عنب بلدي – حسام المحمود
إثر العمليات العسكرية التي شنها النظام السوري بلا هوادة على المدن والبلدات والأحياء التي ثارت ضده وطالبت بالتغيير السياسي، فرّ الملايين إلى خارج البلاد، واستقروا لاجئين في بلدان أوروبية قادمين من مناطق مختلفة، وحاملين لثقافات وأنماط حياة ومتبنين لانتماءات فكرية واجتماعية متباينة.
جزء كبير من اللاجئين في أوروبا هم من أبناء العشائر السورية دون وجود نسبة تحدد هذه الفئة، فرغم تركز الحضور العشائري بصورة واضحة في مناطق محددة من سوريا، كمحافظات الجزيرة السورية وبعض أرياف حماة وحمص، فإن هذه المناطق لا تحتكر المكوّن العشائري في سوريا.
مع مرور الوقت، عبّر بعض أبناء العشائر عن تكاتفهم وتلاحمهم في بلدان الاغتراب، فظهرت تسجيلات مصورة لاحتفالاتهم وأفراحهم، وأخرى عكست حالة “تقوقع” وانغلاق، تتنافى مع مفهوم الاندماج في المجتمع المضيف.
عمار شاب سوري، خريج قسم الفلسفة في كلية الآداب بجامعة “دمشق”، غادر سوريا وأقام في تركيا قبل اللجوء إلى ألمانيا، أوضح لعنب بلدي أن اللاجئ السوري عند وصوله إلى البلد الوجهة يدرك حاجته إلى تعلم لغة هذا البلد، لكن فئة ما من أبناء العشائر لا تمتلك القدرة على تعلم اللغة كوسيلة اندماج، لأن لغتها الأم غير مبنية بشكل صحيح، فهي لا تجيد لغتها الأم رغم أنها ناطقة بإحدى لهجاتها مثلًا، وهذا يعوق عملية الاندماج، وفق رأي الشاب.
وفيما يتعلق بحالة التفاف أبناء العشيرة على بعضهم في بلد أوروبي، برر عمار هذه الحالة بالشعور بالخوف الذي يزول بالثقافة ووجود الوعي، فالقدرة على الاندماج تحتاج إلى الوعي، الذي يتطلب أن تكون اللغة الأم راسخة حاملة لمعانٍ متعددة يبنى عليها تعلم اللغة الجديدة، فالمسألة تشبه الترجمة.
القادم إلى بلد جديد ليتغلب على شعوره بالخوف من الفشل، قد يتجه لابن عمه أو ابن عشيرته لتشكيل مجتمع يمكنه التفاهم معه، لأن وعيه غير جاهز للتعامل المباشر مع أبناء البلد المضيف، إذ يرى عمار أن زيادة الانسجام مع المكوّن العشائري والمعارف المضمونة ما قبل اللجوء، تتعارض كليًا مع الاندماج وبناء حياة جديدة في بلد جديد.
“هناك فئة من اللاجئين تعيش على الفطرة ولإرضاء الاحتياجات الأساسية فقط، ومحاولة تغيير وعي هذه الفئة تتطلب وسائل وروابط وقياس إمكانيات الشخص للتغير والانفصال عن الجماعة”، وفق الشاب.
تضخيم الجريمة.. نسبة ضئيلة
رحلة اللجوء الطويلة عبر الجغرافيا لدى فئة من أبناء العشائر، لا تقطع الصلات بين من مضى ومن بقي، داخل وخارج الحدود، مقدار ما تشكّل امتدادًا، فيجد الوافد الجديد إلى هذا البلد ابن عم أو قريبًا من العشيرة في استقباله ضمن البلد المضيف.
في كثير من الحالات، يتوسع إطار المشكلات لتسافر عبر الحدود، وتنقسم المشكلة بين طرفيها إلى مسرحين، الأول في البلد الأصلي، والآخر في المكان الجديد الذي انتقل إليه أفراد من طرفي الخصومة ربما.
في شباط الماضي، وفي حي كروزبرغ في العاصمة الألمانية، نشأت مشاجرة بين عائلتين أوقعت ثلاث إصابات، كامتداد لاقتتال عشائري حصل في مدينة الطبقة، غربي الرقة، شمال شرقي سوريا، وتسبب بمقتل ثلاثة أشخاص وإصابة رابع.
وتعود جذور هذا الاقتتال بين عشيرتي “الناصر” و”المغلطان” إلى عام مضى، نتيجة خلاف على أراضٍ زراعية وقع فيه قتيل من “المغلطان”، وفق ما نقله موقع “نورث برس” المحلي.
الخلاف الذي أوقع ثمانية قتلى من طرفيه وجد طريقه أيضًا إلى بلد اللجوء وتسبب بثلاث إصابات.
وتنظر المجتمعات المضيفة، والألماني منها تحديدًا، إلى التكتلات الكبيرة التي تقوم على أساس عائلي بعين الريبة، وترى فيه نواة لتهديد الاستقرار المجتمعي، فبحسب مادة نشرتها قناة “DW” الألمانية الناطقة بالعربية، تحت عنوان “العشائر الإجرامية.. الواقع والأحكام المسبقة”، فإن مصطلح “العائلات العربية الكبيرة” إشكالي وحوله خلاف كبير في ألمانيا.
وفي الوقت الذي تسبب به قليل من أبناء العشائر بمشكلات في المجتمعات المضيفة، ترفض الباحثة في علم الإجرام، دانيلا هونولد، تصنيفات مثل “العشيرة” أو “عائلة كبيرة”، لأن ذلك يسبب تركيزًا على مجموعة إثنية معيّنة، وبالتالي يقود إلى التمييز، كما أن استخدام مصطلحات كهذه يؤدي إلى سحبها على كل الهياكل الاجتماعية بعيدًا عن أي مكون إثني.
وفي ظل تصدّر العشائر العربية في ألمانيا متابعات الدوائر الأمنية والإعلامية، أصدر وزير العدل الألماني، ماركو بوشمان، في حزيران 2023، قرارات لمكافحة جرائم العشائر بطرق غير تقليدية، تشمل مصادرة ممتلكات.
وفي الوقت نفسه، أشارت وزارة الداخلية الألمانية الاتحادية إلى عزمها دعم الولايات في مكافحة جرائم العشائر، معتبرة أن تلك العشائر تثير حربًا خفية في الظل بالعمل في أنشطة الجريمة المنظمة.
وفي آب 2023، وبعد اندلاع مشاجرات جماعية في منطقة الرور الألمانية بين عائلات سورية ولبنانية، أبدت وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، نية لترحيل أقارب العشائر و”العائلات الإجرامية”، حتى لو لم تتم إدانتهم، وفق ما نقله “المركز السويدي للمعلومات” حينها.
وفي الوقت الذي يركز به الإعلام الألماني على “جرائم أبناء العشائر” بصورة تضخمها عما هي عليه في الواقع، ذكر تقرير لموقع “مهاجر نيوز” المعني بأخبار وقضايا المهاجرين، في تموز الماضي، أن نسبة جميع الجرائم المزعوم ارتكابها من قبل العشائر في برلين وشمال الراين وويستفاليا وساكسونيا السفلى، تتراوح بين 0.17 و0.76% من إجمالي الجرائم.
إعادة إنتاج
وفق بحث بعنوان “القبيلة اللاجئة وتحولات البنية والدور”، صادر عن مركز “حرمون للدراسات”، ففي حالة القبائل اللاجئة من دير الزور وريفها إلى مدينة أورفا التركية، توجد لدى هذه القبائل قدرة على إعادة إنتاج ذاتها في بيئة مشابهة للبيئة الأصلية، ففي أورفا بنية قبلية متجاورة مع بنية حضرية، وهو تجاور يضفي سمات قبلية على المجتمع الحضري، وسمات حضرية على المجتمع القبلي.
وبحسب البحث، فإن البنية العشائرية لا تتجلى في معرفة الفرد لانتمائه القبلي فحسب، بل تتجاوزها إلى تكاتف في الملمات وإلى تصنيفات للعشائر ترفع بعضها وتنزل بعضها، وفق معايير خاصة لكل فرد أو جماعة، وليس انتقاء ظواهر معيّنة من الماضي وصرف النظر عن أخرى سوى أسلوب من أساليب الاستذكار الذي يحاول تثبيت حاضر مرغوب بتأصيل منتقى من ماضٍ هو أقرب إلى تركيب مصنوع منه إلى واقع.
عالم الأنثروبولوجيا، ريتشارد تابر، يقول، “يشتهر أفراد القبائل في بعض أجزاء الشرق الأوسط بجهلهم وعدم مبالاتهم بالدين، وفي حالات أخرى يشتهرون بإخلاصهم الصارم، إن لم يكن المتعصب، للإسلام، هناك بعض الحقيقة في هذه الصور النمطية، على الأقل كأساس لرسم التباين بين القبائل في المناطق المختلفة، لكنها مع ذلك مبالغ فيها، والاستثناءات كثيرة”.
ويشير البحث إلى رغبة كثير من أبناء القبائل في إعادة إنتاج التمظهر القبلي في بلد اللجوء، وهي إعادة لم تكن مفصولة عن سياق الظرف السوري، وهذا الوضع النازع للاستقرار يلزم عنه الحاجة إلى كيان يعبر عن الهوية الاجتماعية، لا يمكن للقبلي أن ينفك عنه، لأن هويته كأي هوية ذات بعدين، جماعي وفردي، ولكن في حالة القبلي، فالبعد الأول يغلب على الثاني، لتأتي العودة إلى الانتماء القبلي نتيجة طبيعية للوضع الجديد الذي تضافر في صنعه فقدان الأمل بحل قريب، وتراجع الخطابات الوطنية، واتخاذ قرار باعتبار بلد اللجوء موطنًا جديدًا.