غزوان قرنفل
تقول الحكاية إن حزب “الجيد” التركي المعارض لجأ إلى القضاء تلمسًا لحكم قضائي ينصف الدولة والمجتمع التركيين من “لوثة” تجنيس الأجانب، وخاصة السوريين منهم، التي تسبب بها حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، وتداعيات تلك “الجريمة” على سلامة المجتمع التركي و”نقائه” العرقي!
بالتأكيد فإن خبر قيام زعيم حزب “الجيد” باللجوء إلى المحكمة الإدارية العليا، أملًا في استصدار حكم قضائي يلغي بموجبه عمليات تجنيس بعض السوريين والأجانب، ممن حصلوا على الجنسية بشكل استثنائي أو في إطار قانون صدر عن البرلمان التركي يجيز تجنيس الأجانب الذين يستثمرون أموالًا، أو يتملكون عقارات بقيم مالية معلومة ومحددة بزعم مخالفة ذلك للقانون التركي، هو خبر يستحق قليلًا من السخرية والهزء الذي افتتحنا به هذا المقال، ذلك أن جهل زعيم حزب سياسي بالقانون وسبل إدارة الصراعات بالأدوات القانونية يعتبر فضيحة بكل المعايير.
لا شك أن عمليات التجنيس التي حصلت، كلها تمت وفق قوانين تنظمها، ومن الطبيعي إن أردت الطعن بعدم مشروعية تلك العملية والزعم بمخالفتها للقوانين أن تبحث أولًا في مشروعية تلك القوانين ابتداء، وهذا يقتضي البحث في مدى اتساقها مع الدستور أو مخالفتها له، وفي تلك الحالة يكون التوجه الصائب هو نحو المحكمة الدستورية العليا للطعن بعدم دستورية القانون نفسه، وليس إلى المحكمة الإدارية العليا، للطعن بعدم مشروعية قرار التجنيس وطلب إلغائه، على الرغم من دستورية القانون الذي استند إليه القرار الإداري المراد النيل منه.
صحيح أن المركز القانوني للسوريين في تركيا هش وهزيل، لأنه يرتكز على قانون “الحماية المؤقتة” الذي لا يستند إلى منظومة حقوق الإنسان المتعلقة باللاجئين، وهو بالتالي في جانب منه لا يتيح للخاضع لتلك “الحماية” فرصة التجنس، لكن القانون الوطني للجنسية يمنح الحق للسلطة التنفيذية بتجنيس من تراه أهلًا لاكتساب تلك الجنسية، أو تعتقد أن تجنيسه يشكل إضافة إيجابية للدولة والمجتمع التركي، وهذا سبب قانوني كافٍ لإسباغ المشروعية على قرارات تجنيس فئات من السوريين.
هل يعلم السيد درويش أوغلو، الزعيم الجديد لحزب “الجيد”، أن بريطانيا جنست في عام واحد فقط 202 ألف شخص أجنبي مقيم على أراضيها، وأن الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا جنست في سنة واحدة 875 ألف شخص مقيم فيها، بينما جنست تركيا 228 ألف سوري طوال عقد وربع، أي ما يعادل 19000 سوري سنويًا، وهو رقم شديد التواضع لا يجب أن يسبب هذا الهلع وتلك الهيستيريا المفتعلة.
في تصريح سابق لها، تبدي السيدة أصلي بايكال، ابنة الزعيم الأسبق لحزب “الشعب الجمهوري” المعارض دينيز بايكال، تعجبها من أولئك الذين يوجهون الانتقادات لتجنيس 228 ألف سوري خلال كل هذه الأعوام، وتقول إن هؤلاء لا يفهمون المنظومة العالمية، وإن “السعي للحصول على الجنسية التركية مدعاة لفخرنا وليس لتوجسنا”.
فما الذي يتوجس منه زعيم حزب “الجيد”، وما الأخطار التي يراها تحيق بتركيا جرّاء تجنيس فئات من السوريين يعيشون فيها منذ أكثر من عقد، ويعملون وينتجون وينفقون ويؤدون التزاماتهم ويدفعون ضرائبهم ويحترمون القانون في الكثير من الحالات أكثر من أقرانهم المواطنين بالمولد. والحقيقة ليست هناك أخطار ولا هواجس، إنما هي نزعة التطرف القومي والعنجهية الفارغة ومرض العنصرية المتوطن في شريحة من هذا المجتمع، الذي يبدو أنه لا يدرك أن الانغلاق على الذات والأفكار يشبه في آثاره كثيرًا ظاهرة زواج الأقارب الذي لا يتأتى عنه إلا التشوهات الخلقية والأمراض الوراثية، وكذا الغرائز والأفكار القومية المنغلقة على نفسها لا يمكن أن تنتج إلا ضعفًا في مناعتها ومزيدًا من التشوه الفكري والتطرف السلوكي الذي يعوق حركة المجتمعات وارتقائها لا أكثر.
هذه الدعوى لن يكتب لها النجاح، ليس فقط لأنها تأسست على ادعاءات باطلة وجهالات قانونية فحسب، وإنما لافتقادها إلى ما يسعفها على مستوى النصين الدستوري والقانوني، وبالتالي لن تكون إلا مجرد هلوسات حزبية تسعى لصناعة فقاعة إعلامية، يأمل من خلالها بعض مراهقي السياسة كسب مناصرين وأنصار ممن يشبهونهم في ضعف المدركات السياسية وشح الإلمام بأبجديات المصالح الوطنية على المدى البعيد.