من ثاني منتج في العالم إلى بلد مستورد
تدهور محصول القطن يعطّل صناعة النسيج في سوريا
عنب بلدي – جنى العيسى
ينخفض إنتاج محصول القطن في عموم سوريا عامًا بعد عام، دون حلول من شأنها وقف نزيف تهالك أحد أبرز المحاصيل الاستراتيجية على مدى عقود في البلاد.
انخفاض الإنتاج يترك أثره الكبير على قطاع المنسوجات والصناعة من جهة، كما يزيد من إرهاق فاتورة الاستيراد لدى التجار من العاملين في القطاع العام أو الخاص، نتيجة استيرادهم ما تبقى من حاجتهم من القطن وتحمل أعباء إضافية جراء ذلك.
في مناطق سيطرة النظام، جرى التخطيط في الموسم الحالي لزراعة 14 ألف هكتار في المناطق الآمنة، زرع منها 8722 هكتارًا، بزيادة قدرها 1500 هكتار على العام الماضي، بينما بلغت نسبة تنفيذ الخطة 62% فقط، بحسب ما أعلنه مدير “مكتب القطن” في وزارة الزراعة، أحمد العلي، نهاية أيلول الماضي.
واعتبر العلي في تصريح صحفي، أن السبب الرئيس وراء عدم التقيد بالخطة يتمثل باتجاه الفلاحين إلى ة كالذرة الصفراء والجبس البذري والسمسم، بدلًا من محصول القطن بسبب دورة زراعته الطويلة، وغلاء مستلزمات الزراعة، إضافة إلى تكاليف اليد العاملة وصعوبة توفرها، وهذا يعرضهم للخسارة، بحسب تعبيره.
وتقدّر وزارة الزراعة الكمية المتوقع تسلمها خلال الموسم الحالي من محصول القطن بنحو 25 ألفًا و500 طن، أي بزيادة عشرة آلاف طن تقريبًا على الموسم السابق، إلا أنها لا تزال أرقامًا بعيدة عن حجم إنتاج المحصول ما قبل عام 2011.
النظام غير قادر على الإنتاج
يعد القطن محصولًا استراتيجيًا في سوريا بعد القمح، وسابقًا قبل عام 2011، كانت سوريا الثانية عالميًا في إنتاج القطن بعد الهند، بإنتاج سنوي يتجاوز مليون طن، كما حلت الثانية عالميًا في مردود الهكتار من القطن، وإنتاجها بلغ 8.3% من الإنتاج العالمي، وكان الاستهلاك المحلي يبلغ 30% من حجم الإنتاج، والباقي يتم تصديره.
كان هذا القطاع يسهم في توفير فرص عمل للفلاحين وللعمال في معامل الحلج ومعامل النسيج، فعلى مستوى صناعة القطن يستقطب هذا القطاع 20% من اليد العاملة الصناعية في سوريا، بحسب ما أكده الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر.
وقال السيد عمر في حديث إلى عنب بلدي، إن هذا القطاع شهد في الوقت الحالي تدهورًا حادًا، بسبب تراجع كمية الإنتاج بنسبة 88%، بحيث لم يعد الإنتاج المحلي يغطي الاحتياجات، واضطرت حكومة النظام عام 2021 لاستيراد القطن، وهذه المرة الأولى التي تستورد فيها سوريا القطن، ولولا الاستيراد حينها لتوقفت معامل النسيج في سوريا، وهو ما قد يؤدي إلى خسارة عشرات الآلاف من العمال لوظائفهم.
في ظل هذا الواقع، وفي ظل الأهمية الكبيرة للقطن، تبدو الجهات الرسمية في مختلف مناطق السيطرة غير مهتمة بما فيه الكفاية بهذا المحصول الاستراتيجي.
غياب الرغبة بتسلم المحصول من المزارعين لدى حكومات الأمر الواقع في شمال شرقي وشمال غربي سوريا، أرجعه الباحث إلى عدم امتلاك هذه الجهات مصانع نسيج كافية لاستيعاب الإنتاج، إذ تقع غالبية معامل النسيج في مدينة حلب تحت سيطرة النظام، ومعظمها خارج الخدمة.
أما على مستوى حكومة النظام، فقد افتتحت عدة مراكز لتسلم القطن، لكن السعر لا يكون مشجعًا للمزارعين، إضافة إلى أن الأزمة التي تواجه المزارعين هي في نقله إلى مراكز التسلم، فعدد المراكز قليل، وهو ما يتطلب من المزارعين نقل محصولهم لمسافات بعيدة نسبيًا، ما يتطلب تكاليف عالية لا سيما في ظل ندرة المحروقات وارتفاع سعرها في السوق الموازية (السوداء).
وكنتيجة لهذه المعطيات، تتراجع عوائد المزارعين، بحيث يصبح السعر غير متناسب مع التكلفة، إضافة إلى ذلك، فإن حكومة النظام تتباطأ في دفع أثمان القمح للمزارعين، بسبب نقص السيولة لديها، والتأخير في الدفع ينعكس سلبًا على المزارعين، فضلًا عن مخاطر انخفاض قيمة الليرة، الذي يعني تراجعًا في القيمة الفعلية لثمن القطن.
يرى الباحث يحيى السيد عمر أن حكومة النظام غير متشجعة لدعم زراعة القطن لعدة أسباب، منها أن بعض كبار التجار يرغبون باستيراده لأنه يحقق لهم أرباحًا كبيرة، إضافة إلى أن مردود زراعات أخرى أكبر بالنسبة للنظام، مثل زراعة التبغ، التي تعد ذات عائد مرتفع نسبيًا.
واعتبر الباحث أن القرارات الصادرة عن حكومة النظام يتم اتخاذها بعقلية التاجر وليس بمنطق الدولة، وهذا سيؤثر سلبًا على مستقبل الزراعات الاستراتيجية، وبالتالي على مستقبل اقتصاد الدولة، وفق السيد عمر.
النسيج يلفظ أنفاسه
تحتاج سوريا إلى حوالي 250 ألف طن من الأقطان “المحبوبة”، تنتج ما كميته 88 ألف طن من القطن “المحلوج”، تلبي منها احتياجات السوق من الأقطان “المحلوجة” والغزول والأقمشة المنسوجة.
تراجع حجم إنتاج القطن يتصدر دومًا أبرز المشكلات التي يعانيها قطاع المنسوجات، بالإضافة إلى عدد من المشكلات الأخرى التي دفعت بعض الصناعيين إلى إغلاق منشآتهم بسبب تعرضهم لخسارات متتالية.
ومع تراجع إنتاجه جراء سنوات الحرب، بالإضافة إلى تدهور البنية التحتية وصعوبات الوصول إلى المياه، واجهت المنشآت الصناعية تحديات كبيرة.
وبشكل عام، يعد تأثير نقص محصول القطن سلبيًا على قدرة الصناعة على النمو والاستمرار، ويعتبر تحديًا رئيسًا في إعادة بناء قطاع النسيج في سوريا، إذ أدى تراجعه إلى ارتفاع التكاليف بسبب اعتماد بعض المصانع على الاستيراد لتموين احتياجاتها، ما زاد من التكاليف الإنتاجية.
وبسبب هذه الظروف، لم تتمكن العديد من المصانع من الاستمرار بسبب نقص المواد الخام، ما أدى إلى فقدان الوظائف وتراجع القدرة التنافسية، كما أن بعض المنشآت حاولت البحث عن مواد خام بديلة أو تطوير تقنيات جديدة، لكن ذلك يتطلب استثمارات كبيرة.
صحيفة “تشرين” الحكومية، أشارت إلى القطاع النسيجي كان يسهم بنسبة 27% من صافي الناتج الصناعي غير النفطي وبحوالي 45% من الصادرات غير النفطية، كما يعمل فيه حوالي 30% من إجمالي العاملين في الصناعة، وحوالي 20% من المواطنين السوريين، وهناك حوالي 24000 منشأة مختلفة الحجم، مسجلة رسميًا تعمل في الصناعات النسيجية عدا المنشآت غير النظامية.
ولعودة هذه الأرقام في قطاع النسيج، اعتبر الصناعي المقيم في مناطق سيطرة النظام عاطف طيفور، أن الحلول موجودة وضمن الموارد والإمكانيات المتاحة، وفق تعبيره، وتتمثل بعدة محاور منها رفع سعر التسويق للفلاح ضمن حدود السعر العالمي، بالإضافة إلى حوافز لمكافحة السوق السوداء وتهريب المحصول وضمان تسليم كامل المنتج وتوسعة رقعة الزراعة للقطن.
وطالب طيفور بالعمل على إعادة هيكلة اللجان الفنية المسؤولة عن مردود الإنتاج للهكتار، والعمل بشكل فوري على إعادة المردود إلى 4.5 طن للهكتار بعد أن انخفض إلى 2.5 طن، لضمان مضاعفة الإنتاج ضمن الموازنات والمخصصات الموزعة، وتفادي هدر المال العام والموارد ومستلزمات الإنتاج، إلى جانب توسعة الزراعة بالمناطق المروية الحديثة والتوسعة بالساحل ضمن المناطق القابلة لتحلية المياه، واعتماد القطن مادة أولية للاقتصاد السوري كما كانت قبل 2011.
الباحث المساعد في مركز “جسور للدراسات” المختص بالشؤون الاقتصادية عبد العظيم المغربل، قال لعنب بلدي، إن تراجع نسبة إنتاج القطن انعكس سلبًا بشكل واضح على الصناعات النسيجية التي تعتبر من الصناعات الرئيسة في سوريا، وأدى إلى تدهورها وعزوف عدد كبير من الصناعيين عن العمل في هذا القطاع لارتفاع الأسعار الناتج عن انخفاض الكمية المنتجة.
وبما أن استيراد الأقطان “المحلوجة” ممنوع، لم يبقَ للصناعي وسيلة إلا استخدام مواد أخرى مثل الألياف الصناعية و”البوليستر” التي تؤدي بطبيعة الحال إلى انخفاض جودة المنسوجات.
يبدو أن حكومة النظام تجد في قطاع التبغ مردودًا أعلى من قطاع القطن وأقل تكلفة بعوائد سريعة نسبيًا، ويمكن الاستثمار في صناعته، وفق ما يرى المغربل، مشيرًا إلى أن هذا التوجه بلا شك يرهق فاتورة الاستيراد، إذ سيضطر الصناعي لاستيراد مواد لاستمرار إنتاجه وقد يدخلها بشكل غير شرعي، ما يرفع تكاليف الإنتاج، ويزيد من الأعباء عليه ويؤدي إلى تضخم في أسعار المنتجات النسيجية المحلية وضعف القدرة التنافسية لها.
منشآت خارج الخدمة
خلال مناقشة ورقة لورشة عمل بعنوان “الصناعات النسيجية السورية – الواقع ومتطلبات التعافي والنهوض“، نشرت عام 2022، قال وزير الصناعة السابق، زياد صباغ، إن القطاع النسيجي يعاني من مشكلات عديدة، منها هيكلية ومالية وتقنية حدّت من تحويل مزايا هذا القطاع إلى مزايا تنافسية وخاصة لناحية عدم كفاءة نظم التوريد والتصدير، وعدم مواكبة التطورات العالمية، إضافة إلى خروج عدد كبير من المنشآت خارج العملية الإنتاجية ونقص المواد الأولية ولا سيما القطن.
ومنذ عام 2011، توقفت 342 منشأة في القطاع النسيجي عن العمل وهي بطاقة إنتاجية تعادل أكثر من 158 ألف طن، بينما بلغ عدد منشآت إنتاج الألبسة المتوقفة 6193 منشأة طاقتها الإنتاجية تزيد على 46 ألف طن من الألبسة، وهذه الأعداد لا تتضمن المنشآت غير النظامية.
وفق ورقة العمل، تتلخص أهم نقاط الضعف التي يعانيها القطاع النسيجي بعدم التناسق والتكامل بين طاقة حلقات إنتاج القطن وإنتاج الخيوط وإنتاج النسيج والملابس ذات القيمة المضافة المرتفعة، والافتقار إلى مؤسسات الدعم الفعالة والمؤسسات الوسيطة.
كما تتمثل بعدم وجود نظام إقراض قادر على تأمين التمويل اللازم، وارتفاع تكاليف الإنتاج من مواد أولية ومحروقات وكهرباء، والارتفاع المستمر بسعر الصرف في ظل روتينية الإجراءات الجمركية والوقت الطويل الذي تستغرقه والبيروقراطية الشديدة والبطء في عملية اتخاذ القرار في الشركات التي تملكها الدولة، إضافة إلى تدني الإنتاجية وانخفاض نسبة الاستفادة من الطاقات المتاحة، وتشتت المنشآت والورشات.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :