عنب بلدي – علي درويش
لم تفلح المبادرات والمحاولات والمناورات السياسية، التي تخللتها منح وإغراءات مالية قُدمت للنظام السوري من قبل الدول العربية، في تقليص علاقته مع إيران.
ومنذ نجاح “الثورة الإسلامية” في إيران ضد نظام الشاه عام 1979، تطورت العلاقات الإيرانية مع النظام السوري على مختلف المستويات، رغم الفوارق الفكرية بين قادة “الثورة الإيرانية” وحزب “البعث” في سوريا.
خطوات متلاحقة من الطرفين وأحداث إقليمية، منها الحرب العراقية- الإيرانية (بين 1980 و1988)، والحرب الأهلية في لبنان (بين 1975 و1990)، والقضية الفلسطينية، عوامل جمعت الطرفين، بل جعلت الأسد الأب والابن يبتعدان عن العرب ويعاديانهم بالعديد من القضايا.
ما بعد “طوفان الأقصى”
في أيار 2023، وخلال كلمته في القمة العربية بمدينة جدة السعودية، وبعد سنوات من الحرمان من مقعد الجامعة، أكد رئيس النظام السوري، بشار الأسد، أمام العرب استمرار علاقته بإيران.
وقال حينها، “أما سوريا، فماضيها وحاضرها ومستقبلها، العروبة، لكنها عروبة الانتماء، لا عروبة الأحضان، فالأحضان عابرة، أما الانتماء فدائم، وربما ينتقل الإنسان من حضن إلى حضن لسبب ما، لكنه لا يغير انتماءه، ومن يغيره فهو من دون انتماء في الأساس”.
لكن عملية “طوفان الأقصى”، في 7 من تشرين الأول 2023، وما أعقبها من نأي النظام السوري بنفسه عن المشاركة أو مؤازرة غزة فيما تطلق عليه إيران “وحدة الساحات”، واتخاذ العرب خطوات قبل “الطوفان” وبعده باتجاه النظام، فتحت الباب أمام تساؤلات حول مدى إمكانية الابتعاد عن إيران أو التخلي عنها.
مدير قسم تحليل السياسات في مركز “حرمون للدراسات المعاصرة”، الدكتور سمير العبد الله، يرى أن علاقة النظام مع إيران متجذرة وتمتد لسنوات، لذلك “ليس من السهل عليه التخلي عنها”، خاصة أن إيران هي من لعبت دورًا في إنقاذه بعد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، ولم تبخل عليه بالدعم.
دعم إيران السخي منذ 2011، طوّر العلاقات مع النظام ووسع من نفوذ إيران العسكري والاجتماعي والاقتصادي في سوريا.
ووقّع الطرفان بين 2011 و2024 ما لا يقل عن 126 اتفاقية في مختلف القطاعات، مثل الطاقة والتجارة والصحة والتعليم والزراعة والصناعة والاتصالات والتمويل وغيرها، بحسب تقرير تحليلي لمركز “جسور للدراسات” في حزيران الماضي.
توزعت الاتفاقيات بين التنفيذ الكامل (48 اتفاقية) وعدم التنفيذ (4 اتفاقيات)، وما يستمر تنفيذه حاليًا (47 اتفاقية)، وتحت التنفيذ الجزئي أو المتقطع (25 اتفاقية) وغير معروف حالة التنفيذ (7 اتفاقيات).
وأوضح العبد الله، لعنب بلدي، أن النظام إذا تخلى عن إيران قد تنتقم منه، خاصة أنها ضحت بالكثير لأجله، وهو لا يستطيع المحافظة على وجوده ضمن محور إيران في المنطقة، لذلك بدأ يُظهر بأنه خارج هذا المحور.
وهذا ما حدث بعد “طوفان الأقصى”، حين التزم النظام الحياد تجاه المعركة، حتى بعد امتدادها للبنان وقتل إسرائيل لكثير من العناصر الإيرانيين واللبنانيين ضمن الأراضي السورية، بحسب العبد الله.
صحيفة “الشرق الأوسط” نقلت، في أيار الماضي، عن “مصادر في دمشق” أن الإيرانيين يرفضون تفهم الموقف السوري في الوقوف على الحياد تجاه حرب غزة، وعدم الانخراط في “وحدة الساحات”، ورفض فتح جبهة الجولان.
ويرى الإيرانيون أن بلادهم بذلت “الغالي والرخيص في سبيل الدفاع عن النظام السوري، بينما يستدرج النظام عروض الحوار الغربية كمكافأة له على موقف النأي بالنفس وعدم فتح جبهة الجولان، وهو أمر لا يمكن أن يقبل به الإيرانيون”، وفق الصحيفة.
بالمقابل، يرى بعض المسؤولين السوريين أن أي مكسب إقليمي لإيران سيكون حكمًا على حساب دمشق، و”في بداية حرب غزة كان النظام مرعوبًا من صفقة إيرانية- أمريكية”.
إسرائيل كثفت من قصفها على أهداف في مناطق مدنية وعسكرية داخل الأراضي السورية، خاصة بعد “طوفان الأقصى”، وركزت قصفها منذ 21 من أيلول الماضي على دمشق وحمص.
وأبرز الأسماء التي أعلنت إيران عن مقتلها خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة أو تحدثت عنها مراصد ووسائل الإعلام جراء القصف الإسرائيلي المستشار العسكري ماجد ديواني، وحسن جعفر قصير صهر حسن نصر الله، في قصف منطقة المزة بدمشق.
سبق ذلك مقتل مسؤول لبنان وسوريا في “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإيراني”، محمد رضا زاهدي، مع قادة آخرين، بقصف إسرائيلي استهدف مبنى مجاورًا للسفارة الإيرانية في منطقة المزة بدمشق، في 1 من نسيان الماضي.
وفي كانون الثاني الماضي، قتل بقصف إسرائيلي على مبنى في منطقة المزة بدمشق، خمسة مستشارين في “الحرس الثوري”، هم حجة الله اميدوار وعلي آقازاده وحسين محمدي وسعيد كريمي ومحمد أمين صمدي.
وبحسب التلفزيون الرسمي الإيراني، فإن أحد القتلى هو صادق أوميد زادة، رئيس استخبارات “فيلق القدس” في سوريا.
وفي 25 من كانون الأول 2023، اغتالت إسرائيل المستشار في “الحرس الثوري” رضي موسوي عبر قصف مكان إقامته بمنطقة السيدة زينب بدمشق، وتعتبر طهران موسوي من أكبر وأقدم مستشاري “الحرس الثوري” لدى وحدة الإسناد في “محور المقاومة”.
خيار متاح للنظام
الخيار المتاح للنظام في الوقت الحالي، بحسب سمير العبد الله، هو الإيحاء بالتنسيق مع إيران بالابتعاد عنها، وحتى التصعيد ضدها، حتى لو شكليًا، في محاولة منه لكسر جمود العلاقات العربية والغربية، والدفع للتطبيع معه، ورفع العقوبات عنه.
وبالنسبة للعلاقات مع تركيا وبقية الدول العربية، قد تتطور في حال قطع العلاقات مع إيران، “لكن المشكلة تكمن في غياب الثقة بين الطرفين”، رغم كل المحاولات العربية والتركية للتطبيع معه، وفق العبد الله.
فالنظام لا يثق بالدول العربية وتركيا، ويعتقد أنها تريد خداعه وإبعاده عن إيران ليضعف ثم تتخلي عنه، وكذلك الأمر للطرف الآخر، فهم يعتقدون بأنه سيوحي لهم بقطع العلاقات مع إيران بينما هي مستمرة على الأرض.
ونجح النظام السوري في الفترة الماضية باللعب على التحالفات وسيستمر بهذا اللعبة، وخاصة بعد ثبات نجاحها له بالتزامه الحياد بعد حرب غزة، وهو حاليًا بانتظار المكافأة على ذلك.
لذلك لن يورط النظام نفسه بالتصعيد، حتى لو كان هناك تصعيد مع إيران على أراضيه، وسيلعب ضمن الهوامش المتاحة له، “لا يتخلى عن إيران ولا يتخلى عن التقارب مع العرب وتركيا والغرب”.
الدكتور المتخصص في العلاقات الدولية فيصل عباس محمد استبعد، في مقال له في نيسان الماضي، أن يرضخ الأسد للضغوط الغربية أو أن يحد بشكل ملموس من علاقته مع إيران، إلا إذا “اندلع نزاع كبير بين إيران وإسرائيل في سوريا يمكن أن يهدد قبضة الأسد الضعيفة أصلًا على السلطة”، فضلًا عن أن الحسابات الإيرانية تجعل التصعيد الكبير مع إسرائيل أمرًا مستبعدًا.
وقال الدكتور فيصل في مقاله المنشور على موقع “مركز كارنيغي لأبحاث السلام”، إنه رغم ذلك هناك خطر بأن تؤدي الهجمات الإسرائيلية على المناطق الحدودية في جنوبي لبنان إلى اندلاع نزاع بين “حزب الله” اللبناني وتل أبيب.
النزاع حصل فعليًا بعد عملية تفجير أجهزة الاتصال اللاسلكية التي يحملها عناصر “حزب الله”، وتوسيع إسرائيل قصفها واغتيال قادة كبار في “الحزب” على رأسهم أمينه العام حسن نصر الله، وبدء التوغل البري في القرى الحدودية الجنوبية، وذلك منذ 17 من أيلول الماضي.
ورجح الدكتور فيصل أن تصاعد التوتر العسكري بين إسرائيل وإيران، قد يقود بشار الأسد في نهاية المطاف نتيجة نفوره “إلى النأي بنفسه عن مغامرات إيران الإقليمية”.
خطوات تركية عربية
أواخر العام 2022، بدأ مسار التقارب بين النظام السوري وتركيا برعاية روسية، ورغم محاولات موسكو المستمرة لتطوير المسار ورفع سويته فإن نقاطًا خلافية مهمة للطرفين ما زالت بينهما، وأبرزها، بحسب تصريحات الطرفين، الوجود العسكري التركي في سوريا.
أما بالنسبة للدول العربية، فقد فُتحت بوابة التطبيع وإعادة العلاقات مع كل من الإمارات والبحرين عبر الزيارات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارات عام 2018، تبعتها مبادرة أردنية عام 2023، هدفت من خلال التقارب مع النظام لحل ملفات أهمها اللاجئون وتهريب المخدرات.
عام 2023 كان حافلًا بالتحرك السياسي العربي تجاه النظام، أبرزها زيارة وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إلى دمشق، ولقاؤه بشار الأسد في نيسان، ومشاركة الأخير في القمة العربية بمدينة جدة، بعد غياب نحو 13 عامًا.