جالسًا على رأس طاولة تضم حكومته الجديدة، أطلق رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 25 من أيلول الحالي، مجموعة من التوصيات والتعليمات، حملت رسائل للخارج والداخل، واعترافات بالفشل في بعض جزئياتها.
وعلى مدار 25 دقيقة، مرّ حديث الأسد على مجموعة من النقاط، الاقتصادية، والحوكمية، وانتهى بهامش موجز تجاوز نصف دقيقة حول التصعيد الإسرائيلي في لبنان، وكيفية تقديم المساعدة للبنانيين، لكنه تجاهل حليفه الوثيق “حزب الله” الذي لم يأتِ على ذكره مطلقًا.
وبعد أيام، قتل زعيم “حزب الله” حسن نصر الله، بقصف إسرائيلي في ضاحية بيروت الجنوبية، فكانت المناسبة الأولى لذكر الحزب ببيان رسمي سوري، إذ أبدت وزارة الخارجية التعازي بمقتل نصر الله، وحمّلت إسرائيل مسؤولية تبعاته.
“وعود لا أحلام”
انشغل الأسد في حديثه لأكثر من خمس دقائق عما أسماه بـ”حكومة الوعود لا الأحلام”، ثم عاد لتبسيط فكرته، وشرح أنه على الحكومة ألا تقدم وعودًا لا يمكن تحقيقها.
ثم قفز للحديث عن الظروف الصعبة التي بدأت خلالها الحكومة أعمالها، واعتبر أنه من الطبيعي لأي مؤسسة عامة، أن تبدأ بتخفيف وطأة الظروف عن المواطن، معتبرًا أن ما تمر به سوريا هو “مرحلة انتقالية”.
واعتبر أنه من واجبات الحكومة ألا ترفع سقف التوقعات فوق الممكن، وألا تقدم وعودًا غير قابلة للتنفيذ.
الباحث في مركز “الحوار السوري” أحمد قربي، قلل من أهمية حديث الأسد الوعود والأحلام، معتبرًا أنها لن تُلقي أثرًا على حياة السوريين في الفترة القريبة.
وقال قربي، لعنب بلدي، إن للنظام السوري حزمة من الأساسيات غير القابلة للتنازل، فعندما يتحدث عن مرحلة انتقالية ما، قد يقصد بها أي شيء باستثناء تحسين حياة السوريين.
وأضاف أن قضية التغيير في الحكومات والوزارات هي أمر طبيعي، وسُجل حدوثه مرارًا خلال السنوات الماضية.
قربي اعتبر أن الهوامش المتاحة للنظام السوري اليوم، هي تغيير أسماء، أو تغيير مراكز وظيفية لبعض الأشخاص في الحكومة، وهو ما أكدت عليه روسيا مرارًا عندما تحدثت عن القرار الأممي “2254”، إذ ترى أنه القرار يخلص لتأسيس “حكومة وحدة وطنية”، تبقي على بشار الأسد، والمؤسسة الأمنية والعسكرية، أي الحفاظ على “البنية الصلبة”، أو “الدولة العميقة” في سوريا.
وفسّر الباحث حديث الأسد عن “مرحلة انتقالية” في ذات الإطار، إذ اعتبر أنها تغيير ببعض المقاعد والمناصب الوزارية لا أكثر، وهو ما اعتادت عليه سوريا منذ نظام الأسد الأب.
“نحن على خطأ”
أبدى الأسد اعتقاده أنه لو نظر إلى مئات من الدول سيجد أن تلك التي تتبنى منظومات مشابهة لمنظومته الحكومية، قد تكون أقل من عدد أصابع اليد الواحدة.
وأضاف، “أنا لو سُئلت، لا أذكر أية دولة تسير بهذا الاتجاه (…) لا يمكن أن تكون الأغلبية الساحقة من دول العالم بالاتجاه الخاطئ ونحن فقط بالاتجاه الصحيح، والنتائج تدل على ذلك”.
وفي اعتراف نادر، أشار رئيس النظام السوري إلى أنه يتحدث هنا عن “سياق عمره عقود من النظام الإداري والاقتصادي”، لا عن تداعيات الحرب.
واعتبر أن رفض التغيير على مدار عقود، أدى إلى نتيجة واحدة، أن الحكومات المتعاقبة اتبعت “سياسة الترقيع لا سياسة التغيير”، ضاربًا مثلًا بقطعة قماش مهترئة ستتلف في نهاية المطاف، مهما خضعت لعمليات ترقيع.
يرى مدير البرنامج السوري في “مرصد الشبكات السياسية والاقتصادية”، والدكتور في الاقتصاد، كرم شعار، أن حديث رئيس النظام عن الأخطاء البنيوية في مؤسساته مرتبط أيضًا بحديثه عن أن “المؤسسات الاقتصادية يجب أن تكون مؤسسات رابحة”.
وأضاف لعنب بلدي أن هذا الحديث قد يحمل مؤشرات على أن الحكومة ستتوجه مستقبلًا للتشديد على سياسات الدعم.
ما يحاول الأسد قوله للحكومة هو: “توجهوا باتجاه رفع الدعم، وحوّلوا المؤسسات الاقتصادية إلى مؤسسات تسعى للربح قدر الإمكان”، بحسب شعار.
وأشار إلى أن هذا السيناريو لُمس خلال السنوات الماضية، في عهد الحكومة السابقة، عندما توجهت لإيقاف الخدمات الطبية المجانية للجميع، وتحويلها لمجانية جزئيًا لبعض فئات المجتمع.
ورجّح شعار أن الحكومة الجديدة قد تسير بشكل أسرع نحو تحويل الدعم الحكومي إلى دعم مالي بدل أن تكون مصبوبة في خفض أسعار بعض الخدمات، وتشمل فئات من المجتمع يعتبرها النظام، وفق تقييمه، أكثر حاجة.
وفي معرض حديثه عن السياسيات الاقتصادية، قال الأسد إن المؤسسة الاقتصادية تعني شيئًا واحدًا، هي أنها “أُسست لكي تربح”، بالتالي لا توجد مؤسسة اقتصادية أُسست لتخسر، معتبرًا أنه في سوريا تؤسس المؤسسة الاقتصادية، لكن من خلال السياسية المتبعة فيها تصبح خاسرة.
التطبيع لن ينعكس اقتصاديًا
عرّج الأسد خلال حديثه الموجه للحكومة الجديدة على ما أسماه “الانفتاح”، ويقصد به موجة التطبيع التي أطلقتها دول عربية منذ أكثر من عام، لكنه قلل من أهمية هذه الموجة على القطاع الاقتصادي، معتبرًا أنها ذات طابع سياسي فقط.
وقال، “لا نستطيع أن نعوّل كثيرًا على ما يسميه البعض الانفتاح على سوريا، الانفتاح ذو طابع سياسي لن يحمل الاقتصاد في سوريا، ليس بسبب الظروف السياسية أو الحصار أو الخوف من العقوبات الغربية، لا لا أبدًا (…) بالأساس لم يُبنَ الاقتصاد السوري في أحسن الظروف على الاستثمارات الأجنبية فهناك نوع من الوهم بهذا الإطار”.
حاول الأسد من خلال حديثه عن “الانفتاح” في معرض حديثه عن السياسيات الاقتصادية الحكومية، رفع سقف ما هو متوقع من الحكومة الجديدة، وفق ما يراه الدكتور في العلوم الاقتصادية، كرم شعار.
وأضاف أن حديثه عن تأثير التطبيع اقتصاديًا، يحمل رسالة خارجية أيضًا مفادها: “نحن لسنا على عجالة”.
من جانبه، يرى الدكتور أحمد قربي أن هذا التعليق يحمل رسالتين: الأولى لحاضنته الشعبية يقول فيها: “لا تعوّلوا كثيرًا على المرحلة الحالية لجلب تحسن اقتصادي، خصوصًا مع إعادة فتح عدد من السفارات في دمشق بعد إغلاقها لأكثر من عشر سنوات”.
ويعي النظام أن التماس تحسّن اقتصادي هو أكبر من قدرة الدول المطبّعة معه، وفق الباحث، فحتى لو أرادت هذه الدول المساعدة اقتصاديًا، فهي غير قادرة، نتيجة للخسائر “الضخمة” التي مُنيت بها مؤسسات النظام.
قربي قال أيضًا إن تطرق الأسد لعلاقته مع العرب في هذا السياق قد يدل على أنه مستمر باعتماد سياسة “اقتصاد الحرب” التي هي بطبيعة الحال غير شرعية، ومنها تجارة المخدرات، وتجارة البشر، والترفيق، وتجارة الأعضاء، وهي قضايا تشكل مشكلات بالنسبة لدول عديدة، لكن مع ذلك ستبقى موجودة في ظل التوجه الحالي.
تجاهل “حزب الله”
وفي الثواني الأخيرة من حديثه، تطرق رئيس النظام للملف الأكثر سخونة في المنطقة (لبنان) وقال، “شاءت الأقدار والظروف أن تبدؤوا عملكم اليوم في ظل الهجمة الشرسة للصهاينة على أشقائنا في لبنان (…) مع الساعات الأولى لعملكم يجب أن يكون العنوان الأساسي الآن هو كيف يمكن أن نقف مع أشقائنا في لبنان في كل المجالات والقطاعات”.
الثواني التي أمضاها الأسد في الحديث عما يحدث في لبنان، وصف فيها كالمعتاد، الهجمات الإسرائيلية بـ”الجرائم التي لا يمكن وصفها”، موعزًا بتقديم المساعدة للبنانيين على الأصعدة كافة، لكنه ختم حديثه دون ذكر شريكه المدعوم من قبل إيران، “حزب الله” اللبناني، الذي يتلقى الضربات الإسرائيلية بشكل أساسي.
اقرأ أيضًا: سوريون تائهون في لبنان تحت ضربات إسرائيل
الباحث اللبناني المشارك في مشروع “زمن الحرب وما بعد الصراع في سوريا” جوزيف ضاهر، قال لعنب بلدي إن تقاعس النظام عن دعم “حزب الله” ليس مفاجئًا، فرغم أنه أعلن تضامنه مع الفلسطينيين واللبنانيين في كلا الحربين منذ نحو عام، لم يبد أي اهتمام أو قدرة على المشاركة بشكل مباشر في الانخراط بأي منهما، وبأي شكل من الأشكال.
وأضاف الباحث، أنه على الرغم من معاناة النظام إثر الهجمات الإسرائيلية المستمرة في سوريا، لم يبد أي رد فعل تصعيدي، معتبرًا أن هذه الآلية تتماشى تاريخيًا مع سياسة النظام منذ عام 1974 التي تصب في محاولة تجنب أي مواجهة كبيرة ومباشرة مع إسرائيل من سوريا.
ولفت ضاهر إلى أن الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، صرح في خطاب ألقاه بعد تشرين الأول 2023، أن “محور المقاومة” لا يستطيع أن يطلب أي شيء من دمشق لأنها عانت كثيرًا نتيجة الحرب.
وأضاف أنه علاوة على ما سبق، لا مصلحة لإيران ولا لـ”حزب الله” في رؤية النظام السوري يضعف أكثر من خلال مواجهة عسكرية أكبر ضد إسرائيل، لكن ومع ذلك، تظل الأراضي السورية مهمة لنقل الرجال والمعدات العسكرية بين “حزب الله”، وإيران.
ولم يستبعد الباحث أن يكون تقاعس النظام عن دعم “حزب الله” وسيلة لإظهار استعداد للدول الغربية ودول الخليج للبقاء خارج الحرب من باب الاعتدال في مواقفها، من أجل السعي إلى التقارب مع هؤلاء الأطراف.
وكانت الإمارات حذّرت دمشق في بداية الحرب من التدخل في الحرب أو السماح بشن هجمات على إسرائيل من الأراضي السورية، بحسب مصدرين مطلعين على الجهود الدبلوماسية الإماراتية، أوردها موقع “أكسيوس” الأمريكي، نهاية العام الماضي.
نأي بالنفس
غياب ذكر “حزب الله” عن حديث بشار الأسد خلال خطابه الأخير للحكومة، رغم أن هذا الملف يعتبر الأكثر سخونة في المنطقة حاليًا، يذكر بالتعاطي نفسه مع الأحداث في غزة، التي اندلعت منذ نحو عام، إذ واظب الخطاب الحكومي السوري على دعم غزة، لكنه لم يشر ولا لمرة واحدة لـ”حركة المقاومة الإسلامية” (حماس).
وفي حين يبدو موقف الأسد من “حماس” مبررًا كون علاقته مع الأخيرة شهدت توترًا خلال السنوات الماضية، بسبب دعمها للثورة السورية المناهضة له عام 2011، لا يحمل موقفه من “حزب الله” الطبيعة نفسها، خصوصًا أن الأخير كان من أوائل المتدخلين دعمًا له في سوريا منذ اندلاع أولى الاحتجاجات.
وشغل “حزب الله” جبهات قتال عديدة في سوريا، وكان داعمًا عسكريًا للنظام في معظم المعارك والعمليات العسكرية واسعة النطاق التي شهدتها الجغرافيا السورية.
الباحث السياسي ومدير الأبحاث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلاع، يرى أن الأسد يحاول النأي بنفسه عما يحصل في محيطه من خلال إبداء موقف دون إبداء دعم.
وقال طلاع، لعنب بلدي، إن النظام يحاول حصر المشهد اليوم، بقواعد الاشتباك المعهودة بينه وبين إسرائيل منذ سنوات، وهو حريص جدًا على إيصال رسائل تحمل هذا المشهد لجميع الأطراف.
وأضاف الباحث أن هناك أمرًا روسيًا للنظام بعدم الانجرار وراء غايات إيران، لأن ذلك قد يعزز من خسارة روسيا لمكتسباتها لا سيما في ظل انشغالها بالملف الأوكراني، ودوافع النظام السوري اليوم للاستفادة من الانفتاح السياسي عليه.
ولفت طلاع إلى أن هذه الآلية لن تجنب الأسد الخوض في التحديات المحيطة به، إذ اعتبر أن النظام مضطر لخوض تحديات كبيرة، لا سيما في مقاومة ما تريده إيران التي تنظر للنظام و”حزب الله” على أنهما أدوات تتحكم بها لتدير شروط تفاوضها مع الغرب والولايات المتحدة.
خطابات أمام الحكومة
في 16 من نيسان 2011، مع بداية موجة الاحتجاجات المناهضة للنظام السوري، خرج بشار الأسد أمام الحكومة ليوجه برفع “حالة الطوارئ” التي فرضت في البلاد منذ عهد الأسد الأب، وكانت محط انتقاد المحتجين في مختلف المدن السورية.
ورغم أن الأسد رفع “حالة الطوارئ” خلال الجلسة نفسها، لكن الطريقة المعمول بها في التعامل مع الشأن الداخلي لم يختلف عما كان عليه قبل رفع “الحالة”.
وفي 16 من أيلول 2018، خرج الأسد أيضًا بخطاب أمام الحكومة مجددًا، ركز خطابه على “الواسطة” (المحسوبيات)، وقال حينها، “يجب أن نحسم موضوع الواسطة، لا نريد أن نسمع أن وزيرًا تواسط لأحد ما، سواء عبره، أو عبر أحد معارفه”، ودعا حينها للحفاظ على “هيبة الدولة”.
ومع مرور الوقت، لم تلق حالة المحسوبيات والواسطات تراجعًا في المعاملات الحكومية، حتى اليوم.
في العام نفسه، عُيّن وزراء جدد في الحكومة، فخرج الأسد للحديث عن “تحرير مناطق جديدة، ودوران عجلة الاقتصاد، وعودة الخدمات، وتراجع الفساد”.
ووفق تصنيف منظمة “غلوبال ريسك” لعام 2024، المتخصصة في خدمات إدارة المخاطر، تتصدر سوريا قائمة الدول الأكثر فسادًا في العالم.
وفي 14 من آب 2021، عاد الأسد ليترأس اجتماع الحكومة المعيّنة حديثًا، وكانت حينها المرة الأولى التي تشكلّت ملامح حديثه عن “تقديم وعود واقعية”.
وأضاف، “بالنسبة للحكومة، لا يجب أن نعود بالأوضاع إلى ما كانت عليه من قبل، بل يجب أن نذهب بها إلى حيث يجب أن تكون”.