خالد الجرعتلي | علي درويش
شكّلت دعوة زعيم حزب “الحركة القومية” التركي، دولت بهتشلي، حزب “العمال الكردستاني” المدرج على “لوائح الإرهاب” للحوار، نقطة تحول في مسار الأحداث على صعيد الداخل التركي، وسط ارتدادات متوقعة في شمال شرقي سوريا، حيث تهيمن أحزاب كردية تنظر إليها أنقرة على أنها أذرع لحزب “العمال”.
“الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، الهدف الرئيس لتركيا في سوريا على مر السنوات، رأت نفسها في صلب ارتدادات الحراك التركي الداخلي، فربطت التصعيد الحالي ضدها في أكثر من بيان بتحولات المبادرة.
ومنذ 23 من تشرين الأول الماضي، تتعرض منطقة شمال شرقي سوريا لقصف متواصل من القوات التركية، يستهدف مواقع عسكرية لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، ذراع “الإدارة الذاتية” العسكرية، ومؤسسات وبنى تحتية وخدمية.
تنتظر المبادرة القومية التركية من زعيم “العمال الكردستاني” السجين، عبد الله أوجلان، الإعلان عن حل التنظيم والالتزام بالعمل السياسي فقط، بعد سنوات من العمل المسلح ضد الحكومة التركية، وبينما لم تتضح بنود المبادرة ومكاسب الأطراف أو خسائرها، فإن تقبل أوجلان المبدئي، يرمي الكرة بملعب “الإدارة الذاتية” في سوريا التي ناصبت تركيا العداء على مدار سنوات.
وبينما قد يزيد انفتاح أنقرة على “العمال” الثقل على الجانب السوري، يفتح أيضًا فرصًا لتكون “الإدارة الذاتية” جزءًا من هذا التفاهم، ما قد يزيح شبح العمليات العسكرية المتوالية والضغط الدائم من قوى الإقليم.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف، مع خبراء وباحثين، سبل نجاح المبادرة التركية للأطراف الكردية، واحتمال انعكاس هذه المبادرة على شمال شرقي سوريا، في وقت لا تزال فيه الأعمال العسكرية التركية نشطة بالمنطقة.
مبادرة الداخل التركي
في 22 من تشرين الأول الماضي، دعا زعيم حزب “الحركة القومية”، دولت بهتشلي، مؤسس حزب “العمال الكردستاني” المسجون في تركيا، عبد الله أوجلان، لإلقاء خطاب في البرلمان يعلن فيه إنهاء “الإرهاب” مقابل حصوله على حق “الأمل”.
وأطلق بهتشلي دعوته غير المسبوقة خلال جلسة للبرلمان حينها، علمًا أنه نفسه كانت له نظرة حادة تجاه أوجلان وحزبه، وسبق أن طالب بإعدامه تحت قبة البرلمان نفسه.
وقال بهتشلي خلال دعوته لأوجلان، “إذا تم رفع العزلة عنه (أوجلان)، فعليه أن يأتي ويتحدث في اجتماع مجموعة حزب الحركة الديمقراطية بالبرلمان التركي، ويصرح بأن الإرهاب انتهى تمامًا وتم إلغاء التنظيم”.
وأضاف أنه يجب وضع ضوابط قانونية بشأن استخدام حق “الأمل”، ويجب أن يكون الطريق مفتوحًا أمام الناس للاستفادة منه، مشيرًا إلى أن أوجلان يمكن أن يستفيد أيضًا في حال أظهر “الفطنة” و”التصميم” في اجتماع حزب “DEM” الكردي- التركي بالبرلمان.
ووصفت وسائل إعلام تركية هذه المبادرة بالتاريخية، وتفاعل معها سياسيون كرد ومعارضون للحكومة ومؤيدون لها.
أوجلان تلقّف المبادرة التركية، وأبدى استعداده لنقل الصراع الدائر بين حزبه وتركيا من “أرضية الصراع والعنف إلى الأرضية القانونية والسياسية، إذا توفرت الظروف”.
ما حزب “العمال”؟
حزب “العمال الكردستاني” (PKK) هو منظمة كردية مسلحة تأسست في عام 1978 على يد عبد الله أوجلان ومجموعة من الكرد الشباب في تركيا.
كان هدف الحزب في بداياته إقامة دولة كردية مستقلة تضم المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا وسوريا والعراق وإيران.
ومنذ الثمانينيات، دخل حزب “العمال الكردستاني” في صراع طويل مع الحكومة التركية، بدأ على شكل مواجهات مسلحة ثم تحول في وقت لاحق إلى هجمات وعمليات مسلحة، أحدثها الهجوم على شركة عسكرية في أنقرة بعد يوم واحد على مبادرة “الحركة القومية”.
جمعت أنقرة وحزب “العمال” جولات من المفاوضات بشأن السلام، انتهت آخرها بتصعيد القتال عام 2015، بعد انهيار المفاوضات.
تصنف تركيا، بالإضافة إلى العديد من الدول مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، حزب “العمال الكردستاني” منظمة إرهابية.
عبد الله أوجلان اعتقل في 1999 بكينيا، بعملية استخباراتية تركية، بتهمة الخيانة وتأسيسه حزب “العمال الكردستاني”، العدو التقليدي لأنقرة.
واتُهم النظام السوري ورئيسه السابق، حافظ الأسد، بالوقوف خلف تسليم أوجلان، الذي كان يقيم في سوريا قبل العملية، في صفقة أنهت توترًا بين أنقرة ودمشق.
كان النظام السوري يمد أوجلان بالسلاح والتمويل في مواجهة تركيا، التي بادلت سوريا بالضغط في قضية الموارد المائية والتلويح بعملية عسكرية، قبل التوصل إلى اتفاقية “أضنة” عام 1998.
فصل بين الداخل والخارج؟
لم تشِر المبادرة التركية إلى وضع الجهات التي تعتبرها أنقرة امتدادًا لـ”العمال الكردستاني” وتحاربها على هذا الأساس، كما هو الحال بالنسبة لـ”قسد” في سوريا، لكن المبادرة طرحت اتفاقًا لحل المشكلات الداخلية في تركيا.
الحديث عن جولة جديدة من محادثات السلام بين الحكومة و”العمال” لا يزال غير واضح، إذ لا يمكن التنبؤ بشكل المحادثات بعد، أو إلى أي حد يمكن أن تصل، رغم وجود مؤشرات تدل على أن هناك ما أنجز في هذا الملف، وفق ما يراه الباحث المتخصص في شؤون فواعل ما دون الدولة بمركز “عمران للدراسات الإسراتيجية” أسامة شيخ علي.
الباحث قال لعنب بلدي، إن هناك ما يدل على أن تركيا تتبع طريقة الإعلان عن نتائج المبادرة بشكل تدريجي لتهيئة الرأي العام.
وأضاف أن التحركات العسكرية في كل من سوريا والعراق ما زالت جارية ضد “قسد”، كما أن تمركز القوات العسكرية في مناطق الاشتباكات لا يزال على حاله، ما يترك أحتمالًا أن أنقرة تميل للفصل بين الملفين (الداخلي والخارجي).
أنقرة ستحاول حل القضايا الداخلية بمعزل عن نشاطات “العمال” في الخارج، بحسب شيخ علي، فهي بحاجة لجبهة داخلية قوية في ظل وضع إقليمي “ملتهب”، إذ ترى تركيا في “العمال الكردستاني” قضية إشكالية يمكن حلها من خلال الدعوة لإلقاء السلاح، وبالتالي إغلاق هذا الملف.
ولفت الباحث إلى أنه فيما يتعلق بالملف الخارجي، قد تستمر أنقرة بسعيها لـ”محاربة الإرهاب” في الخارج، ويكون ذلك ملفًا منفصلًا، خصوصًا مع وجود كيان في شمال شرقي سوريا يتطلب التعامل معه.
من جانبها، ترى مديرة مكتب صحيفة “ديلي صباح” في أنقرة، الصحفية ديلارا أصلان، أن الهدف الرئيس والأولوية لعملية السلام هو توحيد تركيا داخليًا، و”استئصال الإرهاب في البلاد”.
وقالت لعنب بلدي، إن أنقرة تريد الحفاظ على قوتها الداخلية وتوحيدها في حالة حدوث المزيد من التصعيد أو أزمات الهجرة في الشرق الأوسط، ولا تريد التعامل مع الإرهاب في مثل هذا السيناريو.
هل تنعكس في سوريا
على مدار السنوات الماضية، منعت تركيا “الإدارة الذاتية”، المدعومة من واشنطن، في شمال شرقي سوريا، من الحصول على استقرار في المنطقة التي تديرها منذ عام 2015، وشكل “الفيتو” التركي عاملًا أساسيًا في عدم حصول “الإدارة” على أي اعتراف حتى اليوم، رغم سعيها الحثيث لذلك.
وحاولت “الإدارة” وذراعها العسكرية “قسد” على مدار السنوات الماضية دعوة تركيا للحوار، وصرّح مسؤولون فيها أن لا علاقة للكيانين السياسي والعسكري بـ”العمال الكردستاني”، دون أي تغيير في التعاطي من الجانب التركي.
الباحث أسامة شيخ علي، يرى أن أي تحسن أو سلام بين الحكومة التركية و”العمال” ستكون له انعكاسات إيجابية على المناطق الأخرى سواء في العراق أو بشكل خاص في شمال شرقي سوريا، بسبب هيمنة “العمال” هناك.
وقال لعنب بلدي، إن أنقرة لا تزال رافضة لاستمرار بقاء أو تشكيل كيان عسكري مثل “قسد” أو سياسي كـ”الإدارة الذاتية” تحت سيطرة مطلقة لأذرع “العمال الكردستاني”، وستحارب نجاح مشروع كهذا.
انعكاس المبادرة على سوريا يبقى مرهونًا بشكل التفاهم الذي قد ينشأ بين الأطراف في تركيا، لكن من المتوقع أن تعمل تركيا على تخفيف هيمنة “الاتحاد الديمقراطي” على القرار في شمال شرقي سوريا، والسماح لأطراف أخرى بالانخراط في مشاركة سياسية هناك.
أسامة شيخ علي
باحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”
من جانبها، ترى مديرة مكتب صحيفة “ديلي صباح” في أنقرة، ديلارا أصلان، أن الحكومة التركية عندما اتخذت قرار بدء عملية سلام جديدة، فإنها بالتأكيد أخذت بعين الاعتبار جميع السيناريوهات والجهات الفاعلة في المنطقة.
وقالت أصلان لعنب بلدي، إن الجهات الفاعلة في هذه العملية هي الأحزاب الأربعة الرئيسة في تركيا (حزب الشعوب الديمقراطي، العدالة والتنمية، الشعب الجمهوري، الحركة القومية) وزعيم حزب “العمال الكردستاني” المسجون عبد الله أوجلان، والرئيس المشارك السابق لحزب “الشعوب الديمقراطي”، صلاح الدين دميرتاش، وقنديل أحد أبرز معاقل حزب “العمال” في العراق، و”وحدات حماية الشعب” في سوريا.
واعتبرت أن كل الجهات الفاعلة، باستثناء قنديل وشمال شرقي سوريا، تدعم هذه العملية علنًا في الوقت الحالي، لكن على الضفة الأخرى تأتي من قنديل وشمال شرقي سوريا إشارات متضاربة من أجل الحفاظ على فرصتهما في المساومة.
ووفق أصلان، فإن سوريا ثانوية الأهمية خلال الطرح الراهن، نظرًا إلى أهداف أنقرة التي تعطي الملف الداخلي أهمية أكبر، لكن في نهاية المطاف، سيعتمد انعكاس الوضع على سوريا على كيفية سير عملية التفاوض والديناميكيات الإقليمية والسياسية في سوريا.
إن الحكومة التركية عندما اتخذت القرار الأخير ببدء عملية سلام كردية جديدة، فإنها بالتأكيد أخذت بعين الاعتبار جميع السيناريوهات والجهات الفاعلة، خاصة أن الرئيس أردوغان ليس الزعيم الذي يبدأ بصنع مثل هذه السياسة المثيرة للجدل دون إعداد الخلفية لها.
الصحفية التركية ديلارا أصلان
مديرة مكتب صحيفة “ديلي صباح” في أنقرة
سوريا.. ساحة في القضية الكردية
عند الحديث عن المسألة الكردية في المنطقة قبل العام 2012، كان التركيز ينصب على العراق الذي يعتبر إقليم كردستان فيه جزءًا من الدولة العراقية يتمتع بإدارة ذاتية، وعلى تركيا التي خاضت خلال عشرات السنوات جولات صراع سياسية وعسكرية مع الأحزاب الكردية داخل وخارج أراضيها.
بينما شهدت سوريا حراكًا سياسيًا على مدار العقود السابقة من عشرات الأحزاب الكردية، قابلها النظام السوري بالقمع، وهو ما تجلى بمواجهة احتجاجات انطلقت من القامشلي عام 2004.
صعود “الاتحاد الديمقراطي”
الحضور السياسي والعسكري الكردي في سوريا ظهر بشكل واضح، وصار له أثر ووزن في المنطقة بعد الثورة السورية عام 2011، وما تبعها من تباين في المواقف سواء من المكونات والأحزاب الكردية أو النظام أو المعارضة.
انسحاب النظام السوري عام 2012 من مناطق في شمال شرقي سوريا يشكل الكرد نسبة من سكانها تاركًا خلفه سلاح قطعات عسكرية عائدة للجيش، ليتسلمها حزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، وما تبع ذلك من تطورات سياسية وعسكرية، حوّل سوريا إلى ساحة أساسية في المسألة الكردية.
زرعت البذرة الأولى لـ”قسد”، بعدما عمل “الاتحاد الديمقراطي” على ترسيخ قوته وسيطرته على المنطقة إداريًا وعسكريًا، على حساب بقية الأحزاب الكردية التي انخرط قسم منها في الأجسام السياسية للمعارضة السورية.
“الاتحاد الديمقراطي” هو الفرع السوري لـ”العمال الكردستاني”، إذ انتقل عدد من قادة وكوادر التنظيم الأم إلى سوريا، وأصبحوا لاعبين أساسيين في “قسد” حتى يومنا هذا، ولعل أبرز الوجوه المعروفة حاليًا لدى السوريين والظاهرة إلى العلن، مظلوم عبدي قائد “قسد”، وإلهام أحمد الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في “الإدارة الذاتية” (مظلة “قسد” السياسية).
مشاركة “وحدات حماية الشعب” في معارك ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” خاصة في مدينة عين العرب/كوباني الواقعة على الحدود التركية عام 2014، وتلقيها دعمًا من التحالف الدولي، منحها حضورًا وقوة أكبر، وأعلنت عن تأسيس “الإدارة الذاتية” وذراعها العسكرية “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في تشرين الأول 2015، التي تحوي فصائل عربية وكردية وآشورية، إلا أن “الوحدات الكردية” تعد عمادها والمتحكم الرئيس بها.
وتضم “قسد” جناحين، وكلاهما من قادة وكوادر “العمال الكردستاني”، الأول متشدد ويمثل كوادر “العمال الكردستاني” التي ما زالت بنفس العقلية والتمسك بأيديولوجيا الحزب، والثاني أكثر انفتاحًا يمثله مظلوم عبدي وكوادر أخرى من “العمال الكردستاني” كإلهام أحمد.
ووفق دراسة للباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” سامر الأحمد، يمكن القول نظريًا إن آلية صنع القرار في “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) وبقية مؤسسات “الإدارة الذاتية”، تتبع للمكاتب السياسية والرئاسات المشتركة، ويطلع عليها “المجلس العام” المكون من ممثلي المناطق والأحزاب والشخصيات، وذلك بالاستناد إلى مبدأ التشاركية والتوافق، ولكن تدل المعلومات على استفراد قيادات حزب “الاتحاد الديمقراطي” بالقرار حتى دون علم بقية الأطراف، في كثير من الأحيان.
وليست هناك تقديرات محددة لعدد مقاتلي “قسد”، لكن زعيمها مظلوم عبدي قال في تموز الماضي، إن العدد يتجاوز 100 ألف مقاتل، “يمتلكون ويستخدمون أحدث أنواع التقنية العسكرية، وأسسوا قواتهم الخاصة وأقاموا جبهات وتحصينات منيعة”، وفق عبدي.
وتتمتع “قسد” بدعم متنوع (أمني وعسكري ومالي) من التحالف الدولي منذ بدء عملياته ضد تنظيم “الدولة”، وتخضع قواتها لتدريبات أمنية وعسكرية يشرف عليها التحالف بقيادة واشنطن.
خريطة لشمال شرقي سوريا تتضمن مناطق سيطرة الإدارة الذاتية ومؤسساتها العسكرية والأمنية و100 ألف مقاتل تحت قسد.
تحولات بمصلحة “قسد”
مدير مركز “جيواستراتيجي للدراسات”، إبراهيم كابان، يرى أن التحولات الدراماتيكية في الشرق الأوسط جعلت من “الإدارة الذاتية” موضع اهتمام كبير لدى القوى الغربية.
وقال كابان لعنب بلدي، إن المسألة متعلقة بأهمية الموقع والقوات والتنظيم لدى “قسد”، والقدرات والأيديولوجيا الموجودة فيها، فكلها تساعد لتكون ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة أن مناطق سيطرة “الإدارة” تحوي معظم مصادر الطاقة السورية من نفط وغاز، وهي تستطيع أن تمول نفسها.
وبالنسبة للتحولات التي صبت في مصلحة “قسد” لخصها كابان بعدة نقاط هي:
- ظروف وجود القوات الأمريكية والتحالف الدولي في العراق، وما تتعرض له من استهداف من قبل بعض الجماعات المسلحة التابعة لإيران.
- “الرداءة في الموقف التركي” حيال التطورات في الشرق الأوسط، والتقاربات التي تحصل بين تركيا وروسيا.
- الحضور الأمريكي من أجل السيطرة على نقاط التحولات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، في سوريا والعراق بالتحديد، خاصة مع الوجود الإيراني في المنطقة وتمدده نحو العراق وسوريا ولبنان.
- المخاوف في الخليج العربي من التمدد الإيراني، والمطالبة والضغط على الولايات المتحدة الأمريكية “للقيام بدورها الرائد” في منع هذا التوسع على حساب الدول العربية.
- حاجة الولايات المتحدة إلى أماكن وجود لها غير الأردن والسعودية وإسرائيل، فالحضور في سوريا والعراق يفرض على الولايات المتحدة أن تتعامل مع المسألة من بوابة سوريا.
يلعب أي حراك سياسي وعسكري في الشرق الاوسط على وترين، الأول متشدد والثاني منفتح، ويمكن ملاحظة هذه المسألة في تركيا ومعظم دول المنطقة، ويهدف التيار المتشدد لشد الحبل، بينما يميل الآخر لترك الحبل مرخيًا، وهي استراتيجية التعامل التي تحكم دبلوماسية المنطقة.
إبراهيم كابان
مدير مركز “جيواستراتيجي للدراسات”
“الإدارة” مستعدة
بشكل متكرر، أبدت “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، وجناحها العسكري “قسد”، خلال الأشهر الماضية، استعدادًا للحوار مع جميع الأطراف، بما يشمل تركيا، في وقت يضيق فيه الخناق عليهما على وقع التقارب التركي مع النظام السوري.
لم يكن إبداء الاستعداد للحوار تغيرًا جذريًا، إذ لطالما قالت “الإدارة الذاتية” إنها مستعدة للحوار، وتهدف للوصول إلى حل يرضي الأطراف، لكن هذه التعليقات كانت مشروطة دائمًا.
عقبات في سوريا
مع ما يبدو أنه تقدم في مسار التقارب بين أنقرة ودمشق، الذي تطمح عبره أنقرة لإفشال مشروع “الإدارة الذاتية”، وهجمات تتعرض لها “قسد” شرقي دير الزور، ونشاط تنظيم “الدولة الإسلامية” وتوقعات بانسحاب أمريكي في حال وصل دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة، تبحث “الإدارة” عن الخلاص.
ومن جانب تركيا، مرّت سياسة أنقرة بانعطافات عديدة في سوريا، من دعم التحول الديمقراطي إلى استراتيجية أمنية- عسكرية تركز على حماية حدودها ومحاربة “الإرهاب” من خلال التدخل العسكري المباشر ودعم “الجيش الوطني السوري” ضد “قسد”، ووصولًا للتقارب مع النظام.
وتعي أنقرة، وفق تقدير موقف نشره مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أن الملفات المطروحة على طاولة تقاربها مع النظام معقدة وتفوق قدرات الجانبين على تحقيقها، إذ تتشابك مصالح الفواعل المحلية والإقليمية والدولية في سوريا.
ورغم المواقف المعلنة الصادرة عن “الإدارة الذاتية” التي ترى في نفسها جزءًا من المبادرة المطروحة في تركيا، يعتقد الخبير التركي في السياسات الأمنية، عمر أوزكيزيلجيك، أنه من غير المؤكد كيف يمكن تنفيذ أي عملية جديدة تشمل حزب “العمال الكردستاني” وفرعه السوري و”حدات حماية الشعب”.
وقال أوزكيزيلجيك لعنب بلدي، إن احتمالية أن تكون هذه العملية مستدامة أو مدى النفوذ الذي قد يتمتع به عبد الله أوجلان على الأرض، لا تزال غير واضحة فعليًا، لافتًا إلى أن المحاولة الأخيرة لعملية السلام بين تركيا و”العمال” انتهت “بشكل كارثي” وأسفرت عن مقتل المئات.
المشهد الجيوسياسي الحالي لا يدعم أي عملية جديدة، وفق أوزكيزيلجيك، فضلًا عن أن العديد من العقبات المحتملة قد تعرقل العملية، حتى لو كانت هناك رغبة حقيقية في تحقيق السلام.
وأضاف الخبير التركي أن من المستحيل بالنسبة لتركيا أن تفكر في أي عملية سلام لا تشمل سوريا، لكن العملية المطروحة على الطاولة حاليًا لم تصل إلى هذه المرحلة بعد.
على أجندة التقارب
في خضم التصعيد العسكري الممتد خلال الأسبوع الأخير من تشرين الأول الماضي، وتزامنًا مع طرح مبادرة السلاح بين تركيا وحزب “العمال الكردستاني” دعا مندوب تركيا الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير أحمد يلديز، الدول الأعضاء بمجلس الأمن إلى تصنيف “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) و”وحدات حماية الشعب” كمنظمات إرهابية، بعد يوم على هجوم استهدف شركة عسكرية في أنقرة.
وقال يلديز، إن إحدى أخطر عواقب الصراع السوري تمثلت في استغلال المنظمات الإرهابية للفوضى من أجل مواصلة أجندتها الانفصالية، معتبرًا أن “YPG” /”PKK” (الوحدات والعمال) يهددان وحدة الأراضي السورية، وفق ما نقلته وكالة “الأناضول” التركية.
وأضاف المندوب التركي، “آمل أن تضيف الدول الأعضاء في الاجتماع التالي (PKK)، وذراعيه (YPG)، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلى قوائم التنظيمات الإرهابية التي تنشط في سوريا”.
الإشارات المتضاربة حول استمرار تركيا بمهاجمة قوات تشكل حجر أساس في مكونات “الإدارة الذاتية” (قسد، ووحدات حماية الشعب) وسعيها في نفس الوقت لإنهاء مسألة عدائها لهذه المكونات، يأتي بشكل متوازٍ مع استمرار السعي للتطبيع مع النظام السوري، بهدف “مكافحة الإرهاب” في سوريا.
مطلع تشرين الثاني الحالي، قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إن تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري له أهمية كبيرة للاستقرار المستدام في سوريا وتعزيز الأمن في منطقة الشرق الأوسط.
وأضاف لافروف في تصريحات لصحيفة “حرييت” التركية، أن روسيا تبذل جهودًا متواصلة لإنهاء الصراع بين دمشق وأنقرة، مشيرًا إلى نقاش هذا الموضوع مع نظرائه الأتراك والإيرانيين في اجتماع وزراء خارجية الدول الضامنة لعملية “أستانة” بنيويورك، في 27 من أيلول الماضي.
وفي 25 من تشرين الأول الماضي، قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إنه طلب من نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، اتخاذ خطوات لضمان استجابة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، للدعوة التركية بمسار تطبيع العلاقات بين الجانبين.
وأوضح أردوغان في تصريحات لوسائل إعلام تركية، نقلت عنها صحيفة “يني شفق”، أنه ناقش مع بوتين قضية سوريا خلال مشاركته بقمة مجموعة “بريكس” في قازان.
وأشار حينها إلى أنه ناقش مع بوتين مسألة لقاء الأسد، وقال، “منذ البداية أكدنا دائمًا أننا نؤيد حماية سلامة الأراضي السورية، وإرساء سلام دائم وعادل في جوارنا، بالإضافة إلى حماية حدودنا”.
الصحفية التركية ديلارا أصلان، ترى أن تركيا تسير على الطريق نحو التطبيع مع النظام السوري، لذلك يمكن توقع أن يكون وجود “وحدات حماية الشعب” في شمال شرقي سوريا قضية أخرى على جدول الأعمال بين أردوغان والأسد، حتى في ظل وجود مبادرة السلام المطروحة على طاولة السياسة التركية اليوم.
وأضافت أن “وحدات حماية الشعب” تسيطر بالفعل على منطقة شبه مستقلة، وتجري انتخابات وتحصل على دخل مالي من خلال الاتجار غير المشروع، أو صادرات النفط، ودول مثل الولايات المتحدة قد لا ترغب في التخلي عنها، لكن من الممكن التوصل إلى صيغة مختلفة معهم بالطبع.
على الرغم من أن حزب “العمال الكردستاني” والجماعات التابعة له تشترك في أساس أيديولوجي قوي، لدى كل جناح منها مصالحه الخاصة وسياقه الجيوسياسي حتى داخل الجسم الرئيس لحزب “العمال” نفسه، فهناك آراء لا تزال ترى أوجلان زعيمًا وأخرى رفضت هذه القيادة في السنوات الماضية، ومن المحتمل أن تنظر تركيا في عملية الحوار المقبلة إلى كيفية تطور الأمور وإلى أي مدى يستمر نفوذ أوجلان.
الصحفية التركية ديلارا أصلان
مديرة مكتب صحيفة “ديلي صباح” في أنقرة
فرصة بعد ضغط دائم
انطلاقًا من اعتبار أنقرة لـ”قسد” امتدادًا لحزب “العمال الكردستاني”، شنت تركيا عمليات عسكرية ضد “قسد” لإبعادها عن مناطق حدودية، هي عملية “غصن الزيتون” في عفرين بريف حلب عام 2018، وعملية “نبع السلام” شرق الفرات عام 2019.
بالمقابل، تحاول “قسد” النأي بنفسها عن الصراع بين “العمال الكردستاني” وتركيا، خاصة بعد هجوم أنقرة الأحدث، وذلك بحسب ما جاء في تصريح مظلوم عبدي زعيم “قسد” لقناة “الحرة”، في 30 من تشرين الأول الماضي، بأن فصيله ليس جزءًا من القتال الدائر بين تركيا و”العمال”.
وكررت “قسد” خلال السنوات الماضية إعلان جاهزيتها للتقارب مع تركيا والمعارضة السورية والنظام السوري، خاصة بعد كل ضغط تتعرض له.
وعملت أيضًا على التقارب مع الدول العربية وروسيا، ولديها نشاط سياسي في عدة دول أوروبية، خاصة أنها تسيطر على سجون عناصر تنظيم “الدولة” والمخيمات التي تقطن فيها عائلات عناصر التنظيم متعددي الجنسيات.
ولا تزال تركيا تضع “قسد” خارج دائرة الحوار، ووجهت لها بعد هجوم أنقرة عشرات الضربات، وقال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن بلاده نفذت 470 ضربة ضد “العمال الكردستاني” في سوريا والعراق، خلال تشرين الأول الماضي.
ورغم لقاءات تكررت بين أجهزة النظام السوري الأمنية و”قسد”، في محاولة من الأخيرة لتحصيل اعتراف أو الاندماج في الجيش النظامي مع وجود خصوصية عسكرية لها، لم يمنحها النظام أي اعتراف ولم يتجاوب معها.
وعلى الصعيد الإقليمي، وسعت عملية “نبع السلام” التركية شرق الفرات، في تشرين الأول 2019، من حضور موسكو في مناطق سيطرة “قسد”، وجعلت روسيا حاضرة في هذا الملف بعد اتفاق “سوتشي” الخاص بشرق الفرات بين أردوغان ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين.
هل يتراجع الضغط؟
الباحث في الشؤون الكردية ومدير مركز “رامان للدراسات،” بدر ملا رشيد، قال لعنب بلدي، إنه يمكن النظر إلى محاولات تقارب “قسد” من زاوية مختلفة، فـ”الإدارة الذاتية” و”قسد” كانت تتقارب مع بعض الدول العربية بناء على دافعين أساسيين، الأول وجود خلاف بينها وبين تركيا، والثاني أخذ هذه الدول على عاتقها مواجهة “التنظيمات المتطرفة والجماعات المتبنية للإسلام السياسي”.
أما علاقة “قسد” مع النظام فلها محددات تعود لأربعة عقود، بعضها لوجستي، والآخر عقائدي، إذا قمنا بإضافة إيران “الشيعية” للمعادلة.
وفي حال تطور الخطوات التي يتم أخذها في تركيا تجاه حزب “العمال”، “إيجابيًا وفق تقييمات نزع السلاح وإنشاء السلام”، فإن السلام الناشئ بالإضافة إلى تراجع حدة الخلافات بين تركيا وبعض الدول العربية، سيكون لمصلحة “الإدارة الذاتية”، بحسب ملا رشيد، وبالتالي وبنسب معينة سيكون لمصلحة الولايات المتحدة، نتيجة تراجع الخلافات بين حلفائها الرئيسين في الشرق الأوسط.
وأوضح ملا رشيد، لعنب بلدي، أن التأثير الروسي معقد، فهو مرتبط بدوافع تاريخية يسارية، إلى جانب العلاقة المتوترة بين تركيا وروسيا إلى ما قبل 2016، وتعقد ديناميكيات التأثير الروسي على “الإدارة الذاتية” بعد عملية “غصن الزيتون” ولاحقًا “نبع السلام”.
وحاليًا، فإن التأثير الروسي مرتبط بمدى وجود رغبة وتنفيذ تركيا لأي عملية عسكرية جديدة تجاه “قسد”، وفي حال تراجع احتمالات العمليات العسكرية، سيحصل توازن جديد وتراجع في التأثير بنسبة لاحظنا بعضها خلال الأحداث الأخيرة في ريف دير الزور، حيث حدث توتر بين ضباط النظام والطرف الروسي من جهة، وبين ممثلي “قسد” في الاجتماعات التي حصلت لإيقاف العمليات العسكرية.
مدير مركز “جيواستراتيجي للدراسات”، إبراهيم كابان، في تعليقه على المبادرة التركية، أشار إلى أنه إذا أرادت أنقرة أن تتحول إلى العالمية في صناعاتها وسياساتها وعلاقاتها واستراتيجياتها، فهي بحاجة إلى نوع من التطور الداخلي على مستوى تهدئة المواجهات مع حزب “العمال”.
وبحسب كابان، يعتبر دور حزب “العمال” في الحدث التركي ذا تأثير، ويشكل “معضلة حقيقية في تركيا”، وبالتالي تعتبر أنقرة “مجبرة” على أن تذهب باتجاه آخر بدل أن تدخل في مواجهة مع قوى “العمال الكردستاني” ومع “الإدارة الذاتية”، مضيفًا أن “الحوار التركي مع (قسد) مطلب أمريكي بطبيعة الحال، وهم (أي الأمريكيون) بحاجة له”.
وأضاف أن الدخول في حوار وتقارب وتفاهم والاستثمار في مناطق سيطرة “قسد”، كحالة الاستثمار الاقتصادي التركي في إقليم كردستان العراق، يصب في مصلحة تركيا.