء المستشفى الواحد، فإن معظم المرضى لم تكن لديهم غرفهم الخاصة، ولا حتى غرفة لكل 4 أو 5 مرضى، وهو أقل ما يلزم من مساحة خاصة كي نستطيع القيام بمتابعة نفسية حقيقية، ولإعطاء أدوية تستلزم مراقة طبية (كبعض حقن الفصام)، بل كان القسم عبارة عن هنغار يحوي حوالي 40 إلى 50 مريضًا ينامون معًا، بكل ما لهذا من خطورة، لأننا هنا نتحدث عن مرضى نفسيين غير مستقرين يلزمهم استشفاء. هذا ما كان يحصل في أوروبا في العصور الوسطى حتى بدايات القرن الـ20 قبل التطور الهائل الذي شهده ميدان الطب النفسي.
السؤال الثاني والأهم بفرضية وجود 10 آلاف طبيب نفسي: كيف سيعملون؟
لكي أشرح هذه النقطة، سأضرب مثلًا واحدًا فقط هو آلية التعامل مع الهجمة الذهانية الحادة، حين يفقد الإنسان بشكل مفاجئ السيطرة على سلوكه وكلامه ومشاعره، فيصبح عنيفًا، يمكن أن يحطم ويكسر بل ويقتل أحيانًا، وهو اضطراب ربما يكون لأسباب نفسية، وربما نتيجة تناول مخدرات، أو أحيانًا جرعة زائدة من بعض الأدوية، سواء عن قصد أو غير قصد، أو ربما أحيانًا تكون عرضًا لورم في الدماغ أو لنقائل ورمية… بكل الأحوال وفي كل دول العالم فإن أول إجراء طبي ملائم، هو فحص البول وإجراء مسح شامل لكل ما تناوله المريض من مواد، وعندها فقط يمكن أن ننفي السبب الأشيع لهذا الاضطراب، وهذا الاختبار غير متوفر في الكثير من المستشفيات، فما الذي يمكن أن يفعله الطبيب النفسي أو حتى طبيب الإسعاف هنا كي يتمكن من تشخيص سبب الاضطراب وبالتالي علاجه؟
حالة الطبيب المعالج في هذه الحالة، ستكون أشبه بحالة من يمشي في ظلام دامس، فكيف يمكننا أن نفهم الأعراض ونعطي تشخيصًا إذا لم تتوفر لدينا أدوات الفحص اللازمة لذلك؟
كنا ندرس ونقرأ ونتابع في المراجع الأجنبية والعربية، لكن الواقع كان شيئًا مختلفًا تمامًا، وهنا لا أستطيع لوم أي زميل مهنة، لأني عملت لسنوات في البلد، وأعرف مدى محدودية الإمكانيات التي كانت تتوفر لدينا لإعطاء تشخيص مناسب والبدء بالعلاج اللازم، ورغم المعرفة والتحصيل الجيد، للأسف لسنا قادرين على تطبيق معارفنا.
هنا نأتي إلى النقطة التي نتعثر بها في أثناء نقاشنا لأي وضع في البلد، لا يمكن أن يكون هناك علاج نفسي حقيقي في ظل نظام سياسي كهذا، حتى لو حاول هؤلاء الـ75 طبيبًا القيام بعمل الـ10 آلاف طبيب، وهذا ما يحدث تقريبًا في مركز “ابن رشد” الذي يعمل فيه حاليًا طبيبان نفسيان فقط، مسؤولان وحدهما عن علاج جميع مرضى الإدمان في سوريا، لأنه لا مستشفيات تستوعب هذا العمل، ولا أدوات طبية للقيام بعمل طب نفسي حقيقي.
كنا نتكلم سابقًا عن عدم إمكانية فصل الرياضة أو الفنون عن السياسة. يبدو أنه لا يمكن أيضًا فصل الطب والعلاج النفسي عن السياسة، بل ربما خاصة الطب والعلاج النفسي.