لمى قنوت
من “السيوف الحديدية” إلى “حرب القيامة”، هكذا اقترح نتنياهو، وبشكل رسمي، تغيير اسم الحرب التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة والضفة ولبنان باعتبارها حربًا وجودية، للتأكيد على الدلالات التوراتية، والتذكير بمعركة هرمجدون في العهد الجديد، حيث سيشن “ملوك الأرض تحت القيادة الشيطانية حربًا على قوات الله في نهاية التاريخ”، حسب رؤيا للقديس يوحنا عن نهاية العالم، والتي بوصفها ودلالاتها تشبه أيضًا معركة المهدي المنتظر عند المسلمين.
في جيش الاحتلال، وفي تصريحات ساسته، يسير الخطاب السياسي القومي- الديني جنبًا إلى جنب، وبشكل متناغم، لتسعير العدوان وتحفيز الجنود على القتال ورفع معنوياتهم، وشرعنة سلوكيات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وإلباسهما لبوسًا دينيًا.
يستند الفعل الإبادي الصهيوني إلى نصوص واستعارات توراتية، بوصفها “مرجعًا تاريخيًا للصهيونية”، فمثلًا، يشرح سفر التثنية الاستراتيجية العسكرية الواجب اتباعها بالنسبة للمدن البعيدة: “إذا اقتربتم من مدينة لتحاربوها فاعرضوا عليها السلم أولًا، فإذا استسلمت وفتحت لكم أبوابها، فجميع سكانها يكونون لكم تحت الجزية ويخدمونكم. وإن لم تسالِمكم، بل حاربتكم فحاصرتُموها فأسلمها الرب إلهكم إلى أيديكُم، فاضرِبوا كل ذكر فيها بـحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغنَموها لأنفسكم وتمتعوا بغنيمة أعدائكم التي أعطاكم الرب إلهكم”. و”أما مدن هؤلاء الأمم التي يعطيها لكم الرب إلهكم مُلكًا، فلا تُبقوا أحدًا منها حيًا بل تُحَلِلون إبادتَهم، وهم الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزِيون والحوِيون واليبوسيون، كما أمركم الرب إلهكم”.
منذ حرب 1967، وانخراط المتدينين في جيش الاحتلال، جرى تفسير الاحتلال والاستيطان من خلال خطاب ديني ذي صبغة مسيانية، وهو معتقد اليهود الذين يؤمنون بالمنقذ يشوع/يسوع المسيح، ليخلص شعب إسرائيل في نهاية العالم. وتزايدت المدارس الدينية من مدرسة دينية عسكرية واحدة قبل احتلال الـ67 إلى 12 في عام 1980، ووصلت في عام 1998 إلى 30 مدرسة، واعتبرت جميعها صلة وصل بين الشباب المتدين وجيش الاحتلال من جهة، ووكيلًا غير رسمي يصل بين اليهودية والجيش، بالتوازي والتكامل مع الدور الرسمي كالمؤسسة الدينية العسكرية داخل الجيش.
كشف تقرير أعده الصحفي الإسرائيلي كوبي بن سمحون، نُشر في صحيفة “هآرتس” في تشرين الثاني 2014، عن التحولات العميقة في جيش الاحتلال والتديين في صفوفه، وهي تعكس التحول المجتمعي إلى التطرف اليميني والأصولية الدينية، الأمر الذي انعكس على تفاصيل الحياة اليومية للجنود، التي تتكامل باطراد مع ممارسات وطقوس توراتية في الحيز العام كدأب قادة الألوية على إصدار بيان لتحفيز جنودهم على القتال قبل كل عدوان وحرب، مثل البيان الذي أصدره قائد لواء “غفعاتي”، أحد أبناء الصهيونية الدينية “عوفر فنتر” قبل العدوان على غزة في تموز 2014، ذكر فيه: “لقد اخترنا التاريخ لنكون رأس الحربة في قتال العدو الإرهابي (الغزي) الذي يسّب ويشتم ويلعن إله إسرائيل”، ووظف نصوصًا دينية في ختام بيانه العسكري: “سأرفع عيني إلى السماء وأدعو معكم: اسمع إله إسرائيل الواحد سدد طريقنا، فنحن ذاهبون لنقاتل من أجل شعب إسرائيل ضد عدو يسّب اسمك، أدعوكَ باسم مقاتلي جيش الدفاع الإسرائيلي، وخاصة مقاتلي اللواء وضباطه، أقم فينا قول: وقل إلهكم الذي يقاتل معكم أعداءكم لينقذكم، ونقول آمين، معًا، وفقط معًا، سننتصر”.
ولا يقتصر الأمر على البيانات العسكرية التي تعتبر حروب إسرائيل حروبًا دينية فقط، فكل شيء يخضع لتديين الحرب والعدوان، من طوف الحاخامات على الجنود لحثهم على الاستبسال في القتل، ومباركة الجرائم الجنسية التي يرتكبونها، كالحاخام مئير مازوز، الذي دعم وبارك متهمين بالاعتداء الجنسي على معتقل فلسطيني في سجن “سيدي تيمان”، وطالب بمكافأتهم وليس توقيفهم، في تموز الماضي.
كما تحفل الصهيونية الاستعمارية وفكرها الإبادي في توظيف الدين بالخطاب والممارسات، كاستدعاء أسطورة العماليق، وذبح بقرة حمراء ليس لديها شعرتان من لون واحد، وتعليق شارة المسيح على زيهم العسكري لتسريع عودة المسيح المخلص.
لم يعد صراع المفاهيم الدينية المتصاعد في أوساط جيش الاحتلال فرديًا وعابرًا، بل هو نمط اعتيادي في مختلف التفاصيل اليومية، يشكل تهديدًا للعلاقات الهشة بين العلمانيين والمتدينين فيه، كما أشار تقرير سمحون، مثل الاختلاط، والمجادلة وقت الاستنفار، وصلوات الجماعة قبل الخروج للمعركة، وتعاظم قوة وتأثير الحاخامات ووجودهم الدائم في القواعد العسكرية، ورفض الجنود لانتهاك حرمة يوم السبت حتى ولو كان بركوب السيارة العسكرية، والزيارات المتكررة لحائط المبكى/البراق، وإقصاء النساء، ورفض الإصغاء للمُدَرِبات ورفض نومهن في ذات القاعدة العسكرية، وهو واقع مختلف عما يروجون له عن جيشهم من خلال فيديوهات الرقص عبر “تيك توك” وفيما يسمى “دبلوماسية البيكيني” الإسرائيلية.
تجلى أيضًا أثر هذا التدين في رد فعل مضاد ورفض الخدمة العسكرية، وهو ما أشار إليه أحد الجنود الموقعين على رسالة وجهت لنتنياهو ويوآف غالانت، وعددهم 130 جنديًا، يرفضون فيها القتال بقطاع غزة ولبنان ما لم يتم التوقيع على اتفاق لإنهاء الحرب وإعادة الرهائن، فبعد أن قضى جندي الاحتياط يوتام فيلك 230 يومًا كمتطوع في القتال بعد عملية “7 أكتوبر”، شعر بأن الجو عسكري ديني، ولم يعد يستطيع تحمل سماع آراء رفاقه المتطرفين والتسامح معها، وشعر بالرعب من تمتع صوت بن غفير بصدى كبير بين الناس.
بالرغم من جهود البروباغندا المكثفة لتسويق إسرائيل على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، واستخدام الغسيل السياسي الوردي والبنفسجي في تصديرها على أنها جزء مما يسمى “العالم الحر” الذي يحترم الحريات الفردية والجماعية، تبقى على أرض الواقع كيانًا استعماريًا استيطانيًا إحلاليًا ثيوقراطيًا يقوم وجوده على تفسيرات لبعض النصوص الدينية وإسقاط ما يُفترض أن يكون منها “سردًا تاريخيًا” لما مضى، على أنها وعود إلهية للحاضر والمستقبل.