أحمد عسيلي
كثرت الأحاديث خلال السنوات الماضية عن حالات الاكتئاب والفصام لدى السوريين في بلاد المنفى، وخاصة الشباب منهم، ونتيجة ذلك، حاول البعض، ممن لديه الدافع والحماسة، تأسيس مجموعات دعم افتراضية وواقعية، هدفها تشكيل روابط للدعم النفسي، بين من يحتاج إليها من جهة وبين من هو قادر على تقديمها من جهة أخرى، ورغم كل تلك المحاولات، ما زالت الأمراض النفسية والعقلية في حالة ازدياد كبير بين السوريين في الخارج، وخاصة المهاجرين في البلاد الأوروبية، مع كل ما يمكن أن تسببه تلك الأمراض، من إدمان كحولي، وتعاطي المخدرات، والاكتئاب الشديد، ومحاولات الانتحار، وعدم القدرة على الاندماج في تلك المجتمعات الجديدة، فما الأسباب التي أدت إلى تلك الحالة التي وصلنا إليها؟
صعوبة الحياة الغربية
في خمسينيات وستينيات القرن الـ20، خلال الحرب الباردة، انتشر بشكل كبير مصطلح “الحلم الأمريكي”، فقد كانت أمريكا رمزًا للحرية والقدرة على الانطلاقة الاقتصادية في ظل نظام رأسمالي كان يرفع وقتها شعار “دعه يعمل دعه يمر”، هذا الشعار الذي داعب أحلام ملايين البشر، ثم دفع ثمنه لاحقًا الملايين أيضًا من الذين هاجروا إلى هناك سعيًا وراء هذا الحلم، ليكتشفوا بعدها واقعًا مريرًا مختلفًا تمامًا عما تصوروه.
هذا السيناريو تكرر للأسف معنا كسوريين، ومع الكثير من الشعوب الأخرى التي راودها الحلم الأوروبي، ففي السنوات الأولى لموجات اللجوء، كان الجميع يتحدث عن البيوت التي تمنح مجانًا، والمساعدات السخية التي تقدمها الدول للاجئين، والتي تضمن ما كان يوصف بـ”حياة كريمة بلا عمل”، والحريات الشخصية، والسرعة في الإجراءات، ما جعل كثيرًا من السوريين، ومن شعوب أخرى أيضًا، يتوقعون أن وصولهم إلى أوروبا يعني انتهاء جميع مشكلاتهم، وكأنهم عادوا للفردوس المفقود.
وأذكر هنا حالة مريض عربي راجع المستشفى الذي كنت أعمل به منذ عدة سنوات، كان مصابًا باكتئاب حاد، لأنه عمل لخمس سنوات بلا توقف في ليبيا كي يؤمّن ثمن الوصول إلى فرنسا، معتقدًا أن باريس هي فعلًا “جنة رخاء”، لكنه صُدم عند وصوله إلى هنا، أن إجراءات اللجوء بطيئة جدًا، والمساعدات بالكاد تؤمّن له العيش بكرامة، والحصول على عمل أمر صعب جدًا إذا لم يتعلم اللغة. كان فعلًا إنسانًا منهكًا، خسر طاقته كلها في سنوات جمع الأموال للوصول إلى أوروبا، فوجد واقعًا مختلفًا تمامًا.
هذه القصة عاشها كثير من السوريين، الذين تعرضوا لكثير من المصاعب والكوارث الحياتية، وغالبًا ما يصلون إلى أوروبا بعد استنزاف طاقتهم، فيبحثون عن الراحة والطمأنينة، ليفاجَؤوا بأن صعوبات أخرى تنتظرهم وإن كانت بشكل مختلف.
العزلة الاجتماعية
وجود الإنسان بين أناس يحبهم ويحبونه يبعث على الطمأنينة، ويعزز عمل مراكز اللذة والفرح في الدماغ. هذا الكلام مثبت طبيًا من خلال كثير من التجارب العلمية التي أجريت على مجموعات مختلفة من البشر، والتي تؤكد زيادة نشاط المراكز الدماغية المسؤولة عن السعادة، حين يكون الإنسان محاطًا بمن يحب، والعكس بالعكس، فكلما زادت عزلة الإنسان، خفّ نشاط مراكز السعادة في الدماغ، بل إن بعض الأمراض العقلية وحتى نوبات الفصام، تخفّ وتستقر بوجود محيط محب ومتفهم.
وقد شهدنا ذلك خاصة في أثناء فترة جائحة “كورونا”، حين لاحظنا انخفاض معدل القبول في المستشفيات النفسية، واستقرار الحالة العقلية لمرضانا، وانخفاض معدلات العنف والإجرام الناتج عن أسباب نفسية، وهذا عائد لوجود المريض في محيطه العائلي، بعدما كان الأهل منشغلين عنه سابقًا، وقد أدت حالات حظر التجول إلى زيادة الروابط العائلية وبالتالي تحسن الحالة النفسية، ورغم ارتفاع مستوى الخوف والقلق نتيجة الجائحة، فإن وجود أفراد العائلة معًا عوّض كل ذلك.
والمهاجر السوري غالبًا ما يعيش وحيدًا في أوروبا، بعيدًا عن عائلته ومجتمعه الذي تحطم في كثير من الحالات، وفي حالات أخرى لم يعد له وجود أصلًا، ما حرم المهاجر هذا الغطاء النفسي المهم.
نقص الضوء
هو عامل بيئي قلما ينتبه له الناس، ويهمله حتى كثير من الأطباء، وخاصة غير المختصين منهم، فنقص أشعة الشمس لها دور قوي ومباشر في انخفاض المزاج، الذي يمكن أن يصل أحيانًا لمرحلة الاكتئاب، لذلك تزداد غالبًا تلك الحالات من انخفاض المزاج، في فصل الشتاء خاصة، بمعظم أنحاء العالم، وهو ما نطلق عليه اسم الاكتئاب الموسمي.
ولأن معظم بلاد اللجوء تقع في نصف الكرة الشمالية، وبعضها تبقى لعدة أشهر بحالة برودة وشمس نادرة الظهور، يصاب معظم الناس الساكنين في تلك المناطق بحالة اكتئاب تتراوح بين الخفيفة العابرة وحتى الاكتئاب الشديد السوداوي.
وقد بدأ في كثير من البلدان استخدام أسلوب العلاج الضوئي، وهو بكل بساطة جهاز يصدر أشعة شبيهة لأشعة الشمس، يمكن أن يتعرض لها الإنسان لمدة محددة في اليوم، ما يساعد في ارتفاع المزاج الناتج عن غياب الشمس.
ولكم أن تتخيلوا من اعتاد جرعة مناسبة بل وكبيرة من الشمس الموجودة في بلادنا، كيف ستكون حالته النفسية لو انتقل للعيش في شمالي النرويج مثلًا أو شمالي كندا، أو حتى بعض مدن السويد والدنمارك، وهذا أيضًا يفسر زيادة نسبة الاكتئاب عند السوريين الساكنين في تلك المناطق مقارنة بالسوريين الذين يسكنون في الأردن مثلًا أو مصر، رغم الاستقرار النسبي الذي يعيشه السوريون المهاجرون إلى الشمال، لكنّ للحرمان من الشمس دورًا أكبر حتى من الاستقرار ذاته (وهنا أتحدث عن الحالة النفسية فقط، وليس عن الحالة العامة، التي تبقى بالتأكيد أفضل في دول الشمال).
هذه بعض العوامل (ضمن عوامل أخرى بالطبع، سنتحدث عنها لاحقًا) التي أدت إلى ما نحن فيه الآن، لكن هذا لا يعني أن المرض النفسي طريق حتمي لكل مهاجر أو مبعد، فهناك عوامل كثيرة أيضًا مساعدة على الاستقرار النفسي، وقبول وعيش تلك التجربة بكل طمأنينة وراحة بال، وهنا دور المعالج أو الطبيب النفسي في تصحيح مسار الإنسان التائه ومساعدته على التغلب على تلك الصعوبات، وهذا ليس بالأمر المستحيل، لكن أحيانًا نحتاج إلى من يرشدنا.