علي درويش | حليم محمد
تراجعت حدة عمليات الخطف والخطف المضاد بين أبناء سهل وجبل حوران، في محافظتي درعا والسويداء جنوبي سوريا، خلال العامين الماضيين، بعد سنوات من تأثيرها السلبي على مجتمعي المحافظتين الجارتين، إذ وصل في إحدى مراحله إلى اشتباكات مسلحة خلفت قتلى وجرحى.
المبادرات التي أطلقها أبناء المحافظتين، من ناشطين مدنيين وإعلاميين، ومنظمات، وقوى محلية، لعبت دورًا في توضيح أهمية العلاقة بين المحافظتين المتجاورتين جنوبي سوريا، كما أسهمت في تخفيف حدة التوتر المدفوع بجهات لها مصلحة في خلق عداء بين المجتمعين القريبين أصلًا ثقافيًا واقتصاديًا.
وعادت مؤخرًا بشكل تدريجي عمليات التبادل التجاري، إذ أنشئ سوق لتجارة المواشي في بصرى الشام يستقبل تجارًا من السويداء، وكذلك عادت بعض أنواع الفواكه كالتفاح والعنب التي مصدرها السويداء إلى أسواق درعا.
الوجهاء ومبادرات السلم المجتمعي لعبت دورًا رئيسًا في انحسار ظاهرة الخطف، خاصة مع غياب مؤسسات حكومة النظام الأمنية عن ضبطها، بل إن الفروع الأمنية اتُّهمت بأنها تقف وراء هذه العمليات، لتأجيج التوتر بين سهل حوران (درعا) وجبل العرب (السويداء).
مؤسسات النظام الأمنية والعسكرية لم تخرج من السويداء بعد الثورة السورية في آذار 2011، لكن دورها تراجع مع ظهور فصائل عسكرية محلية مدعومة من الزعامة الدينية أبرزها “حركة رجال الكرامة”.
أما درعا، فقد استعاد النظام السيطرة عليها في تموز وآب 2018، بموجب اتفاق “تسوية”، إلا أنه لم يحكم السيطرة الفعلية عليها، وتشهد عمليات خطف واغتيالات تستهدف مختلف الأطراف.
ماذا تضمنت المبادرات
شملت مبادرات السلم المجتمعي عدة أمور أساسية، بحسب ما ذكرته مصادر شاركت في المبادرات أو كانت منظمة لها، منها اجتماعات بين الوجهاء، بهدف إعادة توثيق العلاقات وحل المشكلات العالقة بين المحافظتين، أبرزها اجتماع في قرية برد بالسويداء أواخر 2020، حضره وجهاء من مناطق مختلفة في درعا والسويداء.
وفي نيسان 2020، اجتمع وجهاء من المحافظتين وأصدروا بيان “حسن الجوار“، الذي نص على أن “الفتنة لا تخدم أحدًا، وستكون آثارها المظلمة على الطرفين لفترة طويلة”.
ووصفوا من يقومون بأعمال الخطف بـ”العصابات المارقة” التي لا تمثل السهل ولا الجبل، فيما لا تزال التحركات الإيجابية مستمرة، عبر زيارات متبادلة لناشطين من أبناء المحافظتين.
كما شملت المبادرات التدخل عند وقوع حوادث الخطف، إذ يتدخل عادة وجهاء من كلا المجتمعين لمحاولة التفاوض، وحل الأمور دون تصاعدها إلى تبادل الخطف (الخطف المضاد).
الأمر الآخر الذي تم التركيز عليه في السنوات الأخيرة هو الإعلام، وذلك عبر جمع المنصات الإعلامية، وإصدار مواثيق وسلسلة من المواد المشتركة بشكل تحالف بين المؤسسات الإعلامية، وحملت وسمًا وطابعًا واحدًا.
على سبيل المثال، عملت منظمة “بلدي” على جمع مجموعة من المؤسسات الإعلامية ومنظمات العمل المدني، ضمن مشاريع أهمها مشروع “الحوار الإعلامي في الجنوب السوري” الذي انبثقت عنه مسودة ميثاق شرف إعلامي سيتم إصداره خلال العام المقبل.
وهناك مشروع “تمكين” الذي لا يقتصر على المؤسسات في الجنوب السوري، وفق قول ناشط مدني من أبناء السويداء، وإنما يشمل شمال شرقي وشمال غربي سوريا، وعمل هذا المشروع على توطيد العلاقة بين المؤسسات الإعلامية العاملة في الداخل السوري وبين منظمات المجتمع المحلي، لتشكيل تحالفات تقف في وجه خطاب الكراهية والعمل على نشر ودعم الصحافة الأخلاقية.
ما يجمع أكثر مما يفرق
رئيس تحرير موقع “درعا 24” المحلي، شادي العلي، قال لعنب بلدي، إن مجتمعي درعا والسويداء تجمعهما العديد من القواسم المشتركة، لكن ذلك لم يمنع من حصول بعض التوترات خاصة فيما يتعلق بعمليات الخطف.
مبادرات السلم المجتمعي أسهمت في تقليل التوترات التي كانت تجري بين حين وآخر، خاصة تلك التي حدثت على الحدود الإدارية بين المحافظتين، كما أسهمت المبادرات في تحسين العلاقات وتعزيز الثقة بين المجتمعين، حيث تم تجنب تجدد الاشتباكات بعدها.
كما كان لتدخل الوجهاء عند وقوع عمليات الخطف تأثير مباشر في عدم تصاعد العنف، بحسب شادي العلي، إذ لعبوا دورًا محوريًا في احتواء المواقف، وهذه التدخلات السلمية تقلل بشكل أو بآخر من حدوث مواجهات مسلحة وتسهم في تحسين العلاقات العامة بين السكان في المجتمعين.
وقال ناشط مدني من أبناء السويداء شارك في هذه المبادرات، “نجزم أن هذه التحركات كان لها الفضل بنزع فتيل الفتنة بين الجارتين بأكثر من موقف”.
وأهم تلك المبادرات، بحسب حديث الناشط لعنب بلدي، عندما حاول إعلام النظام استغلال حادثة احتجاز راجي فلحوط وفصيله التابع لـ”الأمن العسكري” لمجموعة من أبناء درعا وبدو اللجاة، ونشره مقطعًا مصورًا لتقييدهم وإذلالهم، ومحاولة إظهار الأمر على أنه عملية من أهل السويداء ضد أهالي درعا.
بعد الحادثة تحركت فورًا المؤسسات الإعلامية المستقلة في المحافظتين والناشطون والعقلاء، “لوأد الفتنة وإظهار الحقيقة بأن العملية مدبرة من (الأمن العسكري) وعملائه في السويداء”.
مجموعة راجي فلحوط هي واحدة من المجموعات المحلية في السويداء، التي تتبع لـ”الأمن العسكري”، وتواجه اتهامات بضلوعها بعمليات القتل والخطف وتجارة المخدرات لمصلحة النظام السوري في الجنوب.
في تموز 2022، أنهت فصائل محلية من السويداء على رأسها “رجال الكرامة” وجود مجموعة فلحوط المسماة “قوات الفجر”، بعد معارك استمرت بضع ساعات.
للعسكرة دور
أحد وجهاء الريف الشرقي في محافظة درعا قال لعنب بلدي، إن جهودًا متبادلة من كلا الطرفين أسهمت ولو بالحد القليل في نبذ ظاهرة الخطف عبر نبذ وعدم التستر على العصابات، وهذه الجهود أسهمت في عودة الحياة التدريجية إلى طبيعتها.
ويقع الجهد الأكبر، بحسب المصدر، على عاتق الفصائل سواء في درعا أو في السويداء، لأن العصابات تخاف من القوة أكثر من احترامها للعشائر وشيوخ العشائر، إلا أن الوجهاء أسهموا في تقريب وجهات النظر وتحريك هذه الفصائل لمحاربة هذه العصابات.
في حين يرى قيادي مقيم في ريف درعا أن تراجع عمليات الخطف يعود إلى عمليات الخطف المضاد، الأمر الذي دفع الوجهاء والفصائل للتحرك خوفًا على السلم الأهلي بين المحافظتين.
عمليات الخطف، بحسب ما ذكره القيادي لعنب بلدي، تنفذها عصابات في كلتا المحافظتين، معظمها ترتبط ببعضها، وتطلب فدية تصل إلى عشرات آلاف الدولارات.
التركيز على القواسم المشتركة
رئيس تحرير “درعا 24″، أوضح أن المبادرات ركزت بشكل أساسي على تعزيز العلاقات التاريخية والاجتماعية بين درعا والسويداء، والتأكيد على أواصر الترابط بين الجارتين، إضافة إلى التأكيد على مبدأ التعايش المشترك، ورفض الانجرار وراء الجهات التي تسعى إلى تأجيج التوتر ومنع استقرار العلاقات بين السهل والجبل.
كما ركزت على رأب الصدع ومعالجة الحوادث السابقة، مثل الاشتباكات التي وقعت في 2020، والتي تسببت في سقوط قتلى وجرحى، والتدخل في حل الأزمات المتكررة خلال حالات الخطف، وما تُسمى الخطف المضاد، ما يُسهم في تجنب تصاعد الأمور وازدياد حالات العنف والخطف.
وبحسب رواد بلان، الناشط بمنظمات المجتمع المدني في السويداء، كان لمنظمات المجتمع المدني دور إيجابي في الابتعاد عن شيطنة المكونات المجتمعية، سواء في درعا أو السويداء، عبر عزل هذه العصابات عن محيطها المجتمعي، وتجريم العصابات دون تعميم هذه الظاهرة على المجتمع ككل.
ومن أهم المبادرات المجتمعية استقبال مدنيي السويداء آلاف المهجرين من درعا، ما عمّق العلاقات بين الجارتين وأسس صداقات مجتمعية أثمرت في زيادة التآخي بين الطرفين.
وذكر بلان لعنب بلدي، أن المجتمع المدني كان له الأثر الأكبر في رفض شراء المواد “المعفّشة” (الأثاث المسروق من المنازل بعد سيطرة النظام السوري) من محافظة درعا، إبان مهاجمة النظام السوري المحافظة عام 2018، إذ طلبت منظمات المجتمع المدني حينها من النيابة العامة تجريم تداول هذه المسروقات.
وكان للمجتمع المدني دور في إصدار وثيقة سلوك عُممت على الناشطين والمنصات الإعلامية في السويداء، وتدعو إلى نبذ خطاب الكراهية والعمل على دعم السلم الأهلي والمجتمعي، ومحاولة التواصل الفيزيائي بين ممثلين من كلتا المحافظتين.
تحسن ملحوظ في العلاقة
منذ مطلع العام الحالي، هناك عودة تدريجية للعلاقة الطبيعية، بحسب أحد وجهاء الريف الشرقي لدرعا، إذا أصبح تجار من درعا وطلاب جامعات يزورون السويداء، وكذلك هناك زيارات لتجار ومعاملات تجارية بين المحافظتين.
من ناحية أخرى، أشار الناشط السياسي سليمان الكفيري، إلى أن حالات الخطف بين درعا والسويداء تراجعت نسبيًا لكن لم تعد العلاقة المجتمعية بعد لطبيعتها المعتادة، والجهود تكاملت وأدت أفضل عمل حافظ على السلم الأهلي نسبيًا وحسّن العلاقة بين الجارتين ومنع الفتنة.
وزارت بلدة ناحتة، في شباط الماضي، وفود من محافظة السويداء للتهنئة في تحرير الشاب المخطوف رامي المفعلاني، واعتبر وجهاء من محافظة درعا هذه الزيارة بمنزلة خطوة إيجابية في إعادة العلاقات بين المحافظتين
أحد الوجهاء من ريف درعا الشرقي قال لعنب بلدي، إن هذه الزيارة كان لها صدى إيجابي وبعثت على التآخي ومتانة العلاقة بين الطرفين.
وأضاف أن وفودًا من السويداء تواصلت معه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، معلنة تضامنها ضد عمليات الخطف، في حين أمّن مقاتلون من درعا الوفود من الحدود الإدارية للسويداء في الذهاب والإياب.
وقال إن وفدًا من محافظة درعا شارك في زيارة إلى محافظة السويداء وقابل الشيخ حكمت الهجري، لبحث قضية عالقة منذ سنوات بين المحافظتين.
في حين رأى ناشطون في السويداء أن تراجع عمليات الخطف يعود للقضاء على مجموعة راجي فلحوط التابعة لـ”الأمن العسكري”.