tag icon ع ع ع

خالد الجرعتلي | علي درويش | جنى العيسى

على طول الشريط الحدودي بين لبنان وسوريا البالغ 375 كيلومترًا، نشطت حركة عبور النازحين واللاجئين، هربًا من العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان، باعتبار سوريا الوجهة البرية الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها.

وعلى الجانب السوري من الحدود، تولّد الأزمات الفرص، حيث ينتظر نظام الأسد هوامش سياسية واقتصادية يمكنه التحرك خلالها، لتكون حكومته ومؤسساته شريكة في إدارة أزمات إقليمية، متطلعًا إلى الحصول على مساعدات تسد قليلًا من فجوات الاقتصاد المتصدع، وتدعم بنية النظام القائم على توزيع المنفعة بين أمراء الحرب.

ومع الأيام الأولى لبدء النزوح من لبنان، انقلب النظام السوري على شروطه المسبقة لإعادة اللاجئين السوريين، فبعدما مانع عودتهم على مدار سنوات إلى سوريا، بحجة غياب البنية التحتية وضرورة البدء بإعادة الإعمار قبل استقبال العائدين، توجهت الحكومة لتقديم التسهيلات لمئات الآلاف من السوريين واللبنانيين الواصلين إلى الحدود.

لكن غياب الإمكانيات الخدمية والوضع الاقتصادي المتردي وحالة الأمن، وكذلك قدرات المؤسسات السورية، قد لا تمكن من استيعاب أعداد كبيرة من النازحين.

كما أن العمليات العسكرية في لبنان، واستهداف إسرائيل معابر برية على الشريط الحدودي بين سوريا ولبنان، أثرت على الحركة التجارية المحدودة أصلًا في سوريا، مع صعوبات تفرضها العلاقات المتوترة مع دول الجوار السوري، وقيود العقوبات الغربية التي كان المسؤولون السوريون يجدون في لبنان منفذًا للالتفاف عليها.

وفي حين لا يمكن التكهن بمستقبل الجبهة السورية عسكريًا، فإن تأثير الحرب في لبنان بدأ يظهر اقتصاديًا في سوريا، ويرى خبراء وباحثون أنه قد يكون للمساعدات أثر إيجابي بالنسبة للنظام الذي وُصِم خلال السنوات الماضية بسرقتها وتقييد وصولها إلى مستحقيها على أسس سياسية، لكن عودة اللاجئين وضرب شرايين التجارة مع لبنان قد تترك أثرًا سلبيًا في الاقتصاد السوري.

سوريا.. ثقب المساعدات الأسود

قبل نحو عامين، بدأت الأمم المتحدة وجهات دولية التعامل مع النظام السوري مجددًا فيما يتعلق بإيصال المساعدات إلى السوريين، عقب اتهامات تكررت للنظام، باستغلال المساعدات، وعدم إيصالها لمستحقيها.

تنامي الاتهامات لم يثنِ هذه الأطراف عن آليات إيصال المساعدات عبر النظام خلال العامين الماضيين، أبرزها تلك التي وصلت إلى سوريا عقب زلزال شباط 2023، ثم تلك التي بدأ الحديث عنها منذ أيلول الماضي، والمتعلقة بالنازحين من سوريين ولبنانيين، عبروا الحدود من لبنان نحو سوريا.

وفي 8 من تشرين الأول الحالي، دعا المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، إلى إطلاق نداء لتأمين 324 مليون دولار لمساعدة جميع الفارين من لبنان إلى سوريا.

جاء ذلك خلال زيارة أجراها غراندي إلى دمشق، التقى خلالها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، ووزير الخارجية، بسام صباغ، ومسؤولين سوريين آخرين، لبحث سبل دعم الوافدين الجدد عند دخولهم إلى سوريا، وفق ما ذكره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).

وفي 2 من تشرين الأول، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم تمويل طارئ وبشكل فوري بقيمة 500 ألف يورو للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، لدعم عمليات الاستجابة الخاصة بالفارين من لبنان باتجاه سوريا.

ووفق ما ذكره الاتحاد عبر موقعه الرسمي، فإن “المساعدة المالية ستلبي الاحتياجات الإنسانية في سوريا لمدة ستة أشهر”.

نازحون من لبنان إلى سوريا يكملون طريقهم سيرًا على الأقدام بعد قصف إسرائيل معبر "المصنع"- 4 من تشرين الأول 2024 (AP)

نازحون من لبنان إلى سوريا يكملون طريقهم سيرًا على الأقدام بعد قصف إسرائيل معبر “المصنع”- 4 من تشرين الأول 2024 (AP)

سجل حافل

في تشرين الأول 2022، أصدر “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية السوري” و”البرنامج السوري للتطوير القانوني”، تحقيقًا تضمن وثائق كشفت أن الأمم المتحدة قدّمت نحو 137 مليون دولار أمريكي من إنفاقها على المشتريات لشركات سورية، أصحابها من منتهكي حقوق الإنسان ومنتفعي الحرب، ومن الأشخاص المقربين من النظام المدرجين على لوائح العقوبات الغربية، وغيرهم من المرتبطين بالنظام السوري، بين عامي 2019 و2020.

وبحسب التحقيق، ذهب ما يقارب من ربع أموال الأمم المتحدة التي تم تحليلها إلى الشركات المملوكة لأشخاص فرضت عليهم الولايات المتحدة الأمريكية أو بريطانيا عقوبات بسبب صلاتهم بالنظام السوري، أو تورطهم في الصراع.

ومن هؤلاء الأشخاص: هاشم العقاد، سمير حسن، فادي صقر، سامر فوز، أحمد صابر حمشو، علي حمشو، عمرو حمشو، رانيا الدباس.

وأضاف التحقيق أن ما يقارب 47% من إنفاق الأمم المتحدة على المشتريات في عامي 2019 و2020، ذهب إلى شركات ذات مخاطر “عالية” أو “عالية جدًا”، بما في ذلك المنتفعون من الحرب والأشخاص الخاضعون للعقوبات، وحلفاء النظام البارزون، بعد استبعاد الموردين الذين لم يتم الكشف عن هوياتهم لأسباب “أمنية” أو لأسباب “تتعلق بالخصوصية”.

بعد أشهر مرت على التحقيق الذي حلل انتفاع النظام من المساعدات في سوريا، وقع زلزال مدمر جنوبي تركيا، وشمال غربي سوريا، أسفر عن آلاف القتلى والمصابين، إلى جانب دمار كبير في البنى التحتية، ما جعل المساعدات تتدفق إلى سوريا من كل حدب وصوب على مدار أشهر لاحقة.

ورغم تدفق المساعدات إلى مناطق سيطرته منذ البداية، أسهم النظام في عرقلة دخول المساعدات إلى شمال غربي سوريا، وتأخيرها، وصولًا إلى ملامح صفقة بدت نتائجها واضحة في اليوم الخامس للزلزال، عبر مجموعة قرارات متزامنة، دخلت بموجبها المساعدات، وأعفت واشنطن النظام من حزم عقوبات محددة بموجب قانون “قيصر” لستة أشهر.

المساعدات تبقي النظام

لا توجد أرقام فعلية قد تقرّب الصورة حول ماذا تشكل المساعدات في اقتصاد الظل لدى النظام السوري، لكن مراقبين يعتقدون أن المساعدات تشكّل أحد أسباب استمرار النظام حتى اليوم.

مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية” والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، يرى أن النظام يعتمد بجزء من بقائه على سرقة المساعدات.

وقال شعار، لعنب بلدي، إن سرقة المساعدات ليست بالضرورة عملية مالية تصب في جيب الأسد أو في خزينة الدولة السورية، إنما هي “آلية تسييس” المستفيد الأول منها الطبقة الأقرب إلى النظام.

ويرى شعار أن النظام يحاول تسييس المساعدات دائمًا والاستفادة من ظروفها، وهو ما ينجح به دائمًا. ومن زاوية أخرى، يعمل على إبقاء الطبقة الداعمة له والمساعدة على بقائه سعيدة، من خلال السماح لها بالحصول على عقود توريد أو عقود خدمات.

وأشار شعار إلى تحقيق أصدره “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية” خلص إلى أن 31% من قيمة التوريدات الأممية من مناطق سيطرة النظام كانت من أشخاص معاقبين أمريكيًا أو بريطانيًا أو من قبل الاتحاد الأوروبي، وهو ما اعتبره فوائد الطبقة الداعمة للنظام من المساعدات.

ويرى الباحث أن المساعدات التي يجري الحديث عنها مؤخرًا هي أمر سلبي وإيجابي في الوقت نفسه، إذ ستكون هناك استجابة إنسانية في سوريا، خصوصًا أن الأموال التي كانت متاحة سابقًا كانت تنخفض بشدة.

وفي جانب آخر، لا يزال النظام يتعامل مع المساعدات الإنسانية بطريقة “ليّ الذراع”، التي تقوم على مبدأ واحد، “إذا أردتم إطعام الجائعين عليكم أن تطعموني أيضًا، ولن أسمح لكم بإطعام أحد بخلاف ذلك”.

"الهلال الأحمر السوري" يفرغ حمولة طائرة مساعدات إماراتية- 20 شباط 2023 (الهلال الأحمر السوري/ فيس بوك)

“الهلال الأحمر السوري” يفرغ حمولة طائرة مساعدات إماراتية- 20 شباط 2023 (الهلال الأحمر السوري/ فيس بوك)

النظام يستعد

شكّلت حماسة النظام السوري في استقبال الهاربين من لبنان تغييرًا في سياسته التي اعتمدها منذ سنوات، إذ لطالما رفض عودة السوريين متحججًا بغياب البنى التحتية في سوريا، وعدم القدرة على تحمل حوالي مليوني سوري يعيشون على الأراضي اللبنانية.

هذه الحماسة نابعة من استعداد النظام للاستفادة من الوضع الراهن، فعلى الصعيد الاقتصادي، سيلعب النظام على قضية استقبال النازحين واللاجئين، إذ يعتبرها بادرة حسن نية أمام المجتمع الدولي لكنه سيطالب بمقابل، وقد يكون المقابل بالنسبة له رفع العقوبات لتسهيل عملية استقبال النازحين، بحسب ما قاله الدكتور في العلوم الاقتصادية فراس شعبو، لعنب بلدي.

ويعتقد شعبو أن الحصول على التمويل وتلقي مساعدات أممية سيكون أولى نتائج استقبال النازحين، ومن المتوقع أن تُضخ ملايين الدولارات في سوريا، إن لم تكن مئات الملايين، بهدف تسهيل تقديم الدعم للنازحين.

الاقتصادي فراس شعبو قال إن من المعروف عن النظام أن له سوابق كثيرة ليس أحدثها التلاعب بمساعدات الزلزال عندما وصلت مساعدات إلى سوريا.

من تصدير اللاجئين إلى استقبالهم

عام 2020، صدر الإعلان الأول عن مؤتمر لعودة اللاجئين السوريين من موسكو، وليس من دمشق، وبدأت معه الأحاديث الأولى الرسمية من قبل النظام السوري عن هذه القضية.

ومع أن المجتمع الدولي يعي أن النظام هو من يملك مفاتيح عودة اللاجئين إلى سوريا، وفق ما سبق وعلّقت به سفارة واشنطن بدمشق، لم يبدِ النظام أي اهتمام لهذا الواقع، واستمر بالمفاوضة على ملف اللاجئين، لرفع العقوبات، وتحقيق إعادة إعمار لسوريا تحت جناحه.

وفي تموز 2023، التقى الأسد مع وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، خلال زيارة الأخير إلى دمشق، وطرح موضوع اللاجئين السوريين في الأردن.

ربط الأسد مسألة عودة اللاجئين بالظروف المتردية في مناطق سيطرته، إذ قال إن عودة اللاجئين أولوية، مع ضرورة تأمين البنية الأساسية لهذه العودة ومتطلبات الإعمار والتأهيل بجميع أشكالها.

 

إن العودة الآمنة للاجئين أولوية، مع ضرورة تأمين البنية الأساسية لهذه العودة ومتطلبات الإعمار والتأهيل بجميع أشكالها، ودعمها بمشاريع التعافي المبكر التي تمكّن العائدين من استعادة دورة حياتهم الطبيعية.

رئيس النظام السوري بشار الأسد

 

ومع بداية عودة اللاجئين، ونزوح آلاف اللبنانيين إلى سوريا، زالت العوائق التي لطالما وضعها الأسد أمام مشروع العودة، وتتابعت موجات العائلات السورية واللبنانية باتجاه المعابر الحدودية الرسمية وغير الرسمية بين سوريا ولبنان بحثًا عن مكان آمن من القصف الإسرائيلي، خاصة بعد تصعيده على عدة مناطق لبنانية منذ 21 من أيلول الماضي.

سوريا صدّرت 6.8 مليون لاجئ، بحسب أرقام الأمم المتحدة، يتوزعون في 125 دولة حول العالم، ويُشكل الأطفال أكثر من 47% منهم، لكنها صارت اليوم وجهة لاستقبال اللاجئين السوريين من لبنان إضافة إلى عشرات آلاف اللبنانيين، خاصة من مناطق الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت وسهل البقاع.

لا قدرة في سوريا

يروج النظام لنشاطه في استقبال القادمين من لبنان عبر أدوات ومؤسسات تحت مظلته، سواء “الهلال الأحمر العربي السوري” أو “الأمانة السورية للتنمية” وغيرهما من المؤسسات.

الباحث بمجال الإدارة المحلية والاقتصاد السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي، لا يرى أن الوضع الاقتصادي والخدمات وحالة الأمن، وكذلك قدرات مؤسسات النظام السوري، تمكّنه من استيعاب أعداد كبيرة من النازحين اللبنانيين والسوريين العائدين من لبنان.

ولعل ذلك ما دفع العديد من هؤلاء إلى عدم الاستقرار في مناطق سيطرة النظام، والتوجه إلى دول الجوار أو إلى مناطق خارجة عن سيطرته، بحسب الدسوقي.

مناطق شمال غربي سوريا الخاضعة لسيطرة المعارضة، استقبلت حتى 10 من تشرين الأول الحالي حوالي 2700 سوري عائد من لبنان، فيما استقبلت مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” في شمال شرق سوريا 18 ألفًا و875 شخصًا.

وأوضح الباحث أيمن الدسوقي، لعنب بلدي، أن قدرة النظام على استقبال مزيد من اللاجئين مرتبطة بعدة اعتبارات، أهمها الاعتبار السياسي ومدى توظيفه ملف النزوح كورقة لكسر حالة العزلة المفروضة عليه، وفرض نفسه كشريك فاعل للمنظمات والدول في جهود الاستجابة لكارثة النزوح وتطويرها لصيغ مختلفة من التعاون.

ومن جانب آخر، لفت دسوقي إلى حجم الضغوط الممارسة على النظام من قبل حلفائه في “محور المقاومة” فيما يتعلق باستقبال النازحين اللبنانيين، وإلى أي درجة يمكن لذلك أن يكون عبئًا ويزيد مساحات الاحتكاك مع إسرائيل، خاصة إذا ما كان من بين النازحين عناصر من “حزب الله” اللبناني.

ولا يمكن تجاهل العامل الاقتصادي، وقدرة النظام على الحصول على تمويل من المنظمات الأممية والدول المانحة لمواجهة عبء النزوح، وفق الدسوقي.

تصاعد أعداد النازحين إلى سوريا

عرقلة العودة

عام 2020، عقد النظام “المؤتمر الدولي حول عودة اللاجئين”، وكان المؤتمر بدعوة ورعاية روسية، في قصر “المؤتمرات” بدمشق، وقدم المؤتمر على أنه “محاولة في سياق الجهود الحكومية المبذولة لوضع حد لمعاناة السوريين في الخارج الذين هجروا بفعل (الإرهاب)”، فسوريا “لم تتوقف عن دعوة أبنائها إلى العودة، وخاصة بعد عودة الأمن والاستقرار إلى بلدهم”، وفق الرواية الرسمية.

في المؤتمر ظهر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، للحديث عن ضرورة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم بعد الجهود المشتركة للقضاء على “الإرهاب”.

وبحسب تعليقات محللين وخبراء لعنب بلدي حينها، فالمؤتمر عبارة عن “خدعة” للالتفاف على العملية السياسية، ومحاولة استجداء “عطف” المجتمع الدولي، خاصة الدول التي تتحمل عبء اللاجئين في لبنان والأردن والعراق وتركيا.

وشهد المؤتمر امتناع العديد من الدول عن الحضور، منها دور مؤثرة في ملف اللاجئين السوريين، كتركيا والأردن ومصر، وأيضًا الولايات المتحدة (مع غياب أي علاقات رسمية مع النظام السوري) والاتحاد الأوروبي وكندا.

المؤتمر تبعته محاولات دول عربية اتخذت خطوات للتقارب مع النظام وفق مطالب، أبرزها إعادة اللاجئين السوريين وهو ما لم يتحقق، بل تعرض اللاجئون العائدون للاعتقال وفق ما وثقته منظمات حقوقية.

وأصدرت جهات ومنظمات حقوقية دولية تقارير حول عمليات اعتقال النظام للاجئين عائدين إلى سوريا، منها تقرير لمنظمة العفو الدولية حمل عنوان “أنت ذاهب للموت” في أيلول 2021، وتقرير “هيومن رايتس ووتش” الذي حمل عنوان “حياة أشبه بالموت” في تشرين الأول 2021، أي بعد حوالي عام من عقد مؤتمر “عودة اللاجئين”.

في 27 من أيار الماضي، أكدت منظمة العفو الدولية، أن منظمات حقوق الإنسان تتفق بالإجماع على أنه لا يوجد أي مكان في سوريا يمكن اعتباره آمنًا لعودة اللاجئين.

ومطلع حزيران، نقلت صحيفة “الشرق الأوسط” عن مصدر نيابي لبناني، أن نحو 1100 سوري ممن عادوا طوعًا إلى بلداتهم أعيدوا إلى لبنان بقرار رسمي من النظام، و400 منهم فقط قبلت عودتهم، لافتًا إلى أن النظام يصنف أغلب النازحين بأنهم غير مرغوب بهم ويشكلون خطرًا أمنيًا وديموغرافيًا على بقائه.

“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” وثقت، في تقرير صدر في 20 من حزيران الماضي، بمناسبة اليوم العالمي للاجئين، ما لا يقل عن 4714 حالة اعتقال لعائدين من اللاجئين والنازحين، على يد قوات النظام السوري، منذ مطلع عام 2014 حتى حزيران 2024.

وأشار التقرير إلى أن من بين 4714 حالة اعتقال، أفرج النظام عن 2402 فقط، وبقي 2312 شخصًا في المعتقلات، وتحول 1521 منهم إلى مختفين قسرًا.

حالات الاعتقال طالت أيضًا سوريين فارين من القصف الإسرائيلي، وخلال الفترة بين 23 من أيلول الماضي و2 من تشرين الأول الحالي، وثقت “الشبكة السورية” اعتقال ما لا يقل عن تسعة لاجئين سوريين معظمهم من أبناء محافظة ريف دمشق، على خلفية التجنيد “الإلزامي والاحتياطي”.

سوريون ولبنانيون في أثناء تجاوز الحدود عند معبر المصنع بعد قصفه - 4 تشرين الأول 2024 (رويترز)

سوريون ولبنانيون في أثناء تجاوز الحدود عند معبر المصنع بعد قصفه – 4 تشرين الأول 2024 (رويترز)

التصعيد يعطل المستوردات

معبر “جديدة يابوس- المصنع” بريف دمشق هو أبرز المعابر بين سوريا ولبنان، قصفته إسرائيل، في 4 من تشرين الأول، ما تسبب بأضرار، وقطع الطريق الدولي وبالتالي عرقل مرور السيارات.

وزير النقل اللبناني قال لوكالة “رويترز“، إن القصف أحدث حفرة بقطر أربعة أمتار وقطع الطريق الواصل بين لبنان وسوريا، الذي يستخدمه مئات الآلاف للفرار من القصف الإسرائيلي، ما أدى إلى تعطل الحركة عبره.

وفاقم قصف المعبر بين سوريا ولبنان من مشكلات التصدير الموجودة أساسًا بهذا القطاع في سوريا.

ويعد معبر “المصنع” أبرز المعابر الستة الشرعية التي تربط لبنان مع سوريا بريًا، والمعرضة للقصف الإسرائيلي بحجة تعطيل حركة مرور السلاح الإيراني من سوريا، التي بدورها تهدد أيضًا الحركة التجارية.

وسيكون للتصعيد الإسرائيلي في لبنان “أثر كبير في انسياب البضائع المصنّعة محليًا” خلال الفترة المقبلة، لا سيما أن الكثير من المواد الأولية الداخلة في صناعتها مستوردة، ما يمكن أن يرفع الأسعار إن لم يكن هناك حل لذلك، حسب عضو غرفة تجارة دمشق ياسر أكريّم.

وقال أكريّم لصحيفة “الوطن” المحلية، إنه نتيجة تخوف المستوردين (عن طريق لبنان أو غيره)، شهدت المواد الاستهلاكية المستوردة حاليًا انكماشًا كبيرًا.

ولأن لبنان مصدر رئيس للمشتقات النفطية المبيعة على الطرقات، أدت التوترات إلى قلة في هذه المواد، ما أثر على حركة النقل والعمل بالورشات الحرفية، خاصة بالنسبة للحرفيين الذين يشترون حاجتهم من المشتقات النفطية بالسعر الحر من السوق السوداء، وفق أكريّم.

المعابر الحدودية الرسمية بين سوريا ولبنان

رهن توسع الحرب

تمتد الآثار الاقتصادية للتصعيد وتوسع الحرب إلى سوريا ودول الشرق الأوسط بالعموم، وسط مخاوف من عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي.

اقتصاد حساس

كبير الاقتصاديين في المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية في المملكة المتحدة، أحمد كايا، قال في تقرير نشره موقع “بيزنس إنسايدر“، إن الحرب في الشرق الأوسط قد تؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار في الاقتصاد العالمي، وزيادة حالة عدم اليقين، والإضرار بالجهود الرامية إلى مكافحة التضخم، وفي النهاية تقليل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي.

وأضاف أنه بالنسبة لحكومة النظام السوري، تعد الأراضي اللبنانية منفذًا رئيسًا لعبور مستورداتها عبر المعابر البرية الرسمية أو المواني، فيما يعتمد عدد من التجار على لبنان في عدد من المسائل بشكل غير رسمي، منها الحصول على أموالهم بالقطع الأجنبي ليدخلوها إلى سوريا عن طريق التهريب.

ونظرًا إلى التقارب الجغرافي والسياسي بين البلدين، فإن توسع الحرب قد يؤدي إلى تدفق اللاجئين، واضطرابات اقتصادية، منها تأثيرات اقتصادية سلبية نتيجة تعطل التجارة والحركة عبر الحدود.

كما تعد حركة المعابر غير الشرعية بين البلدين نشطة جدًا في قضية البضائع المهربة، التي تمتلئ بها الأسواق المحلية، وفق كايا.

وفق تقرير نشر في “معهد الشرق الأوسط” في آب 2020، يعد الاقتصاد السوري حساسًا للتطورات في لبنان نظرًا إلى اعتماده الكبير على القطاع المالي اللبناني، فمنذ بداية الحرب في سوريا، فقدت البنوك السورية معظم قدرتها على الوصول إلى الأسواق المالية الدولية وانخفضت أحجام المعاملات بشكل حاد.

وكان الأفراد والمؤسسات السورية من أبرز المودعين في البنوك اللبنانية، على الرغم من أن الحجم الإجمالي للودائع السورية غير واضح، إذ لا يقدم البنك المركزي اللبناني تفصيلًا للودائع غير المقيمة حسب الجنسية.

ومن المعروف أيضًا أن رجال الأعمال السوريين الرئيسين كانوا يستخدمون أدوات لبنانية للتغلب على العقوبات الدولية والوصول إلى الدولارات في الأسواق العالمية، بحسب التقرير.

ترابط سوري- لبناني

لا يمكن فصل ما يحدث في لبنان وتبعاته على الاقتصاد السوري، الذي تأثر سابقًا بانفجار مرفأ بيروت وأزمة المصارف، وفق ما يرى الباحث السوري بمجال الإدارة المحلية والاقتصاد السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” أيمن الدسوقي.

وقال الدسوقي، في حديث لعنب بلدي، إن الأمر يرتبط اليوم بطول أمد المواجهات الدائرة وتوسعها وارتفاع أعداد اللاجئين الوافدين من لبنان إلى سوريا، علمًا أن الخدمات الأساسية غير كافية وجودتها متردية، والموارد الاقتصادية شحيحة، وبالتالي ستسهم حركة اللجوء في الضغط على الخدمات الحكومية وارتفاع أسعار المواد والسلع الأساسية.

ستكون الآثار واضحة أكثر مع في حال تعطلت سلسلة إمداد السلع والمواد القادمة إلى سوريا عبر لبنان، بما يزيد من الضغوط الاقتصادية على الدولة، والسكان السوريين في مناطق سيطرة النظام.

في هذا السياق، يعتقد الدسوقي أن هنالك بدائل متاحة للنظام، لكنها إما مكلفة اقتصاديًا ولا تخلو من مخاطر وتحديات لوجستية، أو تتطلب خطوات سياسية كالاعتماد على تركيا وما يتطلبه ذلك من دفع مسار التطبيع بين البلدين.

كما قد يكون لأحداث لبنان أثر على العملة السورية، بحسب الدسوقي، لكن حجمه ومستواه يتعلق بتأثير الأحداث على الوصول للعملة الصعبة وحجم الطلب على الليرة السورية.

أزمة خانقة

تعتمد سوريا بشكل كبير على لبنان في التجارة والإمدادات، خاصة في ظل العقوبات الدولية المفروضة على النظام السوري، وعرقلت الحرب في لبنان بالفعل هذه الإمدادات خصوصًا بعد إغلاق معبر “جديدة يابوس” الحدودي نتيجة غارة إسرائيلية.

ويعتمد الاقتصاد السوري على القطاع المالي اللبناني، إذ يحتفظ العديد من السوريين بأموالهم في البنوك اللبنانية، ولذلك فإن الاقتصاد السوري سيعاني أكثر في الفترة المقبلة، وفق الباحث الاقتصادي رضوان الدبس، لأن لبنان هو “الرئة والمتنفس الرئيس” لسوريا.

ويمثل لبنان المورد الرئيس للعملة الأجنبية، ويعد طريقًا لتهريب النفط من وإلى سوريا، كما أن مطار “بيروت” متنفس لمطار “دمشق”، وإليه تصل أغلب الرحلات ثم تنتقل إلى دمشق، وهو طريق رئيس لحركة المسافرين من وإلى سوريا.

وأشار الباحث إلى أن عمليات تهريب الأسلحة والأموال والمخدرات والنفط ومواد أخرى، تدار عبر المعابر غير الرسمية التي تربط سوريا بلبنان، والتي يسيطر عليها “حزب الله” من الطرف اللبناني وميليشيات تابعة للنظام في الطرف السوري.

ولذلك وجهت إسرائيل ضربات إلى المعابر استنادًا إلى معلوماتها الاستخباراتية حولها، لتحد من الفوائد الاقتصادية والعسكرية المتبادلة بين الجانبين، بحسب الدبس.

وإلى جانب استهداف معبر “جديدة يابوس- المصنع” بريف دمشق، في 4 من تشرين الأول الحالي، ركزت غارات إسرائيلية على المعابر التي تصل حمص بالأراضي اللبنانية وعلى طرفي الحدود، خاصة في منطقة القصير الحدودية، واستهدفت قرى القصر ومطربا وحوش السيد علي وجرماش.

ولا توجد بدائل لعمليات الاستيراد والتصدير بريًا، إلا عن طريق العراق، وهو بديل ليس رسميًا لكن النظام مضطر لاستخدامه، بحسب الدبس، بينما يوجد ميناء طرطوس الذي يمكن استخدامه كبديل بحري، لكنه تحت السيطرة الروسية ولا يسمح ما تسمح به الحدود اللبنانية من عمليات تجارية وتهريب.

ولا يزال التأثير بسيطًا، لكن مع استمرار الحرب لأشهر تظهر الآثار الاقتصادية بشكل جلي، بحسب الباحث، الذي توقع أن يمر “الاقتصاد السوري بأزمة خانقة”، تنعكس بمشكلات في قطاعي النفط والعملة، المتعرضين أصلًا لهزات متكررة، إلى جانب وفرة المواد الأولية وغيرها.

وربط الباحث توقعاته بالأزمة الخانقة بشكل العملية العسكرية الإسرائيلية وامتدادها داخل لبنان، خاصة إذا استطاع الجيش الإسرائيلي الاختراق والوصول إلى نهر الليطاني في لبنان، بينما قد تكون هدنة ما في لبنان مفتاحًا لتجاوز الصدمة الاقتصادية.

مقالات متعلقة