يجتمع فيه العديد من الرجال من مختلف الأعمار والأعراق منذ تأسيسه عام 1944 على يدي صاحبه كربيس الأرمني، الذي لجأ من تركيا إلى سوريا جراء المجازر بحق الأرمن، فكان المقهى مكانًا لاجتماع الشيوخ والمثقفين والرؤساء أمثال صدام حسين وحسني الزعيم وأمين حافظ وغيرهم.
لا يزال “المقهى” حتى اليوم يحمل اسم “كربيس” ويعتبره كثيرون “سوريا مصغرة”، ويعد واحدًا من معالم أثرية تنضح بها مدينة القامشلي السورية، وتعكس تراث المدينة وهويتها.
مكان للاختلاط والحديث
يتردد علي حلو الحران من حي حطين في مدينة القامشلي إلى المقهى بانتظام منذ حوالي 15 عامًا، ليسترجع ذكرياته مع والده المتوفى، والذي كان يجلبه برفقة أعمامه إلى المقهى ليلعبوا الورق ويستمعوا إلى القصص، منذ كان عبارة عن قبو قديم.
وقال علي لعنب بلدي، إن والده كان يجلبه ليجالس الشيوخ والسياسيين والمثقفين وأبناء المنطقة، وذلك رغبة منه بأن يتعلم ابنه خبرات الحياة والزراعة وغيرها، إذ لم يكن هناك مقاهي كثيرة في الجزيرة السورية، و”كربيس” أقدمها وأكثرها شهرة.
المجيء إلى “كربيس” تحول إلى عادة للرجل الأربعيني، فهنا تعلم من والده ومن جالسهم احترام الكبار والاستماع إليهم ومناقشتهم، ومحبة الاختلاط والأحاديث، وتأهل ليكون قادرًا على الجلوس مع الرجال، حسب قوله.
يرى علي أن لشاي “كربيس” طعمًا ينضح بذكريات الزمن العتيق الذي يشبه أيام كان الرجال يجتمعون في المقاهي ويتحدثون عن السياسة والاقتصاد والزراعة، ويأخذون بالنصيحة لمشكلاتهم.
تأسس المقهى على يد بارون كربيس ميرابيان، وهو أرمني من مواليد قونيا عام 1894، توفي في سنة 1949 في مدينة القامشلي، بعد أن وصل إليها في منتصف القرن العشرين مع عدد من العائلات الأرمنية.
عقب وصوله، أسس مقهى صغيرًا يلعب فيه المرتادون إليه عدة ألعاب بالورق منها “ينيكيل”، “كونكان”، “سيكيس دوقوز” التركية، “بلوط”، “أوطزبير”، إضافة لطاولة الزهر والدومينو وغيرها.
يرتادها المخرجون ليعرفوا حكايا الناس
من بين رائحة معسل النراجيل المُختلط ورائحة القهوة المنبعثة في المكان، وفي زاوية أخرى وعلى طاولة مُتطرفة يجلس الكاتب المسرحي عبد الخالق البطاح، يكتب على ورقة معلومات متتالية ويتحدث إلى شاب عشريني حول موقف مرّ به أحد معارفه.
وينتقل بحديثِ آخر إلى عنب بلدي حول تاريخ قهوة “كربيس” التي تأسست في أربعينيات القرن الماضي، وكانت على شكل بناء أرضي بنفس مساحته الحالية، وبزاوية متطرفة واجهتها كلها من الزجاج ووقتها كانت أفخم مقهى في المدينة.
وأكمل البطاح، “غلب على زبائنه طابع الثراء فكانوا من الرؤساء والمزارعين وكبار العمر والسياسيين والفئة المثقفة في المجتمع، ولا يزال زبائنه حتى الآن لهم وزنهم”.
ويستذكر البطاح رفاقه الذين كان يجلس معهم في “كربيس” فمنهم من هاجر ومنهم من فقد حياته، قائلًا “كنا نأتي لنعد النصوص ونضع الخطة الإخراجية هنا، ومن أصدقائي الموهوبين الذين توفوا المخرج جمال جمعة في بداية 2011، وهاشم نجيب، إضافة لوليد عمر المخرج الذي لم يعد يستطيع القدوم، سمير يوشوع الذي هاجر إلى السويد، وأحمد شويش الذي هاجر إلى شمال العراق”.
ويعتبر البطاح أن الحياة عبارة عن مسرح، فكانوا يأخذون أفكار عملهم من خلال التجارب التي كان يتداولها المرتادون لهذا المقهى، فالفن هو رسالة مجتمعية خارجة من قلب هذا المجتمع، حتى وصل بهم الأمر إلى نشر الثقافة والأفكار بين من يتعاطى معهم ضمن المقهى، وذلك للنهوض بواقع البلاد الثقافي.
ويرى البطاح أن مقهى “كربيس” لا يزال يتميز عن جميع المقاهي التي انتشرت في البلاد، وتكمن نقطة تميزه في عراقته وعتقه وسمعته الطيبة، فضلًا عن الخدمة التي لم تتغير مذ بدأ بارتياد المقهى، إضافة لألفته التي تشعر المرء وكأنه في منزله.
سينما “دمشق” أيضًا
أسس كربيس سينما “كربيس” المعروف محليًا باسم سينما “دمشق” في القامشلي بعد وفاته، وكانت السينما على شكل قاعة كبيرة مسقوفة بألواح من التوتياء وبقيت على هذا الحال حتى عام 1950، حين جرى ترميمها إلى شكلها الحالي على يد كربيت ميرابيان، حفيد كربيس.
وكان ثمن بطاقة الدخول لا يتجاوز 20 قرشًا آنذاك ويقدم فيها عدة أفلام، ومسرحيات شارك في إحداها الفنان السوري دريد لحام، في مسرحية “كاسك يا وطن“.
وفي عام 1994، أجريت بعض التغييرات وتحولت سينما دمشق إلى صالة للأفراح والدبكات، وخسرت بشكل كبير صورتها التي ألفها عليه المشاهد الجزراوي، بعد أن كانت الأماكن تزدحم بمحبي أفلام الزمن الجميل.
ومنذ نزوحهم من تركيا إلى سوريا، كان الأرمن أصحاب صنعات ومهن وحرف أحيت المدينة إذ عملوا وعلّموا أبناء المنطقة العمل، فقد كانت المنطقة مصبوغة بطابع الزراعة بالكامل، وحتى الآن يوجد مقابل “كربيس” رجل أرمني يُصلح ساعات وهي مهنة توارثها ويورثها لأبنائه.
سوريا مصغرة
يفخر عادل هندي، وهو مصور سوري، بهذه الأماكن التي أصبحت نقطة علامة تراثية في المنطقة، “كشباب نرتاد المقهى ونرى أن من يزوره من فئات عمرية مختلفة، لأننا بحاجة لأماكن تراثية تقليدية قديمة تذكرنا بآبائنا وأجدادنا”.
ويأمل عادل أن يكون هناك منظمات وجهات رسمية تحافظ على مثل هذه الأماكن وترممها بحيث تحافظ على أصالتها، قائلًا “في كل جلساتنا العائلية يذكر آبائنا وأجدادنا الأماكن التراثية، مما شجعني لارتياد هذا المكان”.
ويشبّه عادل مقهى “كربيس” بـ”سوريا المصغرة” إذ يتوافد إليها مكونات مختلفة وبأعمار مختلفة، يتداولون الأحاديث المتعددة والمرتبطة بواقعهم ومنهم العرب، الكرد، السريان والأرمن وغيرهم زوار من خارج البلاد.
حاليًا، “كربيس” عبارة عن طابق ثانٍ فيه عدد كبير من الطاولات وفي الزوايا تجد الأراكيل والنقوش في كل مكان، إضافة لملحق تم افتتاحه مؤخرًا، وما إن تصعد الدرج ستسمع صوت الضحكات والصرخات والنقاشات الحادة بين الزبائن.
ويجتمع عادل مع رفاقه الشباب في هذا المقهى في كل يوم تقريبًا إما ليبحثوا أعمالهم أو ليتبادلوا الأحاديث، ويلعبوا ما يتوفر فيه من ألعاب لعبها أجدادهم قبلهم.