ليان الحلبي – عنب بلدي
“كان فتى صغيرًا، وجسده ممتلىء بالرضوض لتعرضه للضرب المبرح من قبل والده بالخرطوم أو العصا، وحين سألت والدته عن سبب الضرب بهذه الطريقة المؤلمة، قالت إنه ذهب لتعبئة المياه فتأخر ساعة“.
هكذا روى عبد الرحمن مشعل، أحد ناشطي حلب، ما شاهده في مشفى ميداني في أحياء سيطرة المعارضة في المدينة، قبل حوالي أسبوعين، مشيرًا إلى أن الأمر لم يقتصر على ضرب الفتى فحسب، بل طال أخته الصغيرة أيضًا.
ونقل عبد الرحمن عن والدة الفتى قولها، إن الوالد قام بربط الأخت الصغيرة، وعمرها سبع سنوات، بالحبل، وأنزلها إلى بئر مياه قديم في المنزل، وأبقاها معلقة سبع ساعات متواصلة، مضيفًا “ذهبت إلى إحدى الفصائل العسكرية وأخبرتهم بالقصة، بعد موافقة الأم على تقديم شكوى بحق الأب، فجاؤوا وكتبوا ضبطًا في المشفى، ثم ذهبوا إلى المنزل في حي الأصيلة، واعتقلوا الوالد، وأحيل إلى المحكمة”.
تكررت في الآونة الأخيرة في حلب، حالات العنف الأُسري بحق الأطفال، واقتصرت نتائج بعضها على الإصابات الشديدة عند الطفل، في حين أدى البعض الآخر إلى الوفاة.
وتواصلت عنب بلدي مع أحد أطباء مشفى زرزور في المدينة، للاطلاع على أهم الحالات الأخيرة الواردة إليهم، وتحفظ المصدر على ذكر اسمه اعتمادًا على سياسة المشفى، كما امتنع عن ذكر أسماء الأطفال، مكتفيًا بالأعمار وتاريخ مراجعة المشفى.
ووفقًا للطبيب، راجع طفل في الثالثة عشرة من عمره المشفى، يوم الجمعة 18 آذار الماضي، وعليه علامات ضرب بـ”الكابل” على ظهره، وتبين لدى فحصه وجود كسر باليد، وثلاثة جروح في فروة الرأس، وقال الطبيب إن سبب الضرب هو تأخر الطفل في العودة إلى المنزل.
الحالة الثانية، كانت لطفلة تبلغ من العمر ثمانية أعوام، راجعت المشفى يوم الأربعاء 23 آذار، وعليها آثار كدمات واضحة على يديها ووجهها، كما تعرضت للضرب على بطنها بقوة، ما اضطر الأطباء لوضعها تحت المراقبة فترة معينة، قبل أن يتم تخريجها من المشفى.
وروى الطبيب نقلًا عن الفتاة ذاتها، أن سبب ضربها هو أخذها مبلغ ألفي ليرة سورية من والدها، كانت سقطت منه على الأرض، التقطتها الفتاة وخبأتها ريثما يعود من عمله، ثم اشترت بالمبلغ بعض الحاجيات دون إخبار أهلها بذلك، ما استدعى ضربها بهذه الطريقة من قبل والدها.
عقاب حتى الموت
الخبير الجنائي، أبو جعفر، مدير الطبابة الشرعية في حلب، ذكر لعنب بلدي وصول حالة وفاة إلى الطبابة قبل حوالي أسبوعين، لطفل يبلغ من العمر 14 عامًا، حوّله مشفى القدس بسبب الشك بتعرض الجثة لأعمال عنف وشدة.
وأضاف أبو جعفر، أنه تبين لدى فحص الجثة تعرضها للضرب المبرح على كافة أنحاء الجسم، مع التركيز بشكل أكبر على الظهر والفخذين والإليتين، حيث بدت علامات كدمات وزرقة واضحة جدًا، في حين لم يظهر الفحص للطفل أي آثار اعتداء جنسي.
الفحص أظهر أيضًا أن اليدين كانتا مقيدتين بـ “جامعة بلاستيكية”، ذلك أن بصمات الجامعة كانت واضحة، كما دلت الخطوط المتقطعة على أنها جامعة بلاستيكية، وليس حبلًا أو سواه، وفقًا لـ”أبو جعفر”، الذي أضاف “لاحظنا علامة جنائية واضحة تدعى (جلد الإوزة)، وهي تظهر إما بسبب البرد الشديد أو الخوف الشديد”.
وأردف الخبير الجنائي أن “موقع الضرب أعطانا نتيجة أن الضرب لم تكن غايته انتقامية أو سواه، وإنما ضرب اعتيادي، عندها شككنا بأن أحد أفراد الأسرة هو من قام بضربه”. وأحيل الأهل إلى التحقيق، وأنكروا في البداية ضرب الطفل، مدعين أنه كان مخطوفًا أو مفقودًا، وأنهم رأوا جثته صباحًا مرمية أمام المنزل، وهي عارية إلا من “الشورت الداخلي”.
وتابع أبو جعفر”كنا ندحض ادعاءاتهم بالوقائع، وعند سؤالنا عن علاقة الطفل بأهله في الحي، علمنا أن هناك سوابق بضرب الأب لابنه، لدرجة أن الناس كانت تتدخل بينهم لتخليص الطفل من بين يدي والده”.
واعترف الوالد نهاية المطاف بأنه ضرب ابنه بسبب سرقته أشياء تعود لجدته وبيعها، ثم قام بتقييد يدي الطفل وحبسه وهو عار إلى اليوم الثاني، حيث وجدوه ميتًا، “وهو ما دل عليه جلد الإوزة بسبب البرد الشديد الذي تعرض له الطفل”، وفقًا لـ”أبو جعفر”.
الاثنين 28 آذار، وردت إلى الطبابة جثة طفل في الرابعة من عمره، من حي الزبدية، سبق وأقام في مشفى زرزور عدة أيام للمعالجة من حرق تعرض له من الدرجة الثانية، وبعد إخراجه من المشفى بـ 24 ساعة فقط، مات الطفل، وتم تحويله إلى الطبابة.
وقال مدير الطبابة الشرعية، إنه لدى فحص الجثة، تبين تعرض الطفل لأعمال عنف وضرب، أثبتتها الكدمات الواضحة على جسمه، خاصة الوجه والخدين والساعدين والساقين، مع وجود آثار كدمات وازرقاق حول الرقبة والشفة السفلية، فيما لم يسفر التصوير الشعاعي للجثة عن وجود أي كسور.
وبحسب تقرير الطبابة الشرعية الصادر يوم 28 آذار، أكد أطباء مشفى زرزور أنه تم إجراء كافة التحاليل والصور الشعاعية اللازمة للطفل قبل مغادرته المشفى، عقب معالجته من الحرق، وأكدت جميعها أن الطفل بحالة جيدة ويتماثل للشفاء، وأن لا حاجة لبقائه مدة أطول في المشفى.
وأضاف الأطباء بأن الكدمات التي شوهدت على جثة الطفل لم تكن موجودة أثناء تخريجه من المشفى، وإنما حدثت بعد خروجه بفعل فاعل، وماتزال الحالة قيد التحقيق حتى لحظة إعداد التقرير، دون أي إثباتات نهائية على تورط الأهل.
نيابة حلب: الضرب ممنوع شرعًا وقانونًا
وبالتواصل مع أحمد صالح، رئيس النيابة في المحكمة الشرعية في حلب وريفها، أفاد بأن النيابة العامة تقوم بالتحقيق في جرائم العنف الأسري، وجرائم الإيذاء المفضي إلى الموت، كما تعتقل مرتكب الجرم بمجرد ارتكابه، كون النيابة تمثل المجتمع.
وأضاف الصالح، أنه عند صدور مذكرة توقيف بحق أحد المتهمين، فإنه لابد من وجود أدلة وقرائن، ومن بينها تقرير الجنائية والطبابة الشرعية، الذي يساعد في تحديد زمن الوفاة، وسببها، والأداة الإجرامية المستعملة، وغيرها.
ولدى سؤاله عن احتمال كون مرتكب الجريمة في حالات العنف الأسري هذه، سواء الأب أو غيره، لا يقصد الأذية المتعمدة أو القتل، وإن كان ذلك يؤخذ بالاعتبار أثناء التحقيق، قال الصالح إن “واجب الأهل تربية الأطفال وإحسان التربية، وإن التعسف في استعمال الحق أو الضرب المبرح ممنوع شرعًا وقانونًا”، وأكد أن الدعوتين المتعلقتين بالطفلين المتوفين ماتزالان قيد التحقيق حتى الآن، دون صدور أي قرار نهائي فيهما.
الأطفال يدفعون ثمن الجهل والضغط النفسي
واعتبر المعالج النفسي، محمد السيد، أن أسباب العنف الأسري المؤدي إلى القتل محدودة، وهي إما بسبب مرض نفسي يصيب أحد الوالدين، أو ظهور سلوكيات تمس قضايا الشرف والعار، أو أن تولّد بعض الظروف الاجتماعية كالفقر الشديد أو القهر أو الإعاقة وغيرها، رغبةً عند الأهل بقتل الأطفال منعًا من أن يعيشوا هذه الظروف، وهي حالات نادرة.
وأضاف السيد أن هناك عدة عوامل تلعب دورًا مهمًا في انتشار العنف الأسري في الحالة السورية، أولها الضغط النفسي الشديد على الأهالي في الداخل، وما يعايشون ويشاهدون من العنف اليومي والقتل، الأمر الذي يولّد توترًا شديدًا، دون توفر مساحات أو منافذ لتفريغ هذا التوتر أو الضغط، ويقود ذلك إلى خلل في المحاكمة العقلانية وأخذ القرارات لدى الأهل، في جميع أمور حياتهم، ومن ضمنها التعامل مع الأطفال.
العامل الثاني يتعلق بالطفل ذاته، فالضغوطات النفسية التي يعايشها تقوده لأن يكون أكثر تحديًا ورفضًا للواقع والسلطة، بما فيها سلطة الوالدين، وهذا الرفض قد يكون بطريقة انتقاص قاس وشديد، وفقًا للسيد.
وتابع “أضف إلى ذلك الجهل لدى الأهل، وعدم توفر المهارات والخبرات اللازمة للتعامل مع هذه الضغوطات، وبالتالي التعامل مع الأبناء، بل وعدم توفر الفرص لاكتساب هذه الخبرات، هذا عدا عن التشتت الأسري الحاصل بسبب حالات النزوح، بحيث لم يعد هناك دور لنصح الأهل والعائلة والأصدقاء لكلا الوالدين”.
وأشار المعالج النفسي إلى أن هذا التحليل هو الأكثر منطقية من الناحية النفسية، طالما أن التحقيقات لم تثبت وجود أي من المسببات الثلاثة المذكورة، لحالات العنف الأسري.