خالد الجرعتلي | يامن مغربي | هاني كرزي
لا يبدو واضحًا كيف ستنتهي الأمور بالنسبة للنظام السوري بعد تطورات الحرب الإسرائيلية على لبنان، وسواء انتهت هذه الحرب بالقضاء على “حزب الله” وتقليم أظفار إيران في سوريا، أو انتهت إلى ما يشبه ما حصل عام 2006، إذ لم تحسم المواجهة لمصلحة طرف، أو استطاع “محور المقاومة”، كما يطلق على نفسه، تغيير المعادلة التاريخية مع إسرائيل، وتحقيق انتصار واسع، وهو احتمال ضعيف، قياسًا بالدعم الذي تتلقاه إسرائيل من الولايات المتحدة ودول غربية، مع الأخذ بعين الاعتبار تفوقها العسكري، فإن ذلك يطرح العديد من التساؤلات.
هل تعاقب إسرائيل النظام على تحالفه مع “حزب الله” وإيران، أم يحصل على مكافأة “النأي بالنفس”، وهل يبحث النظام عن استعادة الدور، حتى في لبنان، إن نجح بنيل الثقة، وماذا عن موقف إيران حيال ذلك.
سيناريوهات متعددة لمصير النظام السوري، مع احتمالات توسع المواجهة نحو الأراضي السورية، وعدم اقتصار الأمر على قصف أهداف محددة، وترتبط هذه السيناريوهات بتاريخ النظام وانخراطه كليًا أو جزئيًا بالمواجهة الحالية وتسهيله تهريب السلاح، ولعب دور الإسناد، كما ترتبط بمدى استجابته لنصائح ومتطلبات يبدو أنه ينصاع لها دون إفصاح، مع احتفاظه بعلاقات خاصة مع إيران قد تفوق مستوى رغبته لجهة تغلغلها في مفاصل البلاد وإدارة شؤونه.
بعد مرور عام على أحداث 7 من تشرين الأول 2023 (7 أكتوبر) في غزة، توجهت إسرائيل شمالًا نحو “حزب الله” الذي ظل يناوشها عسكريًا على مدار العام الماضي.
وتزامنًا مع تصاعد وتيرة الأحداث في لبنان، كانت الضربات الإسرائيلية تتصاعد في سوريا أيضًا، خصوصًا في الأيام الماضية، فلا يمر يوم دون ضربة جوية أو مدفعية أو محاولات دفاعات النظام الأرضية التصدي لطائرات مسيّرة ترصد الأرض السورية.
وقبيل بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان، شنت إسرائيل عملية عسكرية في مدينة مصياف التي تبعد عن الحدود اللبنانية حوالي 40 كيلومترًا، ظهرت بداية على أنها ضربات جوية واسعة، أسفرت عن مقتل أكثر من 15 شخص، وإصابة آخرين.
العملية نفسها بدت وكأنها الرصاصة الأولى في حرب إسرائيل ضد “حزب الله”، وفق تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، نهاية أيلول الماضي، ونقلت فيه عن مسؤولين إسرائيليين وأمريكيين أن العملية لم تكن غارة جوية، بل كانت إنزالًا جويًا لقوات إسرائيلية على أرض مصياف السورية، شمال غربي محافظة حماة.
ووسط سيناريوهات عديدة قادت الأحداث المتسارعة نحوها، لا تزال سوريا في عين العاصفة، فقد تنتهي الحرب الإسرائيلية في المنطقة على الأراضي السورية، كما انطلقت منها، بينما يرى مراقبون أن سوريا قد تكون جزءًا من الحل، بقبول إسرائيلي.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف سيناريوهات الحرب الإسرائيلية في لبنان، وموقع سوريا منها، وتأثير هذه السيناريوهات على النفوذ الإيراني في سوريا، والآليات المتاحة أمام الأسد للالتفاف حولها.
سوريا في عين العاصفة
عقب اشتداد الضربات الإسرائيلية في لبنان، قالت وكالة “بلومبرغ” الأمريكية، إن “حزب الله” بنى منذ تدخله في سوريا عام 2012 قواعد وشبكة أنفاق معقدة على الحدود السورية- اللبنانية.
ونقلت الوكالة عن مصادر مطلعة على التحركات العسكرية قولها، إنه بعد اغتيال إسرائيل الأمين العام لـ”حزب الله”، حسن نصر الله، ستصبح كل من سوريا والعراق حليفين رئيسين في نقل الموارد إلى “حزب الله” في لبنان.
وقالت المصادر، إن إيران نقلت آلاف المقاتلين من العراق إلى سوريا خلال الشهرين الماضيين، كما ستحاول نقل آلاف آخرين إلى المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا، لتعزيز قدرتها على الردع.
إسرائيل تلاحق “حزب الله”
تهدف إسرائيل للقضاء على “حزب الله” اللبناني المدعوم إيرانيًا من الناحية التكتيكية، عبر عدة خطوات، أبرزها اغتيال السلسلة الهرمية لقادته، ثم تحييد القادة والعناصر الفاعلين، ثم التدخل البري لشل القدرات التكتيكية الدفاعية له، وهي شبكة الأنفاق التي تعتبر طرق تحرك وإمداد، وفق ما يراه الباحث في مركز “حرمون” للدراسات نوار شعبان.
وقال الباحث لعنب بلدي، إن إسرائيل بدأت بتطبيق نهج تدمير القدرات التكتيكية الدفاعية لـ”حزب الله”، من خلال التوغل البري جنوبي لبنان، وهذا التكتيك ستتبعه تل أبيب مع أنفاق “الحزب” داخل سوريا، لكنها ليست بالشبكة المعقدة كالموجودة في الجنوب اللبناني، وبالتالي لن تحتاج إلى التوغل العميق داخل سوريا.
بالمقابل، استبعد الصحفي المتخصص في الشأن الإسرائيلي خالد خليل، إنشاء “حزب الله” شبكة أنفاق جنوبي سوريا.
وقال خليل لعنب بلدي، إن التقارير عن وجود شبكة أنفاق لـ”الحزب” جنوبي سوريا تحمل شيئًا من التهويل الإعلامي، لأن الجنوب السوري لم يكن تحت النفوذ الإيراني بالمطلق بل هيمنت روسيا عليه.
وعلى مدار السنوات الماضية، كانت أي تحركات مشبوهة لـ”الحزب” جنوبي سوريا محل استهداف إسرائيلي، وبالتالي فإن محاولات استنساخ تجربة “حزب الله” من لبنان إلى سوريا فشلت، بسبب الضربات المتكررة.
وتنتشر في الجنوب السوري وحدة عسكرية تتبع لـ”حزب الله” تعرف باسم “ملف الجولان”، معظم عناصرها لبنانيو الجنسية، وهم المسؤولون عن إدارة ملف الجنوب السوري، وفق معلومات أوردها مركز “ألما” الإسرائيلي، في تقرير مفصل عام 2020.
ويتمثل دور هذه الوحدة في جمع المعلومات وتنفيذ الأعمال الأمنية ضد إسرائيل، وإنشاء بنية تحتية تشغيلية لجميع أنشطة “حزب الله” في الجنوب السوري، مع التركيز على المنطقة الحدودية مع إسرائيل.
تنتشر وحدة “ملف الجولان” ضمن 58 موقعًا ومنطقة جنوبي سوريا، وفق “ألما”، وتتوزع في 28 نقطة تتمركز فيها وحدة “القيادة الجنوبية” التابعة لها، إلى جانب 30 موقعًا آخر توجد فيها “خلايا” تابعة لـ”ملف الجولان”.
هل تتطور لاجتياح بري
عام 1974، توصلت الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لاتفاق بين الجانبين الإسرائيلي والسوري، قضى برسم خط فك الاشتباك بين الجانبين، الذي يُعرف بـ”يوندوف”، في محيط بلدة جباتا الخشب في القنيطرة بالجولان المحتل، وتقع شرقه الأراضي السورية وغربه إسرائيل.
وفي منتصف عام 2022، توغلت إسرائيل في الأراضي السورية شرقًا متجاوزة خط “يوندوف”، وأنشأت طريقًا أطلقت عليه “سوفا 53″، يخترق الأراضي السورية في بعض المناطق بعمق يصل إلى كيلومترين اثنين، بحسب ما أفاد به مراسل عنب بلدي، وتحدثت عنه وسائل إعلام إسرائيلية، وتكررت هذه التحركات على مدار العامين الماضيين.
التوغل الذي كان يهدف لإنشاء طريق داخل الأراضي السورية، من المرجح أن يبقى محدودًا، إذ استبعد نوار شعبان، حدوث احتياج بري إسرائيلي داخل سوريا لملاحقة “حزب الله”، مشيرًا إلى أن الوضع في لبنان مختلف عما هو عليه في سوريا، إذ تلاحق إسرائيل أنفاق “حزب الله” هناك لأنها تشكل خطرًا عليها، وهو ما يمكن ربطه بما يحدث في سوريا.
ويبلغ عدد المواقع الإيرانية في سوريا 529 موقعًا، هي عبارة عن 52 قاعدة عسكرية، إلى جانب 477 نقطة، بينها 20 موقعًا في القنيطرة، وفق دراسة لمركز “جسور للدراسات” نُشرت في تموز الماضي.
وكانت إيران تملك حوالي 34 نقطة عسكرية في القنيطرة، لكنها سحبت 14 نقطة منها لمصلحة القوات الروسية وقوات النظام، ويُرجح أن هذا الانسحاب جاء بناء على مطالبة إسرائيلية لروسيا بضمان عدم استخدام هذه المواقع في أي أعمال عسكرية باتجاه الجولان، في ظل التهديدات الإيرانية المستمرة بعد حرب غزة (طوفان الأقصى)، وفق “جسور”.
من جهته، قال خالد خليل، إن منطقة الجولان تعتبر خاصرة رخوة بالنسبة لإسرائيل، لذلك عملت خلال السنوات الماضية على توغلات محدودة تضمنت إزالة الألغام ورفع سواتر ترابية، لإحباط أي تحركات إيرانية، ما يعني أن هناك شبه سيطرة ويقظة إسرائيلية على الحدود مع سوريا.
وفي عام 2018، اتفقت إسرائيل مع روسيا على إبعاد الإيرانيين نحو 80 كيلومترًا عن الحدود مع إسرائيل، مقابل أن تسمح الأخيرة بعودة قوات النظام إلى خط فض الاشتباك برعاية روسية، ولكن خليل قال، إن التنسيق الروسي- الإسرائيلي تعرض للضعف، ويمكن القول إنه انهار بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، ووقوف إسرائيل إلى جانب المعسكر الغربي الداعم لكييف ضد موسكو.
هل تتبنى الأطراف تغييرًا في سوريا
منذ بدء الحملة العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، نأى الأسد بنفسه عن الانخراط بشكل مباشر في المواجهة، سواء بما يتعلق بالعمليات العسكرية واللوجستية، وحتى في خطابه الإعلامي.
تكشّفت طبيعة حالة النأي بالنفس بعد انتشار تقارير إعلامية عن أن الإمارات نقلت تحذيرات إسرائيلية للأسد بالابتعاد عن الحرب، وفق ما ذكره موقع “أكسيوس” الأمريكي عن مسؤول إماراتي في 9 من تشرين الأول 2023.
إسرائيل لم تتخذ قرارًا بعد
رغم أن حليف الأسد الرئيس في لبنان (حزب الله) دخل المعركة عبر ما أطلق عليها “جبهة إسناد”، أدت بنهاية المطاف إلى خسارته عددًا كبيرًا من قادة الصف الأول لديه، وإعلان إسرائيل عن عملية برية، بقي الأسد بعيدًا، وفق سياسة “النأي بالنفس”، سواء لعدم قدرته عسكريًا واقتصاديًا على الانخراط في الحرب من جهة، أو لتنفيذ النصائح التي وصلته من الإمارات وربما من أطراف أخرى.
المحللة السياسية المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط إيفا كولوريوتيس، قالت إنه حتى الآن، لم تتبنَّ إسرائيل خيار التغيير في سوريا، أو على الأقل تغيير النظام الذي يرأسه الأسد.
وأضافت لعنب بلدي أن التحرك الإسرائيلي في لبنان يتطلب من الجيش الإسرائيلي توسيع عمله الاستخباراتي والعسكري في الجغرافيا السورية، باعتبارها طريق الإمداد الوحيد للذخيرة والصواريخ وحتى المقاتلين لـ”حزب الله”.
وعلى الرغم من نفي “حزب الله” حاجته إلى الموارد البشرية، فإن اغتيال زعيم ميليشيا “الإمام الحسين”، ذو الفقار الحناوي (كانت منتشرة في شمالي سوريا وتعرف أيضًا باسم “حزب الله السوري”)، في الضاحية الجنوبية لبيروت قبل أيام، يؤكد أن “الحزب” اللبناني قد يضطر لسحب مقاتليه من سوريا، لتحصين جبهته الجنوبية في لبنان.
احتمالية سحب هذه القوات من سوريا قد تجنب النظام السوري مخاطر توسعة رقعة الحرب نحوه، وفق كولوريوتيس، إذ لا يبدو حتى الآن أن إسرائيل اتخذت قرار مواجهة الميليشيات التابعة لإيران في سوريا، نظرًا إلى عدم توجيه هذه الميليشيات هجماتها نحو شمال إسرائيل عبر الأراضي السورية، وانشغالها الحالي بإسناد الساحة اللبنانية.
وفي الوقت نفسه، لفتت المحللة السياسية كولوريوتيس إلى أن هذا النهج قد يتغير إذا أعطت إيران الأوامر لهذه الميليشيات بالانخراط في عمل عسكري ضد إسرائيل، وهو ما يعني سياسة إسرائيلية جديدة تجاه سوريا ونظامها.
من جانبه، رجح الباحث المتخصص بالشأن السوري في مركز “Century International” آرون لوند، أن تعني الحرب في لبنان المزيد من الضربات الإسرائيلية في سوريا، على الرغم من أن الإسرائيليين كانوا يهاجمون بالفعل في كثير من الأحيان.
وأضاف لوند لعنب بلدي، أن الغارة الإسرائيلية على منشأة مشتبه بها لإنتاج الصواريخ بالقرب من مصياف، في بداية أيلول الماضي، كانت واحدة من أولى الخطوات الإسرائيلية نحو صراع واسع النطاق في لبنان، ويمكن القول إنها تُظهر مدى الارتباط الوثيق بين البلدين، وكيف تمتد شبكة دعم إيران و”حزب الله” عبر الحدود الوطنية السورية.
ماذا عن إيران؟
لطالما اعتبر بشار الأسد حليفًا وثيقًا لإيران، حتى إن مبادرات عربية أطلقت بهدف انتشال سوريا بقيادة الأسد من الحضن الإيراني، وفق نهج “خطوة مقابل خطوة”، في تراجع واضح بالموقف العربي، خصوصًا السعودي، حيال جرائم الحرب التي ارتكبتها آلة النظام السوري العسكرية ضد المدنيين المعارضين.
هذه المبادرات لم تجد طريقها للتغيير، إذ لم تنعكس على النفوذ الإيراني في سوريا، لكنها رُبطت مرارًا بموقف الأسد المحايد مما يحصل حوله.
وبينما لم تبدِ إيران أي رد فعل ظاهر أمام محاولات إبعادها عن المشهد السوري، قد يكون الظرف القائم حاليًا مغايرًا، خصوصًا أنها نظّمت ما يعرف باسم “وحدة الساحات”، أي انخراط جميع أطراف “محور المقاومة” الذي تقوده في المنطقة ضد إسرائيل، وهو ما لم يفعله النظام، وهو أحد الأطراف الفاعلة وذات الحضور في “المحور”.
الخبيرة إيفا كولوريوتيس ترى في هذا الشأن أن إيران على علم بالتفاهمات بين الأسد وإسرائيل التي استمرت لنحو أربعة عقود، وأبقت حدود إسرائيل الشمالية على مرتفعات الجولان هادئة، مقابل تسهيل تمويلها لـ”حزب الله”، وزيادة قدراته العسكرية.
وأضافت أن الظروف تتبدل اليوم، إذ تغيرت المعادلة بعد “طوفان الأقصى”، فالحكومة الإسرائيلية التي غضت الطرف عن التوسع الإيراني في الشرق الأوسط، الذي كان على حساب السنّة فقط، اعتبرت هجمات 7 من تشرين الأول، “تجاوزًا خطيرًا للخط الأحمر” من قبل إيران وميليشياتها.
وبناء على ما تراه إسرائيل تجاوزًا لخطوطها الحمراء، تعمل اليوم على إعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة، وذلك يشمل سوريا، لكن بطريقة مختلفة عن “حزب الله” و”حماس”، ففي الجغرافيا السورية هناك لاعب روسي مهم، يمكن بناء تفاهمات معه بعيدًا عن إيران.
آرون لوند، استبعد من جانبه أن ينفصل الأسد عن إيران، التي كانت حليفته الأكثر موثوقية على مدار عقود، لكن بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية التي يعيشها النظام وحاجته للدعم الأجنبي، فربما تتمكن دول عربية من بناء بعض النفوذ الخاص بها، وتنويع علاقات دمشق الخارجية إلى الحد الذي لا تتعارض فيه مصالحها وجهودها بشكل مباشر مع مصالح وجهود إيران.
وإذا ظل الصراع في سوريا محدودًا، وقلّ احتياج النظام إلى الدعم الإيراني المباشر، فقد يصبح الأسد أقل وعيًا بالمصالح الإيرانية وأكثر استعدادًا للحياد في بعض النزاعات، لكن في ظل الوضع الحالي، فإن دمشق وطهران في نفس الخندق، وحتى في المستقبل من غير المرجح أن يبتعد الأسد تمامًا عن الجانب الإيراني.
ثلاثة احتمالات
المحللة إيفا كولوريوتيس توقعت أن يقع اختيار الأسد على روسيا، وترى أن السيناريو الأرجح أن تكون موسكو قد توسطت مع طهران لإبقاء سوريا خارج الصراع الدائر في المنطقة، وبناء على تفاهم ما تسمح موسكو لإسرائيل بالعمل داخل الجغرافيا السورية، وتحافظ على الحدود المقابلة لمرتفعات الجولان من خلال نشر نقاط مراقبة لمنع عمل الميليشيات التابعة لإيران في المنطقة.
وترى كولتوروس أن هناك ثلاثة سيناريوهات لإنهاء وجود الميليشيات الإيرانية في سوريا، الأول، من خلال تفاهمات إسرائيلية- روسية تحت عنوان إخراج سوريا من المحور الإيراني مقابل موافقة إسرائيل على بقاء الأسد في السلطة.
والثاني، أن يتوصل الروس إلى تفاهمات مع إيران نفسها مفادها أنه لإعادة بناء سوريا يجب على إيران سحب ميليشياتها من الأراضي السورية، لمساعدة الأسد على اكتساب القبول في الغرب وبين دول الخليج التي رغم تطبيعها معه لا تزال لا تثق به.
وثالثًا، أن تعتبر إسرائيل الأسد ونظامه غير جادين في إعادة فرض السيطرة على كامل الأراضي السورية، التي أصبحت “دولة ميليشيات” تشكل تهديدًا على أمنها القومي، وبالتالي القضاء على الأسد لفتح الطريق أمام إعادة تموضع سوريا خارج المحور الإيراني، ضمن نظام جديد يعيد تشكيل الدولة السورية ويزيل الميليشيات الإيرانية من أراضيها.
هل الأسد قادر على المناورة
من غير المعروف ما سيناريو المرحلة المقبلة في المعارك بين “حزب الله” وإسرائيل، وإن كان يمكن توقع عدد من السيناريوهات التي قد تنعكس آثارها على النظام والملف السوري بطبيعة الحال، سواء كان ذلك بالتوصل لاتفاق على غرار ما حصل في “حرب تموز 2006″، أو وصول قوات إسرائيلية إلى عمق لبنان، أو حتى ما سيعلنه “الحزب” انتصارًا، إن فشلت إسرائيل بتحقيق أهدافها من العملية العسكرية.
كل السيناريوهات المطروحة قد تثير قلق الأسد، خاصة أن حليفه المباشر، إيران، وكذلك “الحزب”، يمران بظروف تهدد ما تم بناؤه عبر سنوات طويلة، سواء كان ذلك بتوسع الأعمال العسكرية الإسرائيلية وإعلان هزيمة “الحزب” وإيران، أو تحقيق الأخيرة نصرًا ما، وكذلك بقاء الحال على ما هو عليه، وبالتالي عدم نجاحه بالتخلص من العلاقة المعقدة التي تربطه بهما.
النأي بالنفس.. بانتظار المكافأة
كان الأسد ينظر بعين القلق إلى التصعيد الحالي بين إسرائيل و”حزب الله”، ويستشعر الخطر من احتمالية أن يتم دفعه نحو مواجهة عسكرية لا يرغب فيها مع افتقاره للموارد والقدرات اللازمة لمواجهة إسرائيل بشكل مباشر، وفق ما يراه الباحث المتخصص بالشأن السياسي نادر الخليل.
ويخشى الأسد، وفق الباحث، أن يتورط في صراع قد يستنزف قدراته العسكرية والاقتصادية المستنزفة أساسًا، وعليه فإن النظام سعى ويسعى لتجنب الدخول في حرب جديدة على أراضيه، وخاصة في ظل التحديات الداخلية التي يواجهها من أزمات، وخاصة الاقتصادية منها.
وأضاف الباحث لعنب بلدي أن النظام يدرك أنه رغم التحالف القوي مع إيران و”حزب الله”، سيكون عليه أن يتصرف بحذر شديد، فهو من جهة لا يستطيع الانخراط في حرب مع إسرائيل، ومن جهة أخرى مقيد بالتحالف وبالنفوذ الإيراني في سوريا، إذ يمكن أن يعرضه أي تحرك غير محسوب لضغوط إضافية من القوى الغربية أو يزيد من عزلته دوليًا.
بالنظرة العامة إلى مجريات الأمور السياسية والعسكرية في لبنان وفلسطين، والموقف الإيراني، يبدو أن الأسد يشعر بالخطر فعلًا، خاصة مع تحقيقه اختراقات في عزلته السياسية وعملية التطبيع العربي معه وعودته إلى الجامعة العربية.
ورغم التحسن الطفيف، قد يشعر الأسد بالقلق من نتائج المعركة نفسها، ويرى أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة “باريس” رامي الخليفة، أن الأسد يدرك أن المنطقة على حافة “تغيير كبير في ميزان القوى”، وأن نتائج المعركة ستنعكس على عدة ملفات، على رأسها الملف السوري، حتى مع نأي الأسد بنفسه وعدم حديثه عن فلسطين و”حزب الله” وما يحصل.
وفق الخليفة، فإن النصائح لم تصل إلى الأسد من الإمارات فقط، بل من روسيا ودول أخرى غربية أيضًا.
ويرى المحلل السياسي حسن النيفي، أنه ومهما كانت نتائج الحرب القائمة فإن مستقبل “حزب الله” لن يكون كما في السابق، مع وجود إصرار إسرائيلي وتأييد أمريكي لإضعاف “الحزب” وربما إنهائه.
وأضاف لعنب بلدي أنه في هذه الحالة يحاول نظام الأسد الالتزام بالنأي بنفسه عما يجري، لعله يحافظ على سلامة نظامه، وكذلك في حال وقفت الحرب بفعل تسويات محددة، فإن النظام يتطلع إلى مكافأته برفع الحصار أو العقوبات أو التخفيف من الضغط عليه من جانب واشنطن، لكن يبدو أن سيرورة الحرب الراهنة ربما تفصح عن أمور لن تكون ضمن التوقعات وذلك نتيجة لجموح رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي يحاول استغلال انهيار جبهات “حزب الله” وتردد إيران في المشاركة بالحرب.
ورجح النيفي أن يحاول النظام استثمار هذه الحرب بحثًا عن بعض المكاسب، لعل أبرزها تقديمه صك “حسن سلوك” من إسرائيل، كما سيحاول الإيحاء للدول العربية التي خطت باتجاه التطبيع معه بأنه جاد في السير باتجاه الابتعاد عن إيران، سعيًا لابتزاز العرب والعودة إلى اللعب على موازين القوى.
الرقص على الحبال
لا يمكن التنبؤ بنتائج المعركة الحالية بين “حزب الله” وإسرائيل، خصوصًا مع دخول طهران على خط المواجهات بإعلانها إطلاق أكثر من 200 صاروخ باتجاه إسرائيل، والإصرار الإسرائيلي على الهدف المعلن، وهو إعادة قوات “حزب الله” إلى شمال نهر “الليطاني”، وضرب مستودعات الأسلحة جنوبي لبنان، هذا في حال لم تتوسع المعركة لتشمل مناطق في عمق لبنان نفسه ضمن العملية البرية التي بدأتها إسرائيل مطلع تشرين الأول الحالي.
ولكن يمكن توقع سيناريوهات عامة، قد يكون أولها أن تحقق إسرائيل غايتها وربما ما هو أبعد، فقد تجتاح أكبر قدر ممكن من الأراضي اللبنانية على غرار ما حصل في عام 1982، ما يعني “انتصارًا إسرائيليًا”، أو فشلها بتحقيقه وبالتالي إعلان طهران و”الحزب” انتصارهما، أو الوصول إلى تسوية تنتهي بالتعادل على غرار تلك المعلن عنها في عام 2006 خلال “حرب تموز”، وربما سيناريوهات أخرى تكشفها المعركة.
ولكل واحد من هذه الاحتمالات نتائجه على الأسد وعلاقته بإيران و”حزب الله”، وكذلك على الملف السوري نفسه.
وفق رامي الخليفة، فكل السيناريوهات محتملة جنوبي لبنان، دخول إسرائيل بريًا يعني إطالة أمد المعركة، خصوصًا أن إسرائيل وجهت ضربات موجعة لـ”محور المقاومة” ككل في المنطقة، لكن ذلك لا يعني نهاية “المحور” أيضًا، إذ إن طهران لا تزال تملك حضورًا ونفوذًا، والحرب البرية لن تكون بالسهولة التي يتصورها الجانب الإسرائيلي والنهاية سيكون هناك اتفاق ما مرتبط بنتائج الصراع العسكري.
من جهته، قال الباحث نادر الخليل لعنب بلدي، إن انتصار إسرائيل على “حزب الله” واجتياح لبنان قد ينتج بدوره سيناريوهين، الأول، انسحاب “حزب الله” إلى خطوطه الخلفية في سوريا، وتحكمه بها بصورة تجعل الصراع ينتقل إلى الأراضي السورية مباشرة، وهنا سيجد الأسد نفسه في وضع لا يُحسد عليه، فإن قاوم استحكام “حزب الله” في مواقع بسوريا، سيُعتبر ذلك انقلابًا على تحالفه التاريخي مع إيران، وإذا تغاضى عن هذا الاستحكام أو تكاتف معه، فهذا يعني أنه سيتحول إلى هدف لإسرائيل، ما يهدد وجوده على كرسي الحكم.
ورجح الخليل أن ينقلب الأسد على إيران في حال ترك الخيار له، حفاظًا على كرسي الحكم، رغم أن “رقصه على الحبال” قد يؤدي به إلى خاتمة شبيهة بالرئيس اليمني السابق، علي عبد الله صالح، الذي قتلته جماعة “الحوثي”، المدعومة إيرانيًا، بعد أن انقلب عليها.
وفي حال نجحت إسرائيل باجتثاث “الحزب” تمامًا من لبنان وانهار في سوريا، وهو أمر مستبعد، فسيكون النظام السوري الوحيد القادر على ملء الفراغ في لبنان، وله حرية أكبر باتخاذ القرار، وستتراجع السطوة الإيرانية عليه مع استعادة وضعه قبل 2011 على صعيد العلاقة مع طهران.
أما في حال إعلان “انتصار المحور”، فإن النظام سيعتبر الأمر مكسبًا استراتيجيًا كبيرًا، وسيعزز من وجوده الإقليمي ويزيد من تحالفه مع طهران، ما يعني المزيد من العقوبات والضغوطات الدولية.
وإذا اتجه طرفا الصراع لتسوية ما، فيعني ذلك فرصة ذهبية لا تعوض للنظام السوري لإعادة ترتيب أوراقه، مع الحفاظ على تحالفاته مع “الحزب” وإيران دون الدخول بحرب مباشرة ضد إسرائيل، مع هامش مناورة أكبر سياسيًا على الساحة الإقليمية والدولية، وظهوره كطرف فاعل في تهدئة التوترات في المنطقة، وفق الخليل.
صعوبة فك الارتباط.. ماذا بعد؟
للنظام السوري تحالف عميق مع إيران التي تملك بدورها نفوذًا واسعًا في سوريا، سواء في المؤسسات الحكومية والخدمية، والاقتصاد، وكذلك عبر الميليشيات التابعة لها على امتداد جغرافيا مناطق سيطرة النظام نفسه.
أحد شروط التطبيع العربي مع الأسد، وفق ما عُرف بـ”المبادرة الأردنية”، كان تقليص نفوذ إيران وإعادة هيكلة الجيش، وإن كانت هناك خطوات فيما يخص الثانية، فإنها قد لا تكون ممكنة في الأولى، إذ يضع نفوذ إيران الأسد تحت ضغط أمام عمليات تطبيعه مع الدول العربية، خاصة مع عدم قدرته على تحجيم نفوذ إيران، أو تخفيف تغلغلها في القطاعات المختلفة، ما يجعل الأسد نفسه وفي أي سيناريو مقبل مرتبطًا بالعلاقات مع طهران، وقد يدفع ثمن ذلك.
حتى لحظة نشر هذا الملف، لم تنخرط قوات النظام في أي معارك مباشرة، ولم تستخدم الأراضي السورية التي يسيطر عليها لضرب أهداف في المناطق التي تحتلها إسرائيل.
وفق الباحث السياسي نادر الخليل، فإن الأسد غير قادر على تقليم أظفار إيران بنفسه، وبالتالي سيستفيد من إضعاف النفوذ الإيراني الميداني في سوريا وأخذ مسافة من “المحور الإيراني” كله، وقد ينجح في إيجاد حل وسط على هذا الصعيد، لذا فحرب إسرائيل المكثفة على إيران و”حزب الله” داخل سوريا، تخدم مصالح النظام إن أدت إلى إفقاد طهران قدرة الضغط المباشر على الأسد وتهديده بقوتها الميدانية القائمة على الأرض السورية.
واستبعد الباحث أن يكون للنظام السوري توجه لفك التحالف مع إيران بشكل كامل، لكن إن أسهمت إسرائيل عبر حربها بتخفيف سطوة طهران عليه، فهذا يعني إمكانية إعادة العلاقة بين الطرفين لحالة ندية كانت موجودة قبل عام 2011، وحينها قد يحصل على دعم اقتصادي خليجي إن نجح بأخذ مسافة أبعد عن إيران، وفق الخليل.
من جانبه، يرى أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة “باريس” رامي الخليفة، أنه وعلى مدى ثلاث سنوات كانت هناك محاولات من قبل النظام للابتعاد عن الجانب الإيراني، إلا أن المسألة تبدو في غاية التعقيد، لأن الوقت بات متأخرًا للغاية لتقليص نفوذ طهران.
من جهته، يرى المحلل السياسي حسن النيفي، أنه من السابق لأوانه الذهاب إلى الحديث حول فك ارتباط النظام بطهران، باعتبار أن الارتباط عضوي استراتيجي وليس ارتباطًا طارئًا أو يجسد مصلحة آنية.
ولو كانت لدى النظام رغبة بالابتعاد عن إيران فإن القرار ليس بيده، فطهران اليوم تمسك بالعديد من مفاصل الدولة السورية، ومن هنا يمكن القول إن موقف النظام يمر في مرحلة شديدة الحرج، بحسب النيفي.