تحت ضغط الحاجة ودون حماية
نساء يمتهنّ “العتالة” في القامشلي
عنب بلدي – ربا عباس
تحمل هلا الحمد، وهي شابة في الـ20 من عمرها، من سكان ريف مدينة القامشلي في سوريا، “طرد” مياه معدنية من سيارة شحن “إنتر” لتدخله بخطوات متثاقلة أنهكها تعب ساعات النهار إلى مستودعِ يزدحم بـ”طرود” المواد الغذائية، في عمل تداوم عليه منذ سبع سنوات، قائلة إن الحاجة دفعتها إلى ذلك.
تمسح هلا جبهتها المتعرقة، وبلهجتها المحلية تصف لعنب بلدي حياتها بقولها، “فتحت عيوني على اليتم والمشاكل، والانتقال بين الخيام والسكن المتهالك”، وهو ما دفعها “لأي شغل” يؤمّن احتياجات عائلتها.
قالت الشابة إنها تقف على قدميها لساعات طويلة وتحمل مواد مع صديقاتها بمعدل سيارتي شحن يوميًا، ما عدا الطلبات الخارجية، وبعض الأوزان التي يحملنها تصل إلى 25 كيلوغرامًا، وفي بعض الحالات يضطررن لصعود الأدراج محملات بهذه الأثقال.
“في بعض المرات أشعر أن ظهري مكسور”، قالت هلا، فمنذ عامين ذهبت إلى المستشفى “الوطني”، وتبين أنها مصابة بشرخ في الظهر.
دفعت 200 ألف ليرة سورية في المستشفى، وهو ما يعادل أجرتها اليومية لأسبوع كامل، وطُلب منها ترك العمل والراحة في المنزل، وبالفعل توقفت لمدة شهرين، أضافت هلا.
عادت الشابة للعمل الذي اعتادته لأنها مجبرة، ولأن صاحب العمل “إنسان جيد”، ولأن العتالة تعود عليها بمردود “يسعف الوضع ولا يتداركه”، إذ إنها تتقاضى في اليوم 40 ألف ليرة سورية (2.7 دولار أمريكي)، وفي حال رغبت في شراء بعض الخضراوات والخبز، تذهب الأجرة اليومية بعد ساعة من تسلمها.
بدأ شقاء هلا منذ عشر سنوات حين توفي والدها، وكان أصغر أخ لها لا يتجاوز العامين من العمر، لذلك عملت حين كانت تقطن في درعا بالزراعة لمدة خمس سنوات، وعندما بلغت الـ13 من العمر، عادت إلى مدينة القامشلي، لتبدأ العمل بالتحميل والتنزيل (العتالة) واستمرت به حتى الآن.
لا تزال الفتاة التي تعمل في العتالة، تحلم بأن تكون قادرة على عيش حياة كريمة لا تحتاج فيها إلى أحد.
“أُعتل لأعيل أطفالي”
على الطرف الآخر من المستودع، تضع امرأة ثلاثينية “لطمة” (لثام على الوجه)، وتجلس فوق أكياس مكدّسة من السكر لترتاح من عملها الشاق طوال النهار.
قالت “عذاري” (36 عامًا)، اسم مستعار، إنها تسكن أحد منازل القامشلي غير مكتملة التجهيز، إذ استعاضت عائلة أخيها التي تقيم معها عن الأبواب والنوافذ بالقماش والنايلون.
ذكرت “عذاري” أنها انفصلت عن زوجها قبل حوالي خمس سنوات، وكانت قد تزوجت في الـ14 من العمر ولديها خمسة أبناء.
أضافت المرأة ذات الملامح المتعبة التي صبغتها شمس الصيف بالسمرة، أنها رضخت للأمر الواقع، وتعمل في العتالة لرغبتها بشراء الاحتياجات لأولادها.
ورغم تحمل الثلاثينية مشقة العمل وثقل البضائع، فإنها تقر بأنها في بعض المرات تكون غير قادرة على شراء الملابس إلا لاثنين من أطفالها، نظرًا إلى ارتفاع أسعارها بشكل جنوني.
“حبالي الصوتية متضررة وأحتاج لإجراء عملية جراحية”، اشتكت السيدة عدم وجود من يساعدها، ما يضطرها لأي عمل، وبصوت مبحوح قالت، “تعبت من البكاء والشكوى، ولا أحد ينظر لحالتي”.
ضرر “هبوط الرحم”
منذ سنوات، زادت ظاهرة مزاولة النساء الأعمال الشاقة في مدينة القامشلي، وأصبح من المعتاد مشاهدة عشرات الفتيات يقمن بتفريغ شاحنات مليئة بمختلف أنواع السلع الغذائية، تعود ملكيتها لتجار جملة، في أعمال لا تناسب جسد المرأة وتلحق الضرر بصحتها.
الطبيبة النسائية مريم العلي، قالت لعنب بلدي، إن رفع الأشياء الثقيلة بصورة متكررة قد يؤدي إلى هبوط الرحم، فأي ضغط على عضلات الحوض التي تدعم الرحم قد يتسبب بنزوله إلى الأسفل.
وأضافت أن حمل الأشياء الثقيلة يمكن أن يسبب إجهادًا للعضلات التي تدعم أسفل الظهر، إذ يمكن أن يسبب ذلك شدًا عضليًا في عضلات أسفل الظهر، وقد يحصل تمزق خفيف في الألياف العضلية، خاصة إذا كان الجهد على أسفل الظهر كبيرًا.
ولا تنصح الطبيبة النساء عمومًا بالعمل في رفع الأثقال أو حمل الأشياء الثقيلة بشكل دائم، لأن لجسد المرأة العديد من التغييرات التي يمكن أن تؤثر على الحمل والولادة في المستقبل.
دعوات لحماية المرأة العاملة
لا يوجد حتى الآن، في شمال شرقي سوريا عمومًا وبمدينة القامشلي خصوصًا، نقابة عمالية نسائية، وليس للنساء العاملات أي بطاقات صحية أو حتى إجراءات يمكن أن تخفف تكلفة العلاج عليهن، إذ لا مركز للشكوى في حال تعرضن للاستغلال، رغم انتشار النقابات والتجمعات المدافعة عن حقوق المرأة بشكل كبير.
وحاولت بعض الجمعيات الخيرية إيجاد بدائل لعمل النساء في المهن الشاقة، وافتتحت ورشات لتعليم فن الخياطة النسائية، وإنشاء مشغل صغير، تؤمّن له المواد الأولية من الأقمشة والخيوط، لإنتاج الملابس التي يتم بيعها في السوق المحلية أو لمخيمات اللاجئين، ويعود قسم من المبيعات لمصلحة العاملات في الورشة، لكن تلك الورشات تبقى “غير كافية” لتحقيق مردود جيد للأسرة.
الناشطة النسوية والإعلامية أفين يوسف، قالت لعنب بلدي، إن المهن كالعتالة لا تناسب المرأة لا جسديًا ولا اجتماعيًا ولا صحيًا، ورغم أن الدراسات أثبتت تحمل المرأة الضغط أكثر من الرجل، فإن هذا ليس صحيًا، لأن خصوصيتها تبقى ثابتة.
وذكرت الناشطة أن سوريا تشهد حالة اقتصادية متدهورة نتيجة النزاع منذ 13 عامًا، وانخفاض العملة المحلية مقارنة بالعملات الأجنبية، وازدياد معدلات الفقر، الأمر الذي دفع بمعظم أفراد الأسرة للعمل، ومن ضمنهم النساء.
وتجد الناشطة النسوية أن الحل لهذه المشكلة التي تتفاقم هو بإنهاء الصراع السوري لإعادة الاستقرار الاقتصادي، مضيفة أن ما يجبر هؤلاء النسوة على العمل فوق طاقتهن هو الحاجة.
ودعت أفين الناشطين والعاملين في مجال حماية المرأة ومؤسسات المجتمع المدني إلى التوعية، ومحاولة الضغط على السلطات لوضع قوانين لحماية المرأة العاملة، وخاصة في القطاع الخاص، وحفظ حقوقها وتطبيقها على أرض الواقع، وأن تتساوى الأجور بين الجنسين، إضافة إلى تكثيف الدورات التدريبية المهنية التي من شأنها توفير فرص عمل لأكبر عدد من النساء.
هل يحميها القانون؟
المحامية طرفة محمد مستو، قالت لعنب بلدي، إن أي عامل أو عاملة تتعرض للاستغلال المادي، بإمكانها رفع دعوى قضائية في محاكم “الإدارة الذاتية”، حيث “يوجد أصول للمحاكمات في محاكم (الإدارة الذاتية) بالنسبة للدعاوى المدنية”.
وفق المحامية، على المرأة في حال تعرضها للاستغلال أن تتوجه بشكواها إلى لجنة الصلح، وتشتكي على الشخص الذي ظلمها، لتستدعي اللجنة ذلك الشخص، وتحاول حل الموضوع ورفع تقرير إلى المحكمة عن طريق هيئة التنفيذ، و”هذا التقرير يتم تصديقه هناك ليصبح بمثابة قرار قضائي ويكتسب صيغة التنفيذ”.
أما في حال عدم التوصل إلى اتفاق عند لجنة الصلح، أو حتى تخلف الجهة المشكو منها عن الحضور، ترفع لجنة الصلح تقريرها للمحكمة، وبالتالي ترفع السيدة دعوى أمام المحكمة تؤيدها بشهود ووثائق، أي يجب أن تثبت أن المشتكى عليه أخذ حقها، وفي حال حققت ذلك يتم تأخذ العدالة مجراها، وفقًا للمحامية.
وبالنسبة للضمان الصحي، أوضحت المحامية أن قانون العاملين يفرض الضمان الصحي، ولكنه غير مطبق بشكل كامل، فحتى مؤسسات “الإدارة الذاتية” لا تستفيد من ذلك، والمؤسسة الوحيدة المستفيدة هي “قوى الأمن الداخلي”.
وتأسف المحامية لعدم وجود ضمان صحي، يساعد ويضمن حقوق العامل أو العاملة في حال التعرض لأي إصابة عمل وغيرها، آملة أن يتم تطبيق عدد من القوانين على أرض الواقع، وسن قوانين ترتبط بواقع المرأة العاملة في القطاع الخاص.
ورغم تصديق “الإدارة الذاتية” على “قانون الأسرة” منذ حوالي عام، فإن عددًا قليلًا من بنوده مفعلة حتى الآن، وهي التي ترتبط بالاغتصاب وزواج القاصرات وتعدد الزوجات.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :