علي درويش | حسن إبراهيم
بين ثلاث مناطق سيطرة في سوريا، يُحرم مئات آلاف الأطفال من التعليم، تزامنًا مع ترك مدرّسين مجال التعليم وتفضيل أعمال أخرى تؤمّن قوت يومهم، ما يخلق أزمات تعليمية تترسخ عامًا بعد عام، ورغم تفاوت أسبابها في مناطق السيطرة الثلاث عبر الجغرافيا السورية فإن النتائج متقاربة.
في شمال شرقي سوريا تسيطر على مساحات واسعة منه “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) وتديره ذراعها السياسية “الإدارة الذاتية”، وتفرض مناهج تحكمها أيديولوجيا تخلق كل عام إضرابات وصدامات بين السكان والهيئات التعليمية.
وفي أجزاء من شمال غربي سوريا الواقعة تحت سيطرة المعارضة وتدار من حكومتي أمر واقع، يضرب تراجع الدعم والأزمة الاقتصادية بالكوادر والعملية التعليمية ككل، ما يفتح الباب أمام خصخصة القطاع، وانتشار مؤسسات تُحسب على جهات عسكرية.
أما في بقية المناطق التي تخضع لسيطرة النظام، فتدار العملية التعليمية تقريبًا بنفس النظام المعروف منذ عقود في سوريا، وسط أزمات تتعلق بالبنى التحتية وتأمين المستلزمات ورواتب المعلمين.
ومن بين 5.52 مليون طفل ممن هم في سن الدراسة (من عمر 5 إلى 17 عامًا) في سوريا، يوجد 2.4 مليون طفل خارج المدارس، ويرجح أن يرتفع عدد الأطفال المتسربين من التعليم، وأن يتعرضوا لخطر التسرب الدائم، في ظل بقائهم لمدة طويلة خارج المدرسة، وهو ما يصعب تعويض ما فاتهم من سنوات دراسية، وقد فقد بعض الأطفال عشر سنوات من التعليم، وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف).
تعرض عنب بلدي في هذا الملف مشكلات القطاع التعليمي في مختلف مناطق السيطرة، وأسباب تسرب الأطفال والمعلمين من القطاع التعليمي، وأثر ذلك على الأجيال القادمة في سوريا، والحلول التي يمكن أن تخفف من حدة المشكلة.
تراجع في التمويل وأزمة مدرّسين
شمال غربي سوريا.. فجوة تعليمية
تجمع 5.1 مليون شخص في شمال غربي سوريا، بعد التهجير الذي فرضته المعارك العسكرية في وسط وجنوبي سوريا، من بينهم مليونا شخص يعيشون ضمن المخيمات التي يقدر عددها بحوالي 1500 مخيم نظامي وعشوائي.
يقيم في المنطقة 2.2 مليون طفل في سن المدرسة، من بينهم مليون طفل خارج صفوف الدراسة، كما أن 57% من الأطفال ليس لديهم وصول إلى المدارس الابتدائية، و80% لا يوجد لديهم وصول إلى المدارس الثانوية، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
وعلى مدار 13 عامًا الماضية تتعرض المنطقة لقصف من قبل قوات النظام وروسيا والميليشيات الإيرانية، ما يترك السكان في حالة من عدم الاستقرار، ويؤثر على العملية التعليمية، حيث تستهدف المدارس أيضًا.
وذكر “الدفاع المدني السوري”، في تقرير له صدر في أيلول الماضي، أن العمليات العسكرية والقصف الممنهج من قبل قوات النظام وروسيا، تسببت بتضرر آلاف المدارس منذ عام 2011.
ومنذ العام 2019، شنت روسيا والنظام 172 هجومًا استهدف مدارس ومنشآت تعليمية في شمال غربي سوريا، وفق “الدفاع المدني“.
ومنذ انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، تعرضت 7000 مدرسة في سوريا للتدمير أو تضررت جراء القصف.
تسرب معلمين.. ما الأسباب
بالإضافة إلى مشكلة تسرب الأطفال المستمرة منذ سنوات، فإن قضية ترك المعلمين للتدريس تزايدت خلال العامين الماضيين، ما يضرب صلب العملية التعليمية، إذ يجبرون على التوجه إلى أعمال في قطاعات أخرى، كالزراعة والمياومة، حيث وجدوا فيها ملجأ لتأمين احتياجاتهم الأساسية وسط أزمات الرواتب المستمرة، وفق ما قاله ثلاثة معلمين لعنب بلدي.
وقدّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) أن ربع المعلمين في إدلب لا يتلقون رواتب، أي 2380 معلمًا من أصل عشرة آلاف و853 معلمًا.
وتتشابه أسباب ترك المعلمين التدريس بمناطق سيطرة المعارضة، سواء في مناطق نفوذ حكومة “الإنقاذ” بإدلب وجزء من أرياف حلب واللاذقية وحماة، و”الحكومة المؤقتة” بريف حلب.
وبحسب ما تحدث به المعلمان، مصطفى كركج بريف حلب، وإبراهيم في إدلب (كلاهما ترك التدريس)، تتلخص أسباب تسرب المعلمين من المدارس بـ:
- الدخل المنخفض للمدرّس وعدم قدرة الدخل المنخفض على مجاراة الارتفاع الكبير في متطلبات العيش، إذ يبلغ الراتب وسطيًا 80 دولارًا أمريكيًا فقط.
- الحصول على فرصة عمل تؤمّن دخلًا أكبر من دخل المعلم.
- زيادة عدد الحصص أسبوعيًا للمعلم، ففي ريف حلب، كان النصاب 19 حصة أسبوعيًا، وحاليًا صار بين 25 و30 حصة.
المعلمون بريف حلب نظموا وقفات احتجاجية متكررة خلال السنوات الثلاث الماضية طالبوا خلالها بزيادة الدخل الشهري، وعدم التعدي على حقوق المعلمين، واحتجاجات أخرى مناهضة للفساد الإداري في المنطقة، وتردي العملية التعليمية، لكن المشكلات بقيت نفسها.
خصخصة؟
بلغ عدد المعلمين الذين استقالوا في مناطق نفوذ “المؤقتة” منذ 2023 حتى نهاية شباط 2024، أكثر من 500 معلم ومعلمة، وفق إحصائية حصلت عليها عنب بلدي من رئيس نقابة المعلمين في مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي، محمد صباح حميدي، بينما لا توجد إحصائية لعدد المعلمين المستقيلين في مناطق “الإنقاذ”.
وتسببت استقالة المعلمين بكارثة للعملية التعليمية، نتيجة نقص الكوادر، وعدم توفر كفاءات تلبي الاحتياجات الملحة، إذ لا يوجد بديل عن المعلم المستقيل، خاصة في اختصاصات الفيزياء والكيمياء، ويجري حاليًا الاعتماد على طلاب من الجامعات لتعويض بعض الحصص.
قسم من المعلمين يتوجهون إلى المدارس الخاصة، لأنها تمنحهم مردودًا ماديًا أعلى، لكن يصعب على الأهالي تسجيل أبنائهم في هذه المدارس نتيجة تكلفتها العالية، خاصة في منطقة يحتاج فيها 4.2 مليون من أصل 5.1 مليون شخص إلى المساعدات، و3.6 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
المدرّس التربوي حسن طيفور، أوضح أن للتعليم الخاص آثارًا سلبية على المعلمين والأطفال، فباستقطابه المعلمين المتميزين وأصحاب الخبرة، يؤثر على التعليم العام، كما أنه لا يمنح المعلمين أجورًا أعلى بشكل ملحوظ من المدارس العامة، ما يعني أنهم لا يزالون بحاجة للعمل في مهن أخرى.
وفي حال أراد الأهالي تسجيل أبنائهم في التعليم الخاص، بريف حلب مثلًا، يحتاج الطالب قسطًا قدره 35 دولارًا شهريًا، وفي حال وجود أكثر من طالب في نفس العائلة فإن ذلك يسبب ضغطًا ماليًا، وفق حسن طيفور.
وحذر معلمون التقتهم عنب بلدي من توجه التعليم نحو الخصخصة، وهو ما يحرم عددًا كبيرًا من الأطفال من نيلهم تعليمًا جيدًا، ويصبح التعليم حكرًا على ميسوري الحال.
فيما يضطر معلمون ما زالوا على رأس عملهم إلى العمل في أكثر من مدرسة، لتأمين دخل مالي أفضل، لكن ذلك يؤثر على أدائهم وقدرتهم في إعطاء الدروس.
علي الحسن، معلم في مخيم “الكويتي” ببلدة حربنوش بريف إدلب، قال لعنب بلدي، إنه لم يتم تحسين الوضع المادي للمعلمين، فالتعليم في السنوات المقبلة لن يكون أحسن حالًا مما هو عليه اليوم.
نقص في المستلزمات
تنقسم المدارس في الشمال السوري إلى مدارس مدعومة من المنظمات، وأخرى مدعومة من مديريات التربية (تعرّف عن نفسها بأنها مستقلة) ومن حكومتي “الإنقاذ” و”المؤقتة”، ومدارس غير مدعومة من أي جهة.
تعاني المدارس من قلة الكتب، وضعف الكوادر، ونقص كبير في اللوجستيات التعليمية والمنح المالية في مدارس القطاع العام.
كما لا تتوفر مدارس في بعض المخيمات، بينما يعد وصول أطفال هذه المخيمات إلى المدارس المحيطة أمر ًاصعبًا، من ناحية التكلفة المالية وعدم توفر وسائل نقل مناسبة.
ويوجد في مخيمات شمال غربي سوريا 213 مدرسة متوزعة على 168 مخيمًا، بحسب “وحدة تنسيق الدعم”، بينما يبلغ عدد المخيمات حوالي 1500 مخيم، منها عشوائية وأخرى نظامية، كما يوجد ما يعرف بتجمع المخيمات، وهو عبارة عن عدة مخيمات متجاورة في منطقة محددة.
مدير التربية والتعليم في إدلب، أحمد الحسن، قال لعنب بلدي، إن الاحتياج إلى الكتب المدرسية هذا العام ارتفع بتزايد عدد الطلاب المقدّر بنحو 550 ألف طالب وطالبة جميعهم بحاجة لكتب جديدة، وهذا الأمر أدى إلى “فجوة كبيرة”.
وأوضح الحسن أنه عادة يتم تغطية جزء من احتياج الكتب بمذكرات تفاهم مع المنظمات عند اعتماد مشروع جديد، ويكون هنالك حيّز لوضع بند خاص بالكتب المدرسية، كما في السنة الماضية حيث تم تأمين عدد محدود بالتشارك مع بعض المنظمات الداعمة.
وبحسب “OCHA”، تفتقر نحو 700 مدرسة في إدلب إلى الدعم الأساسي بينما فقدت 100 مدرسة فعليًا الدعم في تموز الماضي، ما أثر على أكثر 110 آلاف طالب، و6500 معلم.
وأثر الزلزال الذي وقع في 6 من شباط 2023 على البنية التحتية التعليمية في منطقة شمال غربي سوريا، حيث تضررت 54% من المدارس و37% من أماكن التدريس والتعليم، ووصل عدد المباني التعليمية المتضررة إلى 822 مبنى، بحسب تقرير صادر عن منظمة “أنقذوا الأطفال” في 15 من حزيران 2023.
القادم ليس أفضل حالًا
بحسب الخبير التربوي ومدير “مركز مداد للدراسات”، الدكتور فواز العواد، لا شك أن استمرار العملية التعليمية في الداخل السوري مرتهن بالتمويل، وخلال السنتين الماضيتين تراجعت الموارد الداعمة لقطاع التعليم، وبنفس الوقت يوجد ازدياد بعدد السكان في مناطق شمال غربي سوريا، بسبب قدوم عائلات من مناطق السيطرة الأخرى، والمواليد الجدد.
وهناك عشرات آلاف الأطفال الجدد سنويًا يلتحقون بالعملية التعليمية، وبالتالي تحتاج العملية التعليمية إلى مزيد من التمويل، ومزيد من افتتاح المدارس والتجهيزات والكتب الدراسية ورواتب المعلمين، إضافة إلى تكاليف التدفئة والمياه.
الإحصائيات على الأرض متفاوتة بتقديرات المجموعات التي تقوم بمسح عدد الطلاب المتسربين في سوريا، لكن على الأقل لدينا ثلث الطلاب خارج العملية التعليمية، وهذه أرقام مرعبة ومخيفة، لأن ذلك يعني أن ثلث الأطفال يصبحون أميين دون تعليم، وهذا يخلق آثارًا نفسية واجتماعية على المجتمع السوري، وفق الدكتور فواز العواد.
وأضاف الدكتور فواز لعنب بلدي، أن الركن الأساسي بتماسك وحضارة وبناء المجتمعات ومستقبل أي مجتمع، مرتهن بوجود عملية تعليمية تضمن وجود جميع الأطفال دون استثناء في العملية التعليمية، وعندما يفقد المجتمع شريحة من أبنائه خارج العملية التعليمية، فـ”نحن في خطر عظيم”.
وبالنظر أيضًا إلى الجودة، نجد أن الأطفال يعانون من جودة العملية التعليمية لأسباب كثيرة، منها وجود معلمين ربما لديهم الحد الأدنى من الخبرة أو الشهادة التعليمية أو غير مؤهلين تربويًا، وهذا لا بأس به في حالة الطوارئ، لكن على المدى البعيد يؤثر على الجودة، لأن المعلم الذي لديه مؤهلات تربوية أعلى وتخصص في الرياضيات أو العلوم الاجتماعية، من المؤكد أنه أكثر قدرة على إيصال المعلومات في مادة تخصصه، وغياب المعلم المتخصص بسبب عدم تأمين الرواتب، يخفض من الجودة التعليمية.
وفي منطقة شمال غربي سوريا ستعاني العملية التعليمية مستقبلًا من انخفاض الجودة، إضافة إلى مشكلات بتأمين الكتاب والمستلزمات التعليمية المدرسية، وتأمين التدفئة ووسائل النظافة، وهذه العوامل المجتمعة كلها تجعلنا نقول إن الأطفال في المنطقة يستحقون مزيدًا من الاهتمام من مؤسسات المجتمع المدني المحلية والدولية، ومزيدًا من الدعم والتمويل لضمان استمرار العملية التعليمية بجودة جيدة وهذا أبسط حق لأطفال سوريا، بحسب فواز العواد.
شمال شرقي سوريا..
مناهج تشتت الطلبة وترسخ أيديولوجيا
يعكس وجود مناهج تعليمية متعددة في شمال شرقي سوريا، حيث تسيطر “الإدارة”، حالة التخبط والتشتت في القطاع التعليمي، ما يترك أهالي الطلاب أمام خيارات أحلاها مر، فأولها منهاج تعليمي تفرضه “الإدارة الذاتية” على معظم مدارس المنطقة، والثاني لحكومة النظام السوري التي تسيطر على قرابة 10% فقط من إجمالي مدارس محافظة الحسكة، كما يوجد منهاج من منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) لرعاية الأطفال.
لا تعترف “الإدارة الذاتية” بالمنهاج الذي يفرضه النظام السوري، كما سبق لها الإعلان عن حظر تدريسه في مناطق سيطرتها، وأغلقت عشرات المدارس والمعاهد التي تُدرسه، وبدورها تستمر حكومة النظام بتدريس منهاجها في مركزي مدينتي الحسكة والقامشلي وبعض القرى المحيطة بمدينة القامشلي، وترفض الاعتراف بمنهاج “الإدارة الذاتية”.
منهاج الدراسة لدى “الإدارة الذاتية” يعتمد على اللغات الرسمية الثلاث وهي العربية والكردية والسريانية، ويدرس كل مكوّن لغته الأم، بينما أقرّت هيئة التربية توجيه كل طالب أتم الصف الرابع الابتدائي إلى اختيار لغة أحد المكوّنات لتكون مادة ثانوية إلى جانب لغته الأم.
يتوافق منهاج التدريس لدى “الإدارة الذاتية” مع أفكار ورؤى وأيديولوجيا الأحزاب الكردية، صاحبة النفوذ الأكبر في هيئات “الإدارة”، كما أن بعض المواد تمتلئ بتمجيد زعيم حزب “العمال الكردستاني”، عبد الله أوجلان، بصفته “فيلسوفًا ومفكرًا وقائدًا عظيمًا”.
المنهاج خلق منذ سنوات ولا يزال إشكاليات و”بلبلة” بالنسبة لسكان شمال شرقي سوريا، حتى مع تعديلات وطروحات جديدة أجرتها “الإدارة الذاتية“، إذ اعتبره منتقدوه “مسيئًا لثقافتهم ودينهم، وداعمًا للانفصال، ويتحدث بلغة محلية لا تشمل جميع الجغرافيا السورية”، أحدثها احتجاجات وإضراب في مدارس مدينة منبج بريف حلب الشرقي، لتتراجع “الإدارة الذاتية” عن طرح منهاج جديد، منتصف تشرين الأول الحالي.
في المقابل، يرفض المنهاج الذي تطرحه حكومة النظام الاعتراف بالتنوع اللغوي في سوريا، حيث تشير المادة “4” من الدستور السوري الحالي (دستور عام 2012) إلى أن اللغة العربية هي الرسمية للبلاد، ويمنع التدريس باللغات الأخرى انطلاقًا من هذا النص.
ويفيض المنهاج التعليمي الرسمي بأفكار حزب “البعث” (الحاكم في سوريا)، وما يتوافق مع رؤيته وأيديولوجيته، كما تتبنى مديرية المناهج رواية النظام السوري وسرديته للأحداث، إذ تعتبر على سبيل المثال أن الثورة السورية التي انطلقت عام 2011 “مؤامرة ضد البلاد”، وتصف من يخرج عن مسار النظام أو يعارضه بـ”الإرهابي”.
عوز مالي وفوضى أمنية.. لا مستقبل للطلاب
تلقي الظروف الاقتصادية المتردية بثقلها على القطاع التعليمي سواء من حيث البنية التحتية أو رواتب الموظفين أو حالة الأهالي المالية، ما ينعكس سلبًا على واقع التعليم، إذ يبلغ الحد الأدنى لرواتب موظفي “الإدارة الذاتية” نحو 70 دولارًا شهريًا، بينما رواتب موظفي مناطق سيطرة النظام السوري نحو 18 دولارًا، وهي مبالغ لا تسد أدنى احتياجات العائلة.
كما يعاني السكان من دفع تكاليف في سبيل تأمين التعليم لأطفالهم، بدءًا من المستلزمات من القرطاسية والزي وصولًا إلى تكلفة النقل إلى المدارس، في حين تكون التكاليف مضاعفة في حال أرادت العائلة تسجيل أبنائها في مدارس خاصة أو معاهد تقوية.
معلم في مدرسة تابعة لـ”الإدارة الذاتية” بمدينة القامشلي (طلب عدم ذكر اسمه)، قال لعنب بلدي، إن لديه ثلاثة أطفال في صفوف الثالث والخامس الابتدائي والسابع الإعدادي، صغيرهم يدرس منهاج “الإدارة الذاتية”، والآخران في مدرسة خاصة.
يسعى المعلم، الذي يعمل سائق “تاكسي” أيضًا، إلى إلحاق ابنه الصغير أيضًا بمدرسة خاصة خلال الأعوام المقبلة، حين تسمح الظروف المالية للعائلة، ليتلقى تعليمًا جيدًا، مع شعوره أنه أضاع من عمر طفله ثلاث سنوات في مدارس تعطي منهاجًا “مسيّسًا وغير معترف به” ولا يمنح تعليمًا جيدًا.
رغم تدريسه منهاج “الإدارة الذاتية”، يدرك المعلم أن سلبيات المنهاج واضحة للعيان، لافتًا إلى ضرورة تحييد السياسة عن التعليم لأن هناك أجيالًا على وشك الضياع، وأن الكثير من خريجي الجامعات في مناطق سيطرة “الإدارة” لا يعملون وفق هذه الشهادات.
وفق ست عائلات قابلتها عنب بلدي في مناطق متفرقة من القامشلي والحسكة والرقة ودير الزور، فإن أبرز المشكلات أمام تعليم أبنائهم هي:
- سوء الواقع الاقتصادي وعدم القدرة على تأمين مبالغ لسد احتياجات التعليم لأبنائهم.
- فوضى المناهج وتسييسها وعدم الاعتراف بها.
- حالة عدم الاستقرار الأمني وحدوث اشتباكات بين فترة وأخرى.
- ضعف بعض الكوادر التعليمية وغياب وسائل الشرح في المدارس.
- تدني رواتب المعلمين، ما يدفعهم للعمل بمهن أخرى، والانشغال بتأمين لقمة عيشهم.
- تحويل بعض المدارس إلى مقار عسكرية عند أي اشتباك (رغم إعادتها للخدمة لاحقًا).
رحاب السلامة، موجهة تربوية في بلدة الصعوة بريف دير الزور الغربي حيث تسيطر “الإدارة الذاتية”، اعتبرت أن الفوضى الأمنية في المنطقة لا تشجع على التعليم، وأن عدم الاعتراف بمنهاج “الإدارة الذاتية” عقبة أمام مستقبل الطلبة.
وقالت السلامة، لعنب بلدي، إن المادة العلمية ضمن المنهاج غير كافية، وإن المدارس “ليست مدارس”، فبنيتها التحتية متهالكة ومتدهورة، وتفتقر إلى أبسط الخدمات، حتى الحمّامات غير فعالة وغير صحية في معظمها.
لدى رحاب طالب في الصف التاسع وآخر في الشهادة الثانوية، قالت إنهما يفكران بالسفر بعد المرحلة الثانوية مباشرة، لضمات مستقبل تعليمي أفضل، وكسب علوم ومهارات وخبرات في بلاد أخرى، وتأمين مستقبل صحي آمن ومستقر.
اعتبرت الموجهة التربوية أنه لا مستقبل للأجيال في سوريا، وحتى لو توظف الطالب والخريج بعد إنهاء دراسته، فراتبه الشهري لا يكفي ثمنًا لشراء الخبز.
ولا ترى الموجهة أي جدوى من تحصيل أطفالها التعليم في مدارس شمال شرقي سوريا، لذلك تضعهم في معاهد خاصة، لتأمين جو تعليمي أفضل مما تقدمه المدارس، معتبرة أن الواقع التعليمي في المنطقة لا يؤهل الجيل أبدًا، إنما يقلل من وعيه وعلمه وإدراكه.
مناطق سيطرة النظام..
تعليم “تحصيل حاصل”
رغم وجود فروقات طفيفة، لا يختلف وضع قطاع التعليم المتهالك بمناطق السيطرة في سوريا، فحيث يسيطر النظام السوري تشمل المعاناة الكوادر والبنى التحتية، وتعاني المدارس العامة من أزمات متلاحقة ونقص في المستلزمات، ونقص بمازوت التدفئة والكتب المدرسية وقلة رواتب المعلمين.
منذ سنوات، صارت تشكل بداية العام الدراسي همًا وكابوسًا اقتصاديًا وعبئًا ماليًا على الأهالي، فهذا العام، ارتفعت أسعار مستلزمات المدارس أكثر من 100%، مقارنة بعام 2023، بينما لا تتجاوز قيمة الحد الأدنى للرواتب 279 ألف ليرة سورية (18 دولارًا أمريكيًا).
مناطق سيطرة النظام تشهد أيضًا تسرب أطفال من المدارس، بلغت نسبتهم 4.28% من إجمالي عدد الطلاب خلال العام الدراسي 2022-2023، و3.98% خلال العام الدراسي 2021-2022، وفق ما نقلته صحيفة “الوطن” المحلية عن وزارة التربية.
حسب القوانين السورية، تعد الكتب المدرسية مجانية لطلاب المرحلة الأساسية من الصف الأول الابتدائي حتى التاسع الإعدادي، بينما تباع للطلبة في المرحلة الثانوية، لكن تسليم كتب تالفة ومعاد تدويرها إلى الطلاب بات سمة عامة، وحالة سنوية متكررة، تدفع الأهالي إلى شراء كتب من المكتبات و”السوق السوداء”.
المشكلة أيضًا في أن استخدام الكتب المدوّرة لن يفيد الطالب، لأنه وبحسب المناهج الجديدة، يجب على الطالب أن يحل فروضه المدرسية على الكتاب الذي يتضمن السؤال وحلّه.
في 9 من أيلول الماضي، قال مدير عام المؤسسة العامة للمطبوعات، فهمي الأكحل، إنه تمت طباعة 13.7 مليون كتاب لهذا العام، وتم إنجازها بنسبة 90%، وذكر أن نسبة الكتب الجديدة تتراوح بين 50 و60% في حين أن الكتب المدوّرة تكون بنسبة 40 و50% حسب طبيعة كل محافظة ومدرسة ومادة.
معلمة متقاعدة في اللاذقية، قالت لعنب بلدي، إن العقبات أمام تعليم الطلبة اليوم لا تقتصر على رداءة البنية التحتية والكتب التالفة وتدني رواتب المعلمين، إنما نشأت منذ سنوات حالة وجود أشخاص غير مؤهلين للتعليم، بينما يتوجّه أغلب المعلمين إلى إعطاء الدروس الخصوصية لتأمين مردود مالي لهم، وصار الإعطاء بالمدارس “تحصيل حاصل”.
جيل أُمّي
تشهد الصفوف اكتظاظًا بالطلاب، إذ يصل عدد الطلاب في بعض الشُّعَب إلى نحو 40 و45 طالبًا، ما يصعب على المعلمين إيصال المعلومة للجميع والتأكد من أنهم فهموها، لأن لكل طالب مستوى معينًا من الاستيعاب.
مدرّس في مدينة جبلة لفت إلى أن بعض الأهالي منشغلون بهموم الحياة وتدبر تكاليف المعيشة، ومقصرون في الاهتمام بأطفالهم، وباتوا يعتبرون أن ابنهم يكفيه إتقان المبادئ الأولى من كتابة وقراءة وحساب، ثم يتوجه إلى سوق العمل لإعالتهم.
ورغم غياب الإحصائيات الدقيقة عن عمالة الأطفال، ذكر المعلم أن عشرات الأطفال على الأقل في مدرسة واحدة يعملون بعد دوامهم، والعشرات تركوا المدرسة بعد الصف السادس والسابع، وتوجهوا إلى أعمال مرهقة وشاقة في الصيانة والأسواق وغيرها.
وسط هذه الظروف، ومع استمرار سنوات النزاع، زادت أعداد المتسربين من المدارس، ووصلت نهاية عام 2022 إلى 22% من إجمالي عدد التلاميذ في مرحلة التعليم الإلزامي بمناطق سيطرة النظام السوري.
وزير التربية السابق، دارم طباع، ذكر أن الوزارة اتخذت عدة إجراءات للحد من ظاهرة التسرب عبر تشجيع التلاميذ باتباع “المنهاج ب” باختصار كل سنتين بسنة، وتقديم سلة غذائية شهرية بنحو 75 ألف ليرة سورية.
وأضاف أن هدف الوزارة هو الوصول إلى إعادة مليون متسرب إلى مقاعد الدراسة، وحتى ذلك التاريخ استطاعت الوزارة استقطاب 160 ألفًا.
وتشير تقديرات معلمين وإداريين قابلتهم عنب بلدي إلى أن نسبة التسرب ارتفعت، خاصة مع انخفاض الليرة السورية أمام العملات الأجنبية (الدولار الأمريكي يعادل 15000 ليرة سورية)، وتدهور الحالة المعيشية للسكان في سوريا، وارتفاع عدد الأفراد الذين يحتاجون إلى مساعدات إنسانية في سوريا إلى 16.7 مليون شخص.
موجه تربوي في مدينة حمص وسط سوريا، قال لعنب بلدي، إن ظاهرة التسرب تفاقمت منذ سنوات، ولم يعد بالإمكان السيطرة عليها، وبات العمل أو التفكير بالسفر الحل الإجباري أمام الطلاب وأهاليهم لمواجهة “الفقر المدقع”، لافتًا إلى أن استمرار التسرب ينذر بـ”جيل أُمّي”.
المعلم خالد الموسى المقيم في ريف درعا الغربي، قال لعنب بلدي، إن عدة معوقات أدت إلى تدني مستوى التعليم، وأسهمت في زيادة حالات التسرب، وأوقفت الطلاب عن إكمال مشوارهم التعليمي، في مقدمتها التغيير المستمر للمناهج، وعدم وجود كوادر تدريسية مؤهلة لإعطاء هذه النماذج، والنقص في الكوادر ذات الخبرة، والاستعانة بمعلمين حديثي التخرج أو طلاب جامعات.
وذكر الموسى أن مدارس مرحلة التعليم الإعدادي والثانوي في بلدة المزيريب بريف درعا دون معلمي رياضيات وفيزياء، وهذا النقص دفع الطلاب لتلقي الدروس الخصوصية المكلفة ماليًا للأسر، وأجبر بعضهم على التسرب بحثًا عن العمل، كما أن بعضهم يذهب للامتحان دون دراسة، فتكون النتيجة فشل الطالب.
حلول
الباحثة بمركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” حلا حاج علي، وضعت عدة توصيات لتحسين الوضع التعليمي في شمال غربي سوريا، وذلك في دراستها التي حملت عنوان “احتياجات جيل ما بعد الحرب.. الفجوات التعليمية في شمال غربي سوريا أنموذجًا”.
أبرز هذه النقاط هي:
- القيام بحملات مناصرة تستهدف عملية تقدير الاحتياجات، ودعم إنشاء آلية خاصة بتقدير الاحتياجات للمدارس، وتعزيز مسارات التمويل السوري للعملية التعليمية.
- تعزيز الأدوار المحلية في عملية الإشراف على العملية التعليمية لضمان ملاءمة القرارات الإدارية مع الظرف السوري وخصوصيته.
- فتح قنوات متعددة للتنسيق بين الفواعل.
- دعم وجود هيئات استشارية للعملية التعليمية.
- التأطير الرسمي لعملية تقدير الاحتياج وعدم اقتصارها فقط على تقديرات المنظمات.
وفق ورقة بحثية عن التعليم في محافظة الحسكة، اعتبر الباحث المتخصص بشؤون شمال شرقي سوريا سامر الأحمد، أن الواقع التعليمي في المحافظة على درجة عالية مـن التعقيد، ويهدد بأزمة للجيل القادم، بسبب التسرب من المدارس الـذي يهدد بارتفاع معدلات الأمية، وزيادة عمالة الأطفال، وانتشار الزواج المبكر، وتسييس جيل كامل.
واقترح الباحث عدة توصيات هي:
- على المشاريع التعليمية دعم الجهود الساعية إلى توحيد المناهج التعليمية، ووضع معايير تراعي ثقافة حقوق الإنسان، وثقافة التنوع بين المكونات.
- إعطاء الأولوية في برامج التعافي المبكر، ولاحقًا في برامج إعادة الإعمار، لإعادة تأهيل المدارس والمرافق التعليمية.
- تركيز برامج المساعدة على الحالة التعليمية في سوريا، ودعمها لوجستيًا وبرامجيًا.
- تشجيع الفاعلين في المنطقة على رؤية العملية التعليمية كخطوة أساسية في سبيل تحقيق التماسك المجتمعي بعيدًا عن الأدلجة السياسية.
- على سلطات الأمر الواقع الالتزام باتفاقية حقوق الطفل العالمية، بما يتوافق مع خطة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة عام 2030، التي تؤكد الالتزام بتوفير تعليم جيد وعادل وشامل على جميع المستويات، والتأكيد على أن تراعي المناهج الموجودة ثقافة حقوق الإنسان، وحقوق النساء، وحقوق المكونات الدينية واللغوية والإثنية.
- على الدول الفاعلة في سوريا الضغط على النظام السوري من أجل القبول بالدخول بمفاوضات برعاية مؤسسات الأمم المتحدة، لوضع معايير لتوحيد المناهج.
أما في مناطق سيطرة النظام فخلصت دراسة أعدها مركز “حرمون للدراسات المعاصرة” حول “التعليم ما قبل الجامعي في سوريا“، إلى أنه لا بد من النظر إلى توفير محددات العملية التعليمية واستقرارها للنهوض بها، لتأسيس منظومة تربوية تعليمية جديدة وحديثة.
ويجب البدء بالاستثمار في التعليم من خلال تجاوز نقاط الضعف والاستثمار برأس المال البشري، بوصفه أهم رافعة وأداة لنهضة المجتمع السوري.
أزمة تغذي الحرب
التسرب من المدارس أو عدم القدرة على الالتحاق بها أصلًا سيكون سببًا مباشرًا في تعرض الأطفال لأقسى أنواع الاستغلال في سوق العمل، وسيكونون مرتعًا خصبًا لتجارة المخدرات والأعضاء البشرية وتجارة الجنس واستغلالهم جنسيًا، وشيوع عمليات الخطف والاتجار بهم.
كما سيكونون في أسفل السلم الاجتماعي الذي تشكل فيه القيم ركيزة أساسية في تنشئتهم بشكل سوي، وخارج دائرة الإلزام الاجتماعي الذي يعد شرطًا موضوعيًا للاندماج الاجتماعي، وعاملًا حاسمًا في بناء أسرة والاستمرار بها.
كتلة بشرية هائلة تتسم بالأمّية المعرفية والاجتماعية، منشأة على قيم الشارع والجريمة المنظمة والتوحش في اقتناص الفرص ونيل أبسط الاحتياجات، وهذا ما يجعلهم تربة خصبة لشيوع جميع أنواع الجريمة من اقتتال وقتل وسرقة واغتصاب وغيره كثير.
وسيسهمون بشكل مباشر في تداعي خلية الأسرة التي تعرضت أصلًا لصنوف عدة من الكوارث والنوازل، وسيكونون الضحية والجريمة بآن واحد، وسنجد الآلاف منهم في السجون مستقبلًا، نحاكمهم ونحكم عليهم بعد أن كانوا ضحايا هذا العنف الطاغي.
أما فيما يتعلق بالمعلمين فإن الأمر الأساسي هو بحث هؤلاء المعلمين، الذين لم ينالوا فرصة عمل في سلك التعليم، عن فرص عمل خارج اختصاصهم وبعيدًا عن مهنتهم وخبراتهم، بغية تحصيل لقمة العيش بعد هذا التسرب الكبير وعجز المؤسسات الراعية عن دعمهم وتوفير أدنى احتياجاتهم المالية.
وهذا سيدمر الكادر التعليمي على المدى المنظور، وسيفقد هذا الوسط المحدود أصلًا أي روافد جديدة، حيث تكف الجامعات والمعاهد أصلًا عن توفيرهم وتدريبهم وتهيئتهم لهذه المهمة الصعبة.
وسيكون البديل كما حصل مرارًا شيوع التعليم الشعبي، الذي يغلب عليه طابع الارتهان لمؤسسات أو فصائل ذات طابع ديني مشيخي أو فصائلي، وهذه الهيئات تخرج أفرادًا محدودي الرؤية، وفي الكثير من الحالات مشوهي التصورات والأفكار، ما يعيد المأساة ويعمقها لدى جيل موزع بين الشوارع وزواياها المعتمة والمتخمة بالفساد، وبين تعليم مشيخي فصائلي يعيد تشكيلهم على نحو يغذي الحرب الدائرة والمصالح المتصارع عليها.