نفسيًا.. ما وراء التهليل لعملية إسرائيلية
أحمد عسيلي
ناقشنا في المادة السابقة العوامل النفسية التي أدت إلى الحالة الانفعالية التي أصابت بعض الناس بعد مقتل نصر الله، سواء من أتباعه الذين حزنوا على رحيله، أو من بعض السوريين واللبنانيين الذين هللوا لذلك الحدث، وتحدثنا عن الأسباب التي دفعت كثيرًا من الناس لهذا الأسلوب من التعبير الوجداني المتطرف من الطرفين فرحًا أو حزنًا، وناقشنا بعض الإشكاليات النفسية والسياسية التي رافقت تلك الحالة.
وفي هذا المادة سنناقش إشكاليتين، الأولى هي عدم الاهتمام بأن إسرائيل هي من قتلت هذه الشخصية، والثانية هي طريقة تلك التعبير من قيام بعض الناس بتقديم الحلويات والعصائر.
ناقشنا هذه المواضيع من وجهة نظر نفسية بحتة، وبكل حيادية، وبعيدًا عن أي توجه سياسي.
وقبل البدء باستكمال النقاش السابق، أرى أن من الواجب علينا الجواب عن سؤال مهم جدًا، يفوق بأهميته ربما كل النقاشات السابقة وهو، لماذا هذه القراءة النفسية ولماذا يجب أن تكون حيادية؟
الجواب أن رصد الحالة النفسية والعقلية والأخلاقية لشعوب منطقتنا مهمة جدًا لمعرفة حالتنا العامة، وأين نحن من بقية الأمم والشعوب، فحين تتدهور الحالة النفسية والأخلاقية لأي شعب، يتبع ذلك حتمًا تدهور عام شامل، وإذا كان النهوض السياسي أو الاقتصادي ممكنًا خلال فترة زمنية قصيرة، إذا توفرت العوامل الداخلية والخارجية لهذا النهوض (وهناك فعلًا دول شهدت هذه الانطلاقة بسرعة صاروخية كبعض دول جنوب شرق آسيا)، فإن النهوض النفسي والأخلاقي صعب جدًا، ويلزمه وقت طويل نسبيًا، ربما عدة أجيال، لذلك يجب أن نكون حياديين في هذا الرصد، كي نكون صادقين مع أنفسنا أولًا، وثانيًا كي نكشف مواطن الخلل، ونعمل على حلها بكل ما يتوفر لدينا من إمكانيات، وبأسرع وقت ممكن، كي لا يجرّ علينا هذا التدهور مصائب كثيرة يصعب علاجها لاحقًا، وهذه مهمتنا كسوريين عاملين في المجال النفسي، أن نرصد ونحلل حالتنا بشكل مستمر، ونقترح حلولًا لمشكلاتنا، فلن يقوم بالتأكيد بهذه المهمة أحد بالنيابة عنا.
عودة الآن إلى سؤال الإشكاليتين اللتين أردنا تخصيص هذه المادة لهما:
كيف يمكن تبرير التهليل لفعل قامت به دولة عدوة؟
في الفكر الشعبي يمكن أن يسلط الله ظالمًا على ظالم، ورغم أنه ليس لهذه الفكرة أساس ديني ثابت ومقدس، فلا آية قرآنية مؤيدة لها ولا حديث نبوي صحيح، لكنها قناعة شكّلتها العقلية الجمعية لشعوب منطقتنا، وهي ناتجة عن خبرات تاريخية عاشتها شعوبنا شهدت خلالها الكثير من الجرائم التي قُتل فيها مجرمون أيضًا، وخاصة في عالم السياسة والصراع على النفوذ والسلطة، فكل دكتاتور أو رئيس عصابة، يأتي على أشلاء من سبقه من الحكام المستبدين، فهي ناتجة إذًا عن تجربة تاريخية وقناعة شكّلتها تلك العقلية، وهنا لا يستطيع حتى الطب النفسي الحكم على صحة أو خطأ قناعة شعبية، بل يحترمها ويأخذها بعين الاعتبار، فكل المراجع العلمية، وعلى رأسها الدليل الأمريكي للأمراض العقلية (آخر إصداراته الخامس DSM5)، وهو المرجع الأساسي لفهم كل الاضطرابات النفسية، يذكر في كل حالة نفسية أو عقلية مرضية، بأنها يجب ألا تكون جزءًا من الثقافة والقناعة العامة لأفراد المجموعة، بل وظهر خلال السنوات الماضية فرع جديد بالطب النفسي يسمى الطب النفسي الاثني، وفيه يدرس الطبيب قناعات الشعوب المختلفة لكي يكون باستطاعته فحص المريض بشكل منهجي وفهمه بشكل أعمق، مع الأخذ بعين الاعتبار البيئة الثقافية والحضارية التي نشأ بها.
إذًا هي قناعة شعبية، لا تشفع للمجرم لو تم الانتقام منه من مجرم آخر، بل أحيانًا تزيد من الراحة النفسية لضحايا المجرم القتيل، وتعتبره دليلًا إضافيًا على غضب الله عليه وعلى القصاص منه.
ربما يرد إلى الذهن هنا صدام حسين، وكيف تعاطف بعض الناس معه، حتى من قبل أعدائه وضحاياه بعد إعدامه من قبل الحكومة العراقية التي وصلت إلى السلطة بدعم أمريكي، فما سبب الاختلاف في رد الفعل بين الشخصيتين، مع أن لكل منها أيضًا جرائمها ومؤيديها؟
الجواب أيضًا يتعلق باحترام عادات وعقائد الشعوب، وصدام أعدم صبيحة يوم العيد، وهذا التوقيت يعتبر القيام بإعدامات فيه محرمًا لأنه من الأشهر الحرم، وقد استنكر هذا الإعدام حتى مسؤولين في الخليج والسعودية خاصة، التي قصفها صدام سابقًا بالصواريخ، لأنها تريد أن تتبرأ من تصرف كهذا منافٍ لقيم شعوب المنطقة. وبالتالي، بعض التعاطف مع صدام هو نتيجة للإحساس بمس تلك المحرمات من قبل جهة المفروض أنها ملتزمة باتباع هذه القيم.
هنا نأتي إلى الإشكالية الأخيرة في قراءتنا هذه، وهي أسلوب التعبير عن الفرح بتوزيع الحلويات، وأعتقد أنها مفهومة جدًا وللجميع، فهي تجسيد لقناعة لها امتداد عميق في نفوس البشر، تعتمد على مبدأ العين بالعين والسن بالسن، لكن السؤال الأهم في هذه الإشكالية هو:
ألم يكن الأفضل المسامحة وعدم تطبيق هذا القانون في ظل تلك الظروف؟
بالطبع الحالة المثالية هي عدم القيام بالمثل، لكن لا يستطيع أي شعب المسامحة والغفران في أوقات الحروب، وقبل تحقيق العدالة والقصاص من المجرمين، فبالتأكيد لم يشارك جميع أهالي الجنوب أو الضاحية بالقتل أو الشماتة بالسوريين في أثناء معارك القصير أو القلمون، بل نستطيع القول إن الأكثرية، وحتى من الحاضنة الشعبية لـ”حزب الله”، استقبلت السوريين، وساعدتهم في الاستقرار، بغض النظر عن بعض الحالات القليلة التي رأينا تسجيلات مصورة فيها عنف موجه ضدهم، وهي رغم فظاعتها، تعتبر فعلًا حالات استثنائية، ومن جاء من أعضاء “حزب الله” إلى سوريا وشارك بالقتال الفعلي نسبتهم قليلة فعلًا، لكن لا يمكن نسيان الماضي قبل محاكمة هؤلاء والقصاص منهم أولًا، والمصالحة والحوار الحقيقي مع الطرف الذي أيدهم ثانيًا.
ولنا في الحالة الفرنسية- الألمانية خير درس، فجنود النازية اقتحموا باريس، وقام جنود هتلر بالتنكيل والقتل في العائلات الفرنسية، ورغم ذلك استطاع الطرفان طي صفحة الماضي وتأسيس تحالف جديد، لكن هذا الغفران أتى بعد هزيمة النازية، وبعد مقتل هتلر، واعتراف الألمان بخطورة الفكر النازي وتبرئهم العلني منه، وتحقيق شيء من العدالة للضحايا في محاكمات نورنبيرغ، وأيضًا بعد العلاجات النفسية الملائمة التي قدمت للضحايا، ولا تزال تقدم إلى الآن لبعض من تبقى منهم على قيد الحياة (وكنت لفترة زمنية جزءًا من فريق العلاج النفسي الذي كان يقدم لهؤلاء الضحايا المعمرين).
كل هذه الإجراءات ساعدت على طي صفحة الماضي، وعلى المغفرة، التي من دونها لم يكن من الممكن أبدًا تحقيق هذا النسيان، وهو ما لا يتوفر حاليًا للشعب السوري في ظروف الحرب هذه، ناهيك بظروف استمرار مشاركة الحزب في هذه الجرائم.
بالنهاية، لا يمكن أن ننكر أن ما حدث شكّل جرحًا في ذاكرة الطرفين، ونحن بحاجة لعلاج تلك الجراح لاحقًا، كي نستطيع بناء مجتمع سليم ومتماسك، لكن للأسف لا يمكننا البدء بتلك المرحلة قبل سقوط النظام الحالي ومحاولة إعادة الإعمار، ووقتها سنكون أمام مهام جبارة، ليست فقط لبناء الحجر، بل لبناء الإنسان والمجتمع.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :