عن ظاهرة اعتقال النظام لمؤيديه

  • 2024/10/20
  • 1:01 م
أحمد العسيلي

أحمد عسيلي

لا يكاد يمر علينا بضعة أشهر إلا ونقرأ عن اعتقال النظام لأحد مؤيديه، أو أحد أفراد حاضنته الشعبية، بعض الأحيان تكون الأسباب واضحة ويكون سياقها مفهومًا لنا، ومتماشيًا مع خبرتنا في العيش مع هذا النظام، كانتقاد الأحوال المعيشة مثلًا، أو التعبير عن السخط من قرار ما، أو السخرية من شخصية نافذة بالسلطة، حتى لو كانت من خارج دائرة المحرمات، وأحيانًا كثيرة تبقى الأسباب غامضة، لا نستطيع سوى التكهن وسماع الإشاعات والأقاويل، والدوران في حلقة مفرغة من التساؤلات والتحليلات، لفهم سلوك هذا النظام وطريقة إدارته للبلاد.

الأمثلة عن تلك الاعتقالات كثيرة جدًا، كاعتقال أحمد إبراهيم إسماعيل وعلي داوود ولمى عباس وبشار برهوم، والقائمة تطول، طبعًا غير حالات الموت المفاجئ أو حوادث السيارات أو حالات الانتحار، مع كل ما يرافقها من إشاعات عن تصفيات متعمدة قام بها النظام بنفسه، وكالعادة تبقى الأسباب الحقيقية غير معروفة، ما يغرق “السوشيال ميديا” والجلسات الخاصة بكم هائل من الإشاعات.

هنا لا نتحدث عن الصراعات العادية بين أجنحة السلطة، فهذه جزء أساسي ومستوعب جيدًا في كل الأنظمة الدكتاتورية، ويعرف كل من دخل هذه اللعبة أنه مهدد بالقتل بأي لحظة حتى من أقرب رفاق دربه، بل ما أناقشه هنا تحديدًا هي الاعتقالات التي تتم لأفراد عاديين، سواء كانوا مغمورين، أو معروفين في المجتمع، رغم أنهم لا يهددون السلطة، وليسوا جزءًا أساسيًا منها، بل هم أفراد يطيعونها بشكل أعمى، ومع ذلك لن يشعروا بالأمان، ويجدون أنفسهم بشكل مستمر تحت تهديد الاعتقال.

هذه الظاهرة سبق ولفتت نظر أحد المعارضين السوريين، وهو الممثل والكاتب عبد القادر منلا، وكتب حولها مادة بموقع “تلفزيون سوريا” في 15 من أيار الماضي، خلال حديثه عن إشاعات اعتقال بشار برهوم، وذكر في هذه المادة أن الولاء للنظام ليس كافيًا كي يشعر الإنسان بأنه في أمان، بل ربما يتعرض للاعتقال رغم كل طاعته وولائه.

وكتب منلا أن “الاعتقال بحد ذاته هو قيمة أساسية من قيم نظام الأسد، ولا يرتبط مباشرة بأسباب محددة، أو أفعال يقوم بها المواطن تدفع لاعتقاله”، وهو وصف دقيق لحالة معظم الناس المؤيدين في جميع الأنظمة الدكتاتورية، لكن شرحه لهذه الظاهرة لم يكن كافيًا لفهم هذا الجانب من سلوك النظام، فبالنسبة له: “الاعتقالات تتأسس فقط على شهوة السلطة وشهوة الإحساس بممارستها”.

هنا أختلف مع الكاتب، لأن هذه الاعتقالات ليست فقط لممارسة شهوة السلطة، بل هناك أسباب أكثر عمقًا لذلك، وهي ليست مجرد تصرفات عشوائية صبيانية، بل مقصودة ولها أهدافها التي سنحاول توضيحها أكثر خلال السطور التالية.

أولًا: هذه الظاهرة عربية وعالمية عامة

ظاهرة اعتقال المؤيدين بين فترة وأخرى، أو حتى قتلهم، هي ظاهرة عامة في جميع الأنظمة الشمولية، فلا يوجد نظام دكتاتوري أبدًا يعتقل فقط معارضيه، بل هو غالبًا أكثر شراسة مع مؤيديه، وخاصة في الأنظمة الدكتاتورية الصلبة (كنظام الأسد وصدام والقذافي)، لكنها توجد أيضًا في الأنظمة الدكتاتورية المرنة (كنظام مبارك وعلي عبد الله صالح سابقًا)، وإذا نظرنا إلى مصر في ظل نظامها الحالي (ونحن السوريين مهووسون دومًا بالمقارنة بيننا وبين مصر) فإن نظام السيسي لا يشذ أبدًا عن هذه القاعدة، كقيامه باعتقال الصحفي والممثل المسرحي ناصر عبد الحفيظ، وهو من أشد المؤيدين للسيسي، وتعمد نشر هذا الخبر في جميع وسائل الإعلام، مع أن الممثل شخصية ليست بهذا المستوى من الشهرة، أيضًا اعتقال محمود خميس عضو حزب “المحافظين”، وهو من الموالين للنظام الحاكم هناك.

لكن غالبًا ما تكون العقوبات في مصر أخف منها في سوريا، فالدكتاتورية المصرية كمعظم دكتاتوريات النخبة، غالبًا ما تكون أكثر مرونة وأقل همجية من الدكتاتوريات الفردية (وهذا ليس موضوعنا على كل حال، وإنما ذكرته كمثال عن حالة اعتقال المؤيدين).

أما على المستوى العالمي، فلدينا العديد من تلك القصص مثلًا في دولة الرعب كوريا الشمالية، مع أننا لا نعرف فعلًا مصداقية تلك القصص، لأن أكثرها تنقله وسائل إعلام عدوتها كوريا الجنوبية، لكن يبدو من خلال شهادات بعض الناجين من ذاك الجحيم، أنه يتم دومًا وبشكل متكرر اعتقال مؤيدي الرئيس الكوري، أحيانًا لأسباب واضحة تمس شخصيات معروفة نتيجة خطأ بسيط (كما روى جانغ سونغ في كتابه “القائد العزيز”) أو ربما لأسباب ليست واضحة تمامًا، أو تافهة وعشوائية (كما أخبرنا ساجي إيشيكاوا في كتابه “نهر في الظلام”)، والكتابان مترجمان للعربية.

ثانيًا: الحالة السورية

لنعد الآن إلى مصيبتنا في نظامنا هذا، وتحديدًا إلى طريقة تعامله مع حاضنته الشعبية والحالة النفسية التي تعيشها تلك الحاضنة. ففي تسجيل مصور مشهور، اكتسح منذ عدة سنوات وسائل التواصل الاجتماعي و”يوتيوب”، بعنوان “الدولة أمك خي بيك”، يتحدث فيها أحد أبناء الساحل، وكله خوف وقلق وحذر، عن شاب من قرية ما “طوّل لسانه” على الدولة، فوجد مقتولًا، وحتى أفراد ضيعته لم يتسلموا جثمانه.

أيضًا دعونا نتذكر جملة كانت منتشرة بشكل واسع في أوساط المعارضة بفترة المظاهرات السلمية بين 2011 و2012، تقول إن من يتظاهر بشوارع طرطوس، كأنه يتظاهر في فرع.

بعد هذا الاستعراض السريع، نأتي إلى الجزء المهم: ما الهدف؟

أي نظام سياسي، فردًا كان أم جماعة، حتى يستطيع التحكم بملايين البشر، يجب أن يشل قدرة هؤلاء البشر عن التحرك والفعل، ولا سبيل لإحداث هذا الشلل سوى بالخوف، فالجميع يجب أن يكون خائفًا ومرعوبًا، ومن يصاب بالخوف، سيفقد أي قدرة على التفكير أو التصرف، وسيفكر فقط بالحفاظ على حياته، حتى بشكل غير عقلاني ومرضي أحيانًا، وهذا مثبت علميًا، وكلما زاد الخوف، فقد الإنسان طاقته النفسية وأصبح أكثر سهولة للانقياد والطاعة، والعكس بالعكس، كلما زاد إحساسه بالأمان، ستصعب عملية إخضاعه وإذلاله، ووصوله إلى حد معين من الاستسلام والطاعة لا تعني أنه سيبقى عندها مدى الحياة.

لذلك فالمستبد بحاجة دومًا لتغذية هذا الخوف، كي يحافظ على وحش الرعب، وكلما اقتربنا أكثر من مركز السلطة، كان على الرعب أن يكون أشد وأقوى، وإذا كانت السلطة يمكن أن تتسامح قليلًا مع بعض المعارضين، أو مع بعض مواطنيها العاديين، فتترك لهم شيئًا من الحريات المضبوطة، لا تساهل أبدًا مع اليد التي تضرب بها، لأنها قوتها ومصدر وجودها وكينونتها ذاتها، لذلك هي بحاجة لإحداث شلل نفسي للمؤيدين يفوق الشلل النفسي للمعارضين، ويجب أن تكون أكثر قساوة وعنفًا مع مصدر قوتها، بل انظروا إلى جملة “الدولة أمك خي بيك” كم فيها من خوف ورعب ولا منطقية وعدم انتظام، وحتى القدرة على ربط الكلمات ببعضها قد أضاعها هذا المسكين، وهو نموذج متطرف لحالات موجودة بكثرة في الحاضنة الشعبية للأسد، ويجب أن يحافظ على هذه الحالة، هو كحالة “الضحاك” في الأسطورة الكردية “كاوا الحداد”، الذي قبله يومًا إبليس في كتفيه، فأصيب بمرض جعل ثعبانين ينموان عليهما، وهذان الثعبانان بحاجة دومًا لأدمغة الأطفال كي لا يسببا الآلام المبرحة للملك، وبالتالي ينشأ مرض السلطة، وحاجة هذا المرض الدائمة إلى ضحايا كي لا يفنى الملك.

فسلوك نظام الأسد ليس نابعًا من شهوة لممارسة هذه السلطة، بل هو حاجة ضرورية له ولأي نظام استبدادي، وهو مضطر لتغذية الرعب دومًا (الأفعى) كي يستطيع البقاء حيًا وقويًا، ولا يمكنه العيش دون هذا الخوف، وإلا سينهار هو ذاته، لذلك لا حل للقضاء على هذا الخوف، كي يعيش البشر بأمان، إلا بالطريقة التي اتبعها “كاوا الحداد”، وأتمنى أن يأتي هذا اليوم قريبًا كي يعيش الجميع بطمأنينة.

مقالات متعلقة

  1. من أين جاء كل هذا العنف الذي يشهده المجتمع السوري؟
  2. سعوديون ينشرون حسابات جديدة لمؤيدي الأسد في المملكة
  3. كيف يواجه بشار الأسد كل هذه الضغوط النفسية؟
  4. النظام يعتقل الناشط الذي دعا "الإرهابي الأسترالي" للذهاب إلى مكة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي