موروث يجسد تراث المجتمع
“الهوسة” و”الدحّة” تواجهان الاندثار في الجزيرة السورية
عنب بلدي – ربا عباس
“ثوبك لا تقصره ولا تخله يطول
من تلبس لبس معقول ما تنغاب.
الكعدوا بالكواسر مو شرط خيرين
من تقعد بالمجالس لا تمد رجليك
اللي يتمطرح فشل لو قاعدين أحباب.
لا تاكل أكل ملهوق بالديوان
ترا اللقمة تذلك واحسبلها حساب.
مصران البطن يشبع بخبزة وماي
خل نفسك عزيزة لو غذاك تراب”.
وصف محمد عجاج القاطن في مدينة دير الزور السورية مقطع الشعر الشعبي السابق بـ”الهوسة”، معبّرًا عن حبه وأبناء منطقته لها، فهي جزء من تراث المنطقة، وموروث يشهد تراجعًا في البيئة البدوية التي نشأ فيها.
بدأ حب محمد (45 عامًا) مع “الهوسة” منذ الصغر، حين كان يحضر مع أبيه الأعراس والمجالس، وكان يشاهد ويستمع إلى شعراء يلقون كلمات عامية جزلة بلهجته الشّاوية يُطلق عليها “الهوسة”، وكان يرددها دون معرفته لمعانيها حتى كبر قليلًا.
تعد “الهوسة” من الفنون الشعبية التي تشتهر بها الجزيرة السورية، وتندرج تحت خانة التراث اللامادي، وكذلك “الدحّة”، وهي رقصة مميزة في المنطقة، لكنهما تواجهان الاندثار بعد تراجعهما خلال السنوات الماضية.
تطورت عبر الزمن
“الهوسة” قديمًا كانت عبارة عن ثلاثة أبيات بقافية أو جناس ورباط أو قفل (البيت الرابع والأخير الذي تقفل فيه الهوسة)، بحسب ما قاله محمد عجاج.
وأضاف أن هناك شعراء يقولون عشرة أبيات ورباطًا، ولا حرج عليهم في ذلك، لأن الشعر موجود وباقٍ ويتجدد، ويتطور بحسب متطلبات الزمن، ويشتهر بـ”الهوسة” عدد من الشعراء من بينهم كريم الحاتمي.
لم تعد تشهد “الهوسة” هذا الانتشار الواسع مقارنة بالسابق، وتكاد تندثر رغم أنها جزء مهم من التراث، وكانت تعبيرًا جليًا عن فصاحة الأفراد، وفق محمد الذي يأسف لعدم رغبة ابنه بتعلمها.
أهزوجة ونشيد شعبي
الأهزوجة وجمعها أهازيج، أو ما تعرف بالمفهوم الشعبي “الهوسة”، فن شعبي قديم قدم الإنسان العربي، جاء ليعبر عن مشاعر الناس من أفراح وأتراح، وما لبث أن تحول إلى سجل لعاداتهم وأدبياتهم وتقاليدهم، وجزء لا يتجزأ من موروثهم الشعبي، وفق ما قاله الباحث في التراث والكاتب الصحفي دحام السلطان.
ووصف السلطان الأهزوجة بـ”النشيد الشعبي بلغة العامة من الناس”، يردد في مناسبات متنوعة وكثيرة كطقوس الوفاة والاستعراض أو “العراضة”، وفي الأعراس ومراسم الاستقبال والوداع، والدفاع عن النفس، ومواسم الحصاد، وإنجاز الأعمال الريفية المختلفة لدى أقوام في حقبة من الزمن.
وأضاف الباحث لعنب بلدي، أن صاحب “القاموس المحيط” الفيروز أبادي، عرّف الهزج بالمحرك من الأغاني وفيه ترنم، وقد هزج إذا فرح وتغنى، وهي دلالة أخرى على أن الهزج فن عرفه العرب منذ الجاهلية وربما قبل ذلك، بأسماء مختلفة، ومن ذلك ما يعرف بترقيص الأطفال وأطلقوا عليه اسم الرجز الذي كانوا يرتجزونه في الحروب، والحداء الذي كانوا يحثون به الإبل على السير خلال حلهم وترحالهم.
وتعتمد الأهزوجة في إلقائها على المد الطويل للكلمات، مع إصدار الواضح الدال على التمديد، دون أن ترافقها آلات موسيقية، ويتم إلقاؤها بحسب عادات وتقاليد كل منطقة وبحسب لهجاتها المحلية، وفق الباحث.
وتأتي الأهزوجة لإثارة الحماسة وشحذ الهمم أو للتعبير عن الفرح الغامر في الأعراس، وترافقها الزغاريد دائمًا، كما تستخدم في حفلات التأبين أيضًا، وتسمى في المجتمع الجزراوي “الهوسة”، وهي لفظة تشترك فيها المنطقة مع بعض الأقطار العربية المجاورة، وفق السلطان.
وذكر الباحث أن “الهوسة” تعرف في المغرب العربي بـ”العيطة”، وفي دول الخليج يرددها البحارة باسم “النهمة”، وفي اليمن هي “الزامل” وجمعها “الزوامل”.
شكل من المقاومة
من “الهوسات” المشهورة “وان هلهلتي هلهلنالج، طقينا البارود قبالج، والعفن اللي ما هو من رجالج، يرحل ما يريد مقابلنا”.
ويرجع تاريخ هذه “الهوسة” إلى عام 1919، ويعود أصلها إلى معركة “النسورية” بين قبيلة “العكيدات” التي تسكن الريف الشرقي لدير الزور، والقوات الإنجليزية التي تقدمت إلى الداخل السوري لتحتل المحافظة، وتمكن فيها الثوار من قتل قائد الحملة الكولونيل مركي، الذي بقي سيفه في منزل قائد الثوار آنذاك فارس الجراح، وفق ما ورد في كتاب “شعب ومدينة على الفرات الأوسط” لأسعد الفارس.
الباحث دحام السلطان أوضح أن هذا الفن ارتبط ارتباطًا وثيقًا بالقضايا الاجتماعية والسياسية على مر التاريخ، إذ بلغ أوجه في فترة وجود المستعمر الأجنبي الذي جاء بعد “سايكس- بيكو”، ثم تنامى دوره وكان بالفعل شكلًا من أشكال المقاومة والنضال ضد المحتل، بعد تضمنه رموزًا وكلمات تحث على المقاومة والاستبسال في الدفاع عن الأرض، ولا يفهمها إلا أصحاب الأرض نفسها.
“اليوم اندثر هذا الفن في الجزيرة السورية، وأصبح لا وجود له إلا فيما ندر، وظهرت فنون دخيلة على مجتمعنا”، أضاف الباحث.
“الدحّة”.. رقصة النصر
يحن السبعيني حجاج خليف، من سكان قرى الرقة، إلى الوقت الذي كان يذهب فيه إلى الأعراس ليلقي الشعر ويرقص “الدحّة”، مستذكرًا حضورها في عرسه قبل 50 عامًا.
وقال لعنب بلدي، إنه كان نادرًا جدًا بين عرب المنطقة من لا يعرف كيف يرقص “الدحّة” أو يؤديها، لأنها كانت منتشرة جدًا في ذلك الوقت، معبرًا عن أسفه على تراجعها خلال السنوات الماضية.
وعن “الدحّة” قال الباحث دحام السلطان، إنها رقصة بدوية انتشرت في بعض مناطق المملكة العربية السعودية الشمالية، المتاخمة لحدود الأردن والعراق، وهي غير “الهوسة”، حتى وإن كان القاسم بينهما مشتركًا من حيث المسعى والهدف، الذي يكمن في بث وشحذ الحماسة والهمم لدى المقاتلين في الحروب والمعارك، وكانت تعرف قديمًا بـ”رقصة الحرب”.
وأرجع الباحث سبب تسميتها إلى أنه عند النصر بإحدى الحروب والمعارك على الأعداء، كان العرب يذبحون “الحاشي” وهو ابن الناقة الصغير، فيبدأ الرجال المنتصرون في الحرب بالتجمع حول “الحاشي” المراد ذبحه، ويُصدرون أصواتًا عالية لإفزاعه، قبل أن ينحره أحد الرجال بالسيف.
وبالنسبة لطريقة رقصها، ذكر الباحث أن الرجال يصطفون في صف واحد أو صفين (الكتف على الكتف)، ويصفقون ويرقصون أمام رجل واحد أو امرأة واحدة بالسيف، ويسمى/تسمى بـ”الحاشي”، إذ يأخذ الشخص في الوسط دور ابن الناقة الصغير.
ويغني الشاعر الموجود في منتصف أحد الصفين قصيدته الشعبية البدوية، التراثية، ويردد الصفّان مضمون بيت الشعر المتفق عليه سلفًا بالتناوب ويُسمون بـ”الرّدادة”، وغالبًا ما يكون البيت هو التالي “هلا هلا به يا هلا.. لا يا حليفي يا ولد”، وفق السلطان.
وأوضح أن “الدّحة” تمارس الآن في مناسبات الأعراس والأعياد وغيرها من الاحتفالات عند البدو، وهي بالمحصلة فن شعبي يجمع بين فنون الشعر والرقص والأهازيج.
خدعة الحرب
حول نشأة “الدحّة” قال الباحث السلطان، وبحسب ما ورد عبر المرويات الشفهية عن ألسنة المعمّرين، إن إحدى القبائل الغازية فاجأت قبيلة أخرى ليلًا، وكانت تفوقها عدة وعتادًا من الرجال والخيالة والهجانة (حرس الليل)، فوجد رجال القبيلة التي تمت الإغارة عليها أنه لا مناص من ابتداع الخديعة لدفع الخطر عنهم.
وأضاف أن رجال القبيلة اعتمدوا مبدأ “الحرب خدعة” لتضليل أعدائهم، وإعلان حجم قوتهم الضاربة أمامهم، فابتدعوا هذه الرقصة، وبدؤوا يخبطون أقدامهم على الأرض ويصفقون بطريقة منظمة، ثم أخذوا يغنون بشكل جماعي بصوت عالٍ وإيقاع سريع، لبث الرهبة والخوف والهلع في قلوب المعتدين، وهكذا انطلت هذه الخدعة على القبيلة الغازية، التي أيقنت أن عدد أفراد هذه القبيلة كثير، ولا قدرة لهم على مباغتتها، ومن هنا ذاع صيت “الدحّة”.
وأكد السلطان أن “الحاشي في الدحّة” جزء أساسي منها، ولا تكتمل من دونه، وذلك لأنها رقصة الحرب والفرح في الوقت ذاته.
للمرأة دورها
ذكر الباحث أن المرأة البدوية أخذت دور “الحاشي”، لإثبات قوتها والتعبير عن صلابتها وتحديها للمخاطر، وكانت تلك المرأة غالبًا من ذوات الشخصية القوية والدور القيادي عند العرب، وأطلق عليها “حاشي الدحّة” التي لا يمكن أن تقتل أو تجرح خلال مبارزتها أحد الفرسان، الذي بدوره يحاول النجاة من هذا المصير المُحرج له.
وفي حال اقتربت إحدى الفتيات من ساحة اللقاء، يأتي أحد الشبان ويمنعها من اللعب، ويسمى ذلك “ربط الحاشي”، ثم يواصل شاعر “الدحّة” استنهاض همم الشباب بعباراته، فيخلي الشاب الذي ربط “الحاشي” سبيلها، وتستمر الفتاة بالجلوس، حتى يمتدح الشاعر أخلاقها ويثني عليها، عبر قصائد طويلة وكثيرة، فتقتنع بالنزول لتكون حاملة للسيف بيدها وتبدأ بالرقص البطيء في أول الأمر، ثم يدخل الشاعر وهو يحمل عصا، ليرقص وكل منهما يحاول تجنب الآخر وعدم الاقتراب منه، وفق السلطان.
وأضاف السلطان أنه من أصول “الدحّة” أنه يحق للفتاة أن تجرح من يراقصها أو لربما قد تنتزع عقاله، إمعانًا في إهانته وإثبات تفوقها عليه، وكل ذلك يحصل بينما تعلو أصوات الصف، مرددة بشكل جماعي أصواتًا جهورية عالية مع تصفيق إيقاعي حاد ومتواتر، وبطبقة صوتية غليظة.
وأكد أن المجتمع كان ينظر إلى المرأة التي تلعب دور “الحاشي” نظرة احترام وتقدير وفخر، بل كانت الكثير من النساء يتنافسن للحصول على شرف القيام بهذا الدور، لأن ذلك يزيد من مكانتهن في أعين أبناء عشيرتهن.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :