استباحة السوريين

  • 2024/09/29
  • 1:30 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

في منطقة غازي عثمان باشا باسطنبول التركية، ترجل أحدهم عن دراجته النارية التي يمتطيها بصحبة شريك له، واتجه نحو الطفل عبد اللطيف دوارة الذي كان أصيب بطلقتين في رشقة نارية، الأولى صدرت عن أحد الراكبَين، استهدفت مجموعة أطفال سوريين يلعبون في حديقة بالمنطقة، حيث فر الأطفال التماسًا للأمان، بينما لم يتمكن الطفل المصاب من ذلك فأجهز عليه القاتل بطلقتين أخريين أنهتا حياته، بينما لاذ المجرمون المقنّعون بخوذ الدراجين بالفرار قبل أن يتم ضبط اثنين من أصل خمسة، تبين أنهم ضالعون بالجريمة.

إلى ماذا تؤشر هذه الجريمة المتعمدة، وما الرسالة التي أراد الفاعلون إرسالها للاجئين، ولماذا كان شعور هؤلاء المجرمين بالأمان عاليًا وهم يرتكبون جريمتهم؟ أسئلة لا بد من إثارتها ووضعها على طاولة أصحاب القرار علّها تجد مساحة وقت لمعالجة أسبابها والاستجابة لما تقتضيه موجبات مواجهة السلوك العنصري، الذي قاد تركيا هذا العام لتصنف كأسوأ بلد في العالم بتعامله مع السياح.

قد تكون دوافع الجريمة وأسبابها جنائية صرفة، وقد تكون انتقامية، لكن في جميع الأحوال منسوب الاستباحة عادة ما يكون مرتفعًا عندما يكون الهدف لاجئًا سوريًا، وهو ما يجعل لكل الجرائم المرتكبة بحق سوريين بعدًا عنصريًا، مهما حاولنا مواراته أو المواربة في تأويله.

في مدينة غازي عينتاب التركية أيضًا، وقبل شهر، أطلقت مجموعة عنصرية تركية على منصة “تلجرام” دعوة للاعتداء على طالب سوري في المرحلة المتوسطة، بعد أن نشرت صورته وعنوانه المفصل، ما أوجب على القوات الأمنية فرض حالة حماية للطالب المستهدف.

كل الجرائم والاعتداءات الجماعية على اللاجئين سوريين تكون شحنة العنصرية فيها عالية الوتيرة، وما إن تحصل واقعة جرمية ما مجهولة الفاعل، حتى تجد فورًا من ينسبها للاجئ سوري، ليهيج الجموع الذين تعمى بصائرهم ويجتاحون أماكن عمل أو سكن السوريين مستبيحين ممتلكاتهم وحيواتهم، وفي معظم تلك الحالات تكون استجابة قوات إنفاذ القانون بطيئة وخجولة تخلو من الجدية والعزيمة على ضبط الحالة ووضع حد حاسم للمعتدين.

حصل ذلك في قيصري وقبلها في أنقرة وأضنة وغيرهما، بينما تكون الاستجابة الأمنية في أعلى مستوياتها عندما يتعلق الأمر بغير السوريين، فواقعتا الاعتداء على سائح كويتي في مدينة طرابزون قبل عام، وتهديد مواطن تركي لسائحين سعوديين في اسطنبول قبل شهرين والتلويح لهما بسكين، أوضح مثال على ذلك، إذ اعتقل الجناة خلال ساعات وأحيلا للقضاء.

لنقر أولًا أن ثمة عنصرية كامنة لدى قطاع من المجتمع التركي تجاه العرب عمومًا، لأسباب تاريخية، ولقراءتهم الحولاء لوقائع التاريخ التي أسست لتلك العنصرية، ولنقر أيضًا أن اللاجئين السوريين في تركيا تم استخدامهم كإسفنجة لامتصاص شحنات الغضب المجتمعي التي تسببت بها السياسات والصراعات الحزبية والانتخابية، وعندما طفحت تلك الإسفنجة وفقدت قدرتها على الامتصاص صار السوريون ككيس الرمل المعلق في حلبات تدريب الملاكمين، ومع الأسف فقد عززت السياسات التضييقية المتبعة بشأن اللاجئين هذا التصور لدى بعضهم، وبدؤوا يتصرفون مع الأمر على هذا الأساس.

قبل سنتين ونصف عنونتُ أحد مقالاتي بهذا الشأن بعبارة “الفاشيون قادمون”، حاولت فيه لفت النظر إلى خطورة تحول خطاب الكراهية والنبذ للاجئين وانتقاله إلى عتبات جديدة ستكون مقترنة بالعنف الأعمى، خصوصًا أنه سبق ذلك موجة من الاعتداءات هنا وهناك، أسفر بعضها عن وقوع ضحايا فقدوا حياتهم لأنهم سوريون لا أكثر، وقد أثبتت موقعة “قيصري” صحة تلك القراءة.

لا أحاول تضخيم الواقعة الأخيرة لمقتل الطفل السوري وأخذها خارج سياقها الجنائي ربما، رغم سوئها وبشاعة مؤشراتها، لكنها مدخل ومؤشر لإعادة الحديث عما يتعرض له السوريون من مخاطر، وعما يجب على السلطات المسؤولة عن حمايتهم اتخاذه من إجراءات بهذا الشأن، بدلًا من انشغالها بالإعلان عن إحصائية شهرية لتعدادهم وكم غادر منهم ومن لم يغادر، حتى صارت سياسة الحكومة كلها مسكونة ومهجوسة بفكرة إعادة اللاجئين إلى بلدهم، رغم إدراكهم أن إعادة هؤلاء قبل وجود حل سياسي شامل، هو بمثابة إرسالهم إلى المقبرة.

وإلى أن يحين أوان هذا الحل المأمول سيبقى هناك لاجئون في تركيا، وستبقى هناك مسؤولية ملقاة على حكومتها أولًا، وهي حماية هؤلاء اللاجئين والانشغال أكثر بتوفير بيئة آمنة وطمأنينة واستقرار لهم بدل استهلاك الوقت في اجتراح مزيد من قرارات وإجراءات التضييق عليهم. وكذلك هناك مسؤولية أخرى ملقاة على عاتق المنظمات والنقابات والجمعيات الأهلية والفعاليات المجتمعية، أن ثمة دورًا تأخّر بعضها عن القيام به وتلكأ بعضها الآخر، وهو تفكيك خطاب الكراهية والسلوك العنصري بوصفه عملًا ذا أولوية مجتمعية وقيمية قبل كل شيء، ليس لحماية اللاجئين فحسب، بل لتحصين المجتمع التركي نفسه من الانزلاق نحو هوة التطرف الذي يمثل أنجع الوصفات لتدمير الدول والمجتمعات.

هل من مصطلح غير “الاستباحة” لتفسير سلوك الجاني الذي قرر أن يترجل عن دراجته ويتوجه لضحيته ليجهز عليه برصاصتين أخريين عندما أدرك أن الرشقة الأولى لم تكن كافية لقتله!

 

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي