خطيب بدلة
ثمة مصطلحات، يستخدمها الناس في لغتهم اليومية، مثل “التزبيط” و”التسكيج”، وتعني أن تأتي بآلة عتيقة، معطلة، تجري لها نوعًا من الصيانة، لتجعلها صالحة للاستعمال.
هذا الأمر، ويا للغرابة، يحصل في مجال الأفكار، فترى رجلًا من أصحاب الأيديولوجيات، والأجندات، والمصالح السياسية، يأتي بفكرة قديمة، “يزبطها، ويسكجها”، وينزلها إلى التداول. ويا ليته يكتفي بهذا، فهو يريدنا أن نتبنى تلك الأفكار “المسكجة”، ونروج لها. فإذا قلنا له إنها لا تناسبنا، يسارع إلى إلباسها ثوب القداسة، ويبادر إلى تهديد مَن لا يتبناها بالقتل!
أمتنا، إذا جاز لنا أن نسميها أمة، هي الوحيدة في العالم التي تتحدث عن القتل، كما لو أنه حديث للتسلية، أو “طق الحنك”. إذا دخلت إلى أحد “لايفات تيك توك”، ستجد جدالات صاخبة حول تطبيق الحدود الشرعية، تتردد في سياقها فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية التي ينتهي معظمها بعبارة “يُستتاب ثلاثة أيام ثم يُقتل”. ووقتها ستشعر كما لو أنك جالس في مسلخ.
جماعة “التزبيط والتسكيج” يلوون أعناق الكلمات والعبارات، بما يتناسب مع تفكيرهم، وأسلوب حياتهم، فإذا التقيت أحدهم وبادرته بـ”مرحبا”، يرد عليك قائلًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! ولأنه ينطوي، في داخله، على مطوّع، يبادر إلى نصحك، أو أمرك، بأن تقول السلام عليكم، فهو أحسن، وأثوب. أنت لا تعرف هذا الرجل بالطبع، ولكنك لا تستبعد أن يكون لاجئًا في فرنسا، يقف، في المدينة الفرنسية التي يقطنها، ساعتين أمام مدخل البناية، ريثما تخرج جارته الفرنسية الحسناء، ليبادرها قائلًا، مع ترقيق شفتيه: بونجور مدموازيل! وإذا رن موبايله، في نفس اللحظة، يفتح الخط ويقول: السلام عليكم.
إذا قلت له، مثلًا: نحن السوريين، ومع أننا في القرن الـ21، ما زلنا نعيش في ظل أفكار وتشريعات جاءتنا من شبه الجزيرة العربية، قبل 14 قرنًا، يغضب، ويستنفر، ويقول لك: أيوه، يعني أنت تهاجم الدين؟ هذا النوع من الهروب إلى الأمام، والاحتماء ببطش المتدينين، يشبه حكاية ذلك الصيدلي الذي اعتاد أن يبيع للزبائن العابرين أدوية منتهية الصلاحية، فإذا انتبه أحدهم لذلك، وأعادها له، يصرخ في وجهه: عم تسب حافظ الأسد ولاك؟ فيدب الرعب في قلب الرجل، ويهرب متلفتًا وراءه، خشية أن تلحق به دورية أمنية تأخذه إلى أقرب قبو.
ليس من عادتي أن أهاجم الدين، وما عدت أخاف من أولئك الأشخاص الذين يهددون ويتوعدون من يخالفهم الرأي، وما قصدته بكلامي السابق أن يبقى الدين للمؤمنين، يتخلقون بأخلاقه، ويمارسون طقوسه وعباداته، أما أن تطالبنا بجعله نظامًا للحكم، في سوريا، مثلًا، فأنت تضعنا في دوامة ستنتهي بحرب أهلية، لأن سوريا متعددة المكونات الدينية، والمذهبية، ولنفرض، جدلًا، أن جميع السوريين وافقوا على أن يكون الحكم دينيًا، إسلاميًا، فوقتها سيظهر ذلك السؤال الخطير، المرعب: أي نسخة من الدين الإسلامي تريدون؟ النسخة الإخوانية، أم الوهابية، أم الصوفية، أم نسخة محمد شحرور؟ ومَن يضمن لنا، إذا اعتمدنا واحدة، أن يقبل بها أتباع النسخ الأخرى، ولا تبدأ حرب أهلية طويلة الأمد؟