لا قاع للتدهور في سوريا
لمى قنوت – رهام قنوت رفاعي
وفرت الحرب والاحتلالات وسلطات الأمر الواقع في سوريا، المدعومة من دول إقليمية ودولية، مناخًا خصبًا لانعدام الأمن وفقدان الاستقرار اللذين شكّلا مع القمع والانهيار الحاد لقيمة العملة السورية وارتفاع أسعار السلع والعقوبات الاقتصادية الأحادية والتغيرات المناخية والمخاطر البيئية منظومة كوارث متصلة تزداد وطأتها عامًا بعد عام. وأضحت عبرها النساء والفتيات بتنوعاتهن واقعات تحت نماذج استبدادية أبوية واستغلالية متعددة يكافحن في سبيل نجاتهن وعوائلهن.
في ظل تردي الأحوال المعيشية والأوضاع الإنسانية في سوريا، وصل عدد المحتاجين لمساعدات إنسانية إلى 15.3 مليون شخص، منهم 4.5 مليون امرأة، و3.2 مليون من الفتيات اللواتي لم تتجاوز أعمارهن 17 عامًا، ويفتقر 12.1 مليون شخص إلى الأمن الغذائي، منهم 40% من النساء الحوامل والمرضعات اللواتي يحصلن على أنظمة غذائية غير متوازنة، كما يعاني من التقزم طفل بين كل أربعة أطفال دون سن الخامسة في الشمال الشرقي والغربي من سوريا.
تتحمل النساء مسؤولية الأمن الغذائي لأسرهن وفق تقسيمات العمل المجندرة، رغم أنه عمل غير مثمن وغالبًا غير مرئي أيضًا، فجمع الحطب وجلب الماء وتأمين المؤن وحفظها وتحضير وطهو الطعام ونظافة مكان العيش تعتبر جزءًا من الأعمال الرعائية التي تقع مسؤوليتها على النساء والفتيات في جميع الأوقات، وتضعهن في دائرة لوم الذات حالة العوز والإفقار والحصار، وغالبًا ما يوفرن حصصهن الغذائية المتاحة لأطفالهن وطفلاتهن، الأمر الذي يجعلهن إلى جانب الحمل المتكرر والإرضاع أكثر عرضة لنقص الغذاء وانعدام الأمن الغذائي من الرجال، وهي ظاهرة عالمية في ظل النظام الأبوي حيث وصلت فجوة انعدام الأمن الغذائي للنساء في عام 2021 إلى 31.9% مقارنة بنسبة 27.6% للرجال.
يبرز تغيّر المناخ بشكل حاد في الجنوب العالمي رغم أنه يُنتج 8% فقط من الانبعاثات الزائدة مقارنة بالشمال العالمي، وتعد منطقة جنوب غرب آسيا وشمال إفريقيا من المناطق المتضررة بشكل حاد، ويمكن تتبع ظهور آثار تغير المناخ في بلاد شرق البحر المتوسط ومنها سوريا إلى عام 1998 على الأقل. يتجلى ارتفاع درجة حرارة الأرض في موجات جفاف وعواصف وفيضانات وتقلبات طقس حادة غير موسمية تؤثر على مناسيب المياه السطحية والجوفية والتنوع البيئي في النباتات الأصيلة وما تبقى من الحياة البرية، وزراعيًا، تؤثر على صحة التربة وقدرة المحاصيل على النجاة ومقاومة الآفات، ما ينعكس بشكل حاد ومباشر على الأمن المائي والغذائي للسكان.
يُفاقم تغيّر المناخ بنى اللامساواة واللاعدالة بجميع تقاطعاتها بناء على الجندر والمواطنة والطبقة والعمر والقدرة الجسدية واللون والرأي السياسي والمنطقة وغيرها، فعلى سبيل المثال، عند حدوث عواصف رملية تتأثر بشكل غير متناسب المجتمعات المُفَقرة ذات الدخل المحدود أو تلك النازحة واللاجئة التي تأوي في مساكن مُستَأجرة لم تخضع لإعادة ترميم أو تجديد، بالمقارنة مع تلك الأسر المالكة لبيوتها والتي لديها دخل كافٍ لتتكيف مع آثار تغيّر المناخ وتقوم بالتعزيزات والعزل اللازم لنوافذ وأبواب منازلها، ويزداد المشهد تعقيدًا عندما تتداخل علاقة القوة على أساس جندري طبقي سياسي عندما تكون المُستأجِرة امرأة نازحة أو لاجئة تتفاوض مع مالك السكن الرجل على ترميم المنزل أو جعله أنسب للعيش الكريم.
تتعاظم الفجوات الطبقية بالنسبة للقدرة على الوصول إلى الخدمات الصحية بفعل الظروف الأمنية وقُرب وجاهزية المراكز والقدرة المادية للأفراد والأسر، ما يزيد من معاناة سكان الريف والأماكن النائية والنازحين واللاجئين، نساء ورجالًا وأطفالًا، وعليه تتضاعف الأعمال الرعائية على النساء والفتيات كالعناية بالأطفال وكبار السن والمرضى وذوي وذوات الإعاقات الجسدية والاجتماعية النفسية، وهي أعمال مجهدة طويلة الأمد غالبًا ما تعوق قدرتهن على التنقل والنزوح الطارئ والوصول إلى خدمات الصحة الجنسية والإنجابية، إن وجدت.
لم يعد النزوح مرتبطًا بالقصف وتصاعد العمليات العسكرية والتغيّر المناخي والعنف الجنسي أو التهديد به أو المخاوف من حصوله فقط، بل في البحث عن وصول أفضل للخدمات الأساسية. ويُفاضل السوريون، نساء ورجالًا، بين السيئ والأسوأ، أو بين أنماط من “التهديدات المميتة” التي تواجههم أينما ذهبوا، كما قال رئيس لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، باولو بينيرو، خلال كلمته، في 1 من تشرين الثاني الحالي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، فبعض اللاجئين واللاجئات في لبنان، الذين رفضت استقبالهم مراكز الإيواء اللبنانية بناء على جنسيتهم، عادوا إلى سوريا هربًا من كثافة القصف الإسرائيلي، رغم الخشية من الاعتقال التعسفي والابتزاز والتضييق الأمني عند نقاط التفتيش التي تتحكم بها قوى الأمر الواقع في جميع المناطق، بالإضافة إلى خشية الرجال من التجنيد القسري والتقارير الكيدية الملفقة. وعانى السوريون العائدون إلى بلدهم من التجاهل وعدم وجود أي تسهيلات لهم كالتي أوصى بها بشار الأسد حكومته الجديدة بدعم النازحين اللبنانيين خلال أول اجتماع له معها، بينما أطلق على اللاجئين السوريين العائدين صفة “المقيمين في لبنان”.
في كوارث كالتي يعيشها غالبية السوريين والسوريات داخل سوريا، وفي مناخ أبوي استبدادي مُعَسكَر، يتكثف العنف المبني على النوع الاجتماعي، وترزح الأرامل والمطلقات والنساء اللواتي يُعِلن أسرهن تحت ضغوط أسرية ومجتمعية لا تقيّم كفاحَهن من أجل النجاة بأنفسهن وعوائلهن ليعشن حياة حرة كريمة، ولا تَرَاهُن نساء فاعلات بل فرصًا للاستغلال والتحكم. وتزداد أنماط التكيف السلبي للأسر وأفرادها، من عمالة الأطفال والطفلات، والتسرب المدرسي للمشاركة في إعالة الأسرة، وانخراط الشبان مع الميليشيات المسلحة أو التحاق البعض كمرتزقة في صراعات دول أخرى، ويتم التعامل مع الفتيات كعبء على الأسرة، عبر البلوغ القسري وتزويجهن قسرًا أو ترغيبهن بأن الزواج أقصر الطرق للنجاة والخلاص.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :