لهم العسل ولنا لسعات النحل

  • 2024/10/20
  • 12:20 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

لا تزال مساعي تركيا نحو الصلح مع النظام السوري، والجهود الدؤوبة لتسهيل انعقاد اللقاء المفترض بين الرئيس أردوغان وبشار الأسد، تجري على قدم وساق، وهي ليست فعلًا منعزلًا وخارجًا عن سياقه، بل تتويج لمسار طويل من اللقاءات الأمنية المباشرة والسياسية غير المباشرة بين الطرفين عبر وسطاء، اعترضها بعض التعثر في بعض الأحيان لكن لم تتوقف قط.

وربما تشكل التطورات الإقليمية المتعلقة بغزة ولبنان وإيران ونأي الأسد بنفسه عن هذه التطورات، امتثالًا لرسالة إسرائيلية صريحة أن وجوده ونظامه سيكونان ثمنًا لأي موقف قد يتخذه بهذا الشأن، ومحفّزًا لتسريع الخطى بالاستجابة لرغبة روسيا في إبرام تلك الصفقة مع تركيا، خصوصًا أن المواجهات الحاصلة اليوم في شمال غربي سوريا لا يمكن قراءتها إلا بكونها جزءًا من هذا السياق.

واللافت أن المعارضة السورية تبدو وكأنه أسقط في يدها، وعلت علامات الدهشة والمفاجأة وجهها، ربما لأنها كانت تتوهم دائمًا، ولا تزال، أن تركيا لن تتراجع عن مواقفها تجاه الأسد ونظامه، وأنها داعم دائم لمطالب السوريين، وكأن الدول تصوغ مواقفها وسياساتها لخدمتنا لا لخدمة قضاياها ومصالح شعبها.

بطبيعة الحال، يمكننا القول إن التحول الكبير في سياسات أنقرة تجاه الملف السوري يعود إلى سنوات طويلة خلت، وبالتحديد إلى العام 2015، بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة، التي أنذرت بتوتر شديد في العلاقات بين روسيا وتركيا اضطرت معه تركيا لتبريد التوتر والاعتذار عن الحادثة، بعد أن تفاجأت بقيام الأمريكيين بسحب بطاريات “باتريوت” وبفتور الموقف الأمريكي والمواقف الغربية من حلفائها في “الناتو”، الذين يفترض أن يكونوا داعمين لها في مواجهة الغطرسة الروسية.

هذه الواقعة تحديدًا شكلت لدى تركيا نقطة تحول كبرى في سياساتها، وخاصة تجاه المسألة السورية التي لم تحصل فيها قط على ضوء أخضر أمريكي وغربي حتى قبل التدخل الروسي في سوريا، لإحداث تحول كبير في موازين القوة بما يسمح حقًا بإسقاط الأسد ونظامه، ولا حتى بإنشاء منطقة آمنة للسوريين. وتعزز هذا التحول أيضًا بسبب موقف أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي من الانقلاب الفاشل في تركيا صيف 2016، الذي تبين أنه كان بدعم أمريكي ورضا أوروبي، فشهدنا بالتالي توجهًا وتحولًا كبيرًا في سياسات تركيا الدولية باتجاه الروس، الذين قيل إن تقديمهم الدعم الاستخباراتي للمخابرات التركية كان له دور في إجهاض الانقلاب.

ليست مشكلتنا هنا تلك السياسات التركية باعتبارها خيارات سياسية لدولة وجدت مصالحها على هذه الضفة، لكنها تصبح مشكلتنا عندما ندفع نحن كسوريين أثمان تلك السياسات، ونسدد فواتيرها من صندوق حياتنا وتشردنا وفرصتنا التاريخية في التغيير والخلاص من نظام استبدادي حنّط حياتنا لعقود طويلة.

كان سقوط مدينة حلب أواخر 2016 نقطة تحول كبرى لم تدرك المعارضة مفاعيلها وآثارها حتى وقت متأخر جدًا، وما كانت حلب لتسقط إلا على الأقل بغض طرف تركي عن سقوطها أو إسقاطها، وطبعًا لم يكن ذلك بلا مقابل استوفته أنقرة في عملية “درع الفرات” التي أطلقت في آب 2016، وفي تلك المقايضة كان السوري هو السلعة التي يتم تبادل المصالح والمنافع بها.

وفيما كان العمل جاريًا على مفاوضات سياسية في جنيف، التي توفر مظلة دولية لحل سياسي منصف إلى حد ما، اجترحت تركيا وروسيا مسارًا آخر لحل مغاير يقوم أولًا على تخميد الصراع العسكري عبر مناطق خفض التصعيد، وتقييد قرار وحركة الميليشيات المعارضة في مواجهتها لقوات النظام، ومن ثم تفريغ القرارات الدولية المتعلقة بالحل في سوريا من مضمونها عبر بدعة “السلال الأربع” واللجنة الدستورية، هذا المسار الذي لم يفضِ إلا إلى إنهاء الثورة السورية تمامًا وتحويل ميليشيات المعارضة إلى مجرد كتائب مرتزقة تؤدي الخدمات العسكرية استجابة للمصالح التركية في أماكن مختلفة من العالم دون أن ترسل تركيا جنديًا واحدًا من جنودها لتلبية تلك المصالح.

غير عابئ بما سمي “مناطق خفض التصعيد”، سيطر النظام على طريق “5M”، وأسقط العديد من البلدات في ريفي حماة وإدلب، بعملية انطلقت في نيسان 2019 وانتهت بداية آذار 2020 بسيطرته على مورك وخان شيخون ومعرة النعمان وسراقب، وهي المدن الرئيسة على هذا الطريق الحيوي. وبالطبع تزامن ذلك مع عملية أطلقتها تركيا في تشرين الأول 2019 على مناطق في شمال شرقي سوريا سميت عملية “نبع السلام”، فبدت المسألة وكأنها مقايضات جغرافية في خرائط السيطرة تتناسب مع مصالح القوى الدولية والإقليمية وأدواتها على الأرض السورية. هذه المقايضات كانت تصرف تكاليفها من أرواح ومصالح السوريين، وتلحق بهم وبقضيتهم الهزيمة تلو الأخرى لمصلحة تقدم النظام واستعادته لعافيته العسكرية وخريطة سيطرته، فانحسرت مناطق سيطرة المعارضة المسلحة كثيرًا للدرجة التي لم تعد معه ذات وزن مؤثر في معادلة الصراع بشكليه السياسي والعسكري.

الدول تبحث عمّا يحقق لها مصالحها، هذا مبدأ معروف في السياسة، وهو في نفس الوقت التبرير اللفظي المتداول دائمًا من قبل المعارضة السورية لتأويل وتفسير السياسات التي اتبعها الحلفاء منذ 2015 وحتى الآن في المسألة السورية، دون أن يكلف أحدهم نفسه السؤال عن مصالح السوريين الذين اتخذوا من هؤلاء الحلفاء ظهيرًا لهم، بل وأسلموا لها قيادهم بلا شرط ولا تحفظ، وعما إذا كان تحقيق مصالح تلك الدول يجب أن يكون بالضرورة على حساب طحن مصالح السوريين، وهو ما يكشف عن عمق الارتهان الذي وصلت إليه تلك المعارضة.

لتركيا مصالحها، نعم، وهي تعمل لتحقيقها بما تراه مناسبًا من وسائل، بما فيها اللقاء المرتقب بين الرئيس أردوغان ورئيس العصابة الحاكمة في دمشق. ونحن بالمقابل كسوريين لنا مصالحنا ولنا ثورة دفعنا فيها دماء ودمارًا لأجل أن نسترد حريتنا من معتقلات الطاغية، ولنا دولة ووطن نريد العودة إليه وبناء تلك الدولة على أسس مغايرة عن “الإقطاعية الطائفية” التي هي عليها الآن، فإن تقاطعت تلك الأهداف مع مصالح تركيا أو غيرها من الدول فنحن حلفاء لها ونستجيب ما أمكن لتلك المصالح دون أن نفرّط بحقوقنا ومصلحتنا بالتغيير وبناء دولة القانون والمواطنة المتساوية، وعلى حلفائنا بالمقابل أن يدعموا جهودنا بهذا الاتجاه بنفس الزخم الذي ندعم فيه مصالحهم لدينا.

ليس على تركيا بالقطع أن تنوب عن السوريين في مواجهتهم للنظام، لكن عليها بالمقابل أن تطلق سراح قرارهم كسوريين، وهم أدرى بالوقت المناسب للمواجهة والوقت الأنسب للتفاوض. يمكنها بالقطع أن تصالح النظام وتستعيد شهور العسل معه كيفما شاءت، ولكن ليس عليها ولا يجوز لها أن تفرض هذا الصلح على السوريين مهما خيّل لها أن مثل هذا الصلح في مصلحتهم، فالسوريون ليسوا قصّرًا، ويملكون الأهلية التي تخولهم وتؤهلهم لإدارة شؤونهم بأنفسهم دون قيّم عليهم.

هناك خريطة طريق دولية للحل في سوريا قبلت بها كل الأطراف وكل الفاعلين الدوليين، وبالتالي يمكن للسوريين التمسك بها والعمل وفق موجباتها بالوسائل السياسية والدبلوماسية وكذلك بالوسائل العسكرية عند الاقتضاء.

عندما لا تكون زهور بساتينك وجبالك مراعي لمناحلك، فلن يكون الطرح من العسل ملكًا لك، حقًا إنها قسمة ضيزى أن يكون العسل لأحدهم، وللآخر لسعات النحل فحسب!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي